بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في عصرٍ غلبت فيه عواصفُ المادةِ على سكونِ الروح، وتقدَّمتْ فيه المصالحُ الفرديةُ على الودِّ والمحبةِ، ظهرَتْ خصلةٌ ذميمةٌ تهدمُ أركانَ المجتمعاتِ، وتُشعلُ نارَ الضغينةِ في الصدور؛ إنها الغلظةُ في التعامل، تلكَ الآفةُ التي تُجرِّدُ المرءَ من أسمى سماتِ الإنسانيةِ: الرأفة. فكم من كلمةٍ فظةٍ شقَّتْ طريقَها إلى قلبٍ كانَ يرجو الأمان، وكم من تصرُّفٍ قاسٍ أورثَ غصَّةً لم يمحُها طولُ الزمان! لقد باتَ هذا السلوكُ المشينُ مألوفًا في بيئاتِ العمل، وفي العلاقاتِ الأسريةِ، حتى خِفْتَ أن يصبحَ الجفاءُ هو الأصلَ، واللينُ هو الاستثناءَ، لكنَّ ميزانَ الحقِّ في شريعتنا لا يقبلُ هذا الانحدارَ أبدًا.
لقد قامتْ تعاليمُ دينِنا الحنيفِ على بناءِ الإنسانِ ذي الخلقِ الرفيع، ولم تجعلْ إقامةَ الشعائرِ وحدها كافيةً للفوزِ، بل ربطتْ ذلكَ بالإحسانِ في التعاملِ مع الخلقِ كافَّةً.
قالَ اللهُ تعالى، واصفًا عبادَه الذين ارتضاهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وهذا الوصفُ القرآنيُّ البديعُ يرسُمُ لنا صورةَ المؤمنِ المُتَّزِنِ، الذي يتَّسمُ بالسكينةِ والتواضعِ في مِشْيتِه، وبالحكمةِ والتغاضي في خِطابِه، حتى معَ من جهلَ أو أساءَ، فكأنّ هذا الخلقَ هو العلامةُ الفارقةُ لعبادِ اللهِ الصالحين.
وقد أمرَ اللهُ نبيَّهُ موسى وأخاهُ هارونَ عليهما السلامُ بلينِ القولِ حتى معَ أشدِّ الطغاةِ كُفرًا، وهو فرعون، فقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. إنها رسالةٌ إلهيةٌ واضحةٌ بأنَّ اللينَ هوَ المدخلُ إلى القلوبِ مهما قسَتْ، وأن الغلظةَ لا تزيدُ الظالمَ إلا تماديًا. فكيفَ يليقُ بالمسلمِ أن يُعاملَ إخوانَهُ أو من حولَهُ بشدَّةٍ وجفاءٍ، وقد أُمرنا باللينِ معَ من تحدَّى الألوهيةَ؟! ولقد امتنَّ اللهُ على رسولهِ الكريمِ بصفةِ الرأفةِ والرحمةِ، وجعلها سببًا لالتفافِ الناسِ حولَه، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
جسَّدَ سيدُ الخلقِ نبينا ﷺ حُسنَ المعاملةِ في أدقِّ التفاصيلِ، فلم يكنْ فاحشًا ولا مُتفحِّشًا، ولا سبّابًا ولا لعَّانًا، بل كانتْ الرحمةُ سِمتَهُ حتى في أشدِّ المواقفِ. ولقد وضعَ لنا معيارًا دقيقًا لوزنِ الأعمالِ يومَ القيامةِ، معيارًا لا يغفلُ عنهُ إلا القليلُ. ففي الحديثِ الذي رواهُ الترمذيُّ وصحَّحهُ: "ما شيءٌ أثقلُ في ميزانِ العبدِ يومَ القيامةِ من حُسنِ الخُلقِ". وهذا يضعُ حُسنَ الخُلقِ في مرتبةٍ عظيمةٍ تتجاوزُ كثيرًا من مظاهرِ العبادةِ؛ لأنَّ حُسنَ الخُلقِ عبادةٌ تتعدَّى نفعُها إلى الآخرين.
وفي تحذيرٍ نبويٍّ لمنْ وُلِّيَ أمرًا، شدَّدَ ﷺ على الرأفةِ بالرعية، فقال: "اللَّهمَّ من وليَ من أمرِ أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليهِ، ومن وليَ من أمرِ أمَّتي شيئًا فرفقَ بهم فارفُقْ بهِ" [رواه مسلم].
فكلُّ من وُضِعَتْ تحتَ يدهِ مسؤوليةٌ، من أبٍ في أسرته، إلى قائدٍ في مؤسسته، هو مُحاسَبٌ أمامَ اللهِ على كيفيةِ تعاملهِ ورفقهِ أو قسوتِه. ومن أشكالِ القسوةِ التي تُدمي القلوبَ، الإيذاءُ باللسان؛ فقد سُئلَ النبيُّ ﷺ عن امرأةٍ تصومُ وتُصلي وتتصدق، غيرَ أنها تُؤذي جيرانَها بلسانِها، فقالَ بكلِّ وضوحٍ: "هيَ في النَّارِ" [رواه أحمد].
تتجلَّى سوءَ المعاملةِ في صورٍ عدَّة، منها ما هوَ ظاهرٌ وملموس، ومنها ما هوَ خفيٌّ لا يُدركُه إلا صاحبُ القلبِ المرهف. نراها في:
سوءُ الظنِّ والتجسُّس: حينَ يستبيحُ المرءُ ظنَّ السوءِ بإخوانه، ويتقفَّى عوراتِهم، مُخالفًا قولَ ربّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
الإذلالُ والاستكبار: حينَ يتعالى صاحبُ الجاهِ أو المالِ على من هو دونه، ناسيًا أن الكبرَ رداءُ اللهِ، وأنَّ التواضعَ هوَ سبيلُ الرفعةِ الحقيقية.
التعنيفُ اللفظيُّ في البيوت: سواءً كانَ للأبناءِ بغيرِ وجهِ حقٍّ يُصلِح، أو للزوجةِ التي أمرَ النبيُّ بالإحسانِ إليها في كلِّ حالٍ، محذرًا من ضربِها أو إهانتِها.
وقد كانَ السلفُ الصالحُ يجسِّدونَ أرقى معاني التسامحِ والأناةِ. كانوا يُدركونَ أنَّ أعظمَ الجهادِ هو جهادُ النفسِ على العفوِ عندَ المقدرة. وقد قيلَ للإمامِ أحمد بن حنبلٍ رحمه الله: *كيف نالَ العلماءُ تلكَ المرتبة؟ فقال: بالتَّواضُعِ ولِينِ الجانبِ*.
وكانَ عمرُ بن عبدالعزيز رضي الله عنه مثالًا للحاكمِ الرحيمِ؛ فكانَ إذا غضبَ على أحدٍ سكتَ، واستغفرَ، وغيَّرَ مكانَه؛ لئلا يغلبهُ الغضبُ على قولِ الحقِّ أو فعلِ الإساءة. لقد أدركوا أنَّ حقيقةَ القوةِ ليستْ في الانتصارِ للذات، بل في الإحسانِ إليها بترويضِها على الخُلقِ الجميلِ.
إنَّ سوءَ المعاملةِ ما هوَ إلا حِجابٌ بينَ العبدِ وربِّه، وفتقٌ في نسيجِ العلاقةِ بينَ المرءِ وأخيه. إنَّ إصلاحَ المجتمعِ يبدأُ من إصلاحِ القلوبِ والتحلِّي بآدابِ الشرعِ الرفيعة. ولن ينالَ محبةَ اللهِ وثناءَ الناسِ من كانَ فظًا غليظًا، بل ينالُها السهلُ الهيِّنُ اللينُ، الذي يألَفُ ويُؤلَف، وتذكَّرْ دائمًا أنَّ الجزاءَ من جنسِ العمل، وصدقَ اللهُ العظيمُ إذ قالَ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. فلنتحلَّ بالرفقِ، فهو خيرُ لباسٍ تلبسُه الروحُ في هذهِ الدنيا، ولنجعلْ من أخلاقِنا حجةً لنا لا علينا.