بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هناك في مسقط الرأس بدأت أحلامنا، حيث درجت علي أرضها أقدامنا، ونشأنا هناك مع أقراننا، وعشنا بكل الحب والإخلاص حياتنا، وترعرعت صداقتنا.
والصداقة لمن لا يعرفها هي علاقة تُعرّف بالوفاء في السراء والضراء، وهي كنز لا يقدّر بثمن، كنز يضاعف السعادة ويقلل الحزن. الصديق الحقيقي هو من يفهمك دون حروف، ويعرفك دون كلمات، ويقدرك دون مجاملات، ويقف بجانبك عندما يبتعد الآخرون، ويمنحك عندما يمنعك الآخرون، الصداقة هي رحلة نتعلم فيها من بعضنا البعض، ونتعاون فيها مع بعضنا البعض، وتبقى ذكرياتها خالدة في الذاكرة ما حيينا واذا ارتحلنا ….
هناك في قرية أبو كبارية، ابوحمص بحيرة، المكان الغالي على قلوبنا، الكائن في صدورنا، الراسخ في عقولنا، صديق عزيز، قابلته على فترات متباعدة، كان دوما على سفر، قضي ثلثي حياته في الغربة، من أجل أن يؤمن مستقبلا معقولا لأولاده، كنت معه في فترات محدودة، ومرات معدودة، لكنه سكن قلبي بابتسامته المعهودة، وطلته المنشودة، وحضوره المُلهم، وقبوله المُعلم، الحاج احمد عيسى (ابو عمر)، خفيف الظل، نظيف القلب، حسن الخلق، طيب الروح، عالي القدر، لطيف الحديث، نحسبه كذلك ولانزكيه على خالقه، كلما اتذكره أبتسم مرة وأبكي ألف مرة، ابتسم لابتسامته الحاضرة في القلب، وتبكي لفراقه، فاليوم يوارى الثرى، فلم ولن نقابله في الدنيا بعد.
رحمك الله يا أخي العزيز، تفاصيل وجهك الطيّب، ضحكاتك، أيامك، افعالك، أقوالك، خفّة الوقت معك، وحنيتك الحنونة، كلها بقيت معنا ولم تتوسّد التراب معك، ماثلة أمامنا، حية في قلوبنا، خضراء ترفرف في حياتنا، أخي رحمك الله بقدر ما أوجعني رحيلك، رحمك الله بقدر ما أشرقت في وجوهنا بابتسامتك، رحمك الله بقدر سفرك وتعبك وشغلك بعيدا عن وطنك من أجل لقمة العيش، لا زلت أتمنى أنك على قيد الحياة، وأن وفاتك مجرد حُلم، لكنه الموت، الذي هو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وموقظ الآهات، آه لفقدك يا أخي اه، اه لفراقك اه، اه برحيلك اه، سأظل أحاورك بالدعاء لأرسم ابتسامتك وأنت عند ربك، رحمك الله وجعلك بجنات النعيم، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
عزاؤنا في قول ربنا: {وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} (سورة ق).
عزاؤنا أن الموت داهم الأنبياء، حتى الحبيب محمد رسول الله ﷺ {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون}(الأنبياء).
عزاؤنا أن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر).
عزاؤنا أنه رحل عنا في ليلة الجمعة ، وبأمر الرحمن الرحيم يكون وقي من عذاب القبر، والوقاية من عذاب القبر في حق المؤمن الميت في يوم الجمعة أو ليلتها ورد فيها حديث رواه الترمذي في سننه عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر".
قال الشيخ الألباني إنه بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن أو الصحة.
عزاؤنا في قول الله تبارك وتعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} الفجر ونحسبك من أصحاب النفوس المطمئنة.
عزاؤنا أن الموت يأتي فيحصد كل من كتب الله موتته، وحانت ساعته ، وقامت قيامته، كبيرا وصغيرا، شيبا وشبابا، قويا أو ضعيفا، بيضا وسودا، معافا أو مريضا، غنيا أو فقيرا، حاكما أو محكوما، مهندسا أو طبيبا، مدرسا أو واعظا، واليا أو نبيا، يقول ﷺ فيما رواه أنس: "من مات منكم فقد قامت قيامته".
رحماك ربي به، فأنت تعلم إخلاصه وتفانيه، تعلم إيثاره وعطاؤه، تعلم تعبه ومرضه، اجعل يارب كل ذلك في ميزانه، وعامله بالفصل لا بالعدل فأنت ولي ذلك والقادر عليه
نحن نطمع في رحمتك يارب، ونعلم أن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم وإنما يدخلونها برحمتك، كما في حديث ثابت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
وهذا لا يعني أن الأعمال ليس لها قيمة ولا تأثير في دخول الجنة، وإلا فقد قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف).
أما فقيدنا سيبقى في قلوبنا ما بقينا في هذه الدنيا.
سيبقي خالدًا في قلوبنا، ممزوجا في ارواحنا، أخي حتي وإن رحلت عن هذه الدنيا سأظل أحاورك بالدعاء لأرسم ابتسامتك في السماء، لن أنساك ما حييت، وسيبقى هذا اليوم من الأيام الصعبة في حياتنا.
وهكذا الموت، يداهم الأبواب، ويخطف الاحباب، لا يرسل إشارة فينذر، ولا يطرق بابا يستأذن، لا يوقر كبير ولا يرحم صغيرا، لا يعبأ بالأعياد ولا يعترف بالأمجاد، إنه الموت، إنها ساعة الحصاد !!
كل يوم نشيع أموات، يأتينا الموت علي مدار اليوم بل علي مدار الساعة، كم من عزيز شيعناه، وكم من حبيب فارقناه، وكم من صديق تحت الثري واريناه، فهل من عبرة؟! وهل من عظة؟!
إنها لحظات خارقة، إنها ساعات فارقة، إنها سكرات حارقة!! ترتجف منها القلوب، وتتزلزل عندها الابدان، وتنخلع لها الصدور!! تحتاج إلى إيمان ثابت وصبر جميل وحكمة بالغة!!
إنها ساعة العودة، عودة المخلوق إلى الخالق. عودة المرزوق إلي الرازق، عودة الضعيف إلي القوي، عودة الفقير إلي الغني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فاطر
وهذا تصوير القرآن للموقف المهيب {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ• وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ• وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ• فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ• تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الواقعة).
الموت يحصد الراحلين الي الآخرة في أي زمان {فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف).
وفي أي مكان {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء).
ولا يدري الإنسان ما الزمان ولا المكان الذي تحين عنده ساعته كيف؟!
{وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان).
غدا توفي النفوس ما كسبت
ويحصد الزراع ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
لذلك يجب ان يكون دائما علي طاعة، مستعدا لاستقبال الحصاد ، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله فقيل كيف يستعمله يا رسول الله قال يوفقه لعمل صالح قبل الموت" (حسن صحيح).
قال أبو الدر داء رضي الله عنه: العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه، ومن بني قبره قبل أن يدخله، ومن أرضى ربه قبل أن يلقاه. هل جعلت دنياك مزرعة لأخرتك؟!! هل بنيت بالعمل الصالح قبرك.؟!! هل أرضيت بالإخلاص والطاعة ربك؟!
لم يعد المعنى الوحيد للموت هو الرحيل عن هذه الحياة، فهناك من يمارس الموت بطرق مختلفة، ويعيش كل تفاصيل وتضاريس الموت، وهو ما زال على قيد الحياة هناك الكثير يتمنون الموت في لحظات الانكسار، ظنًّا منهم أنّ الموت هو الحلّ الوحيد، والنهاية السعيدة لسلسلة العذاب، لكن هل سأل أحدنا نفسه يومًا ماذا بعد الموت، أليس حفرة ضيقة، وظلمة دامسة، وغربة موحشة، وسؤال، وعقاب، وعذاب، وإمّا جنة أو نار؟!!، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار!!
لذلك يجب علينا ترجمة هذه الآية علي ارض الواقع {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام).
اجعل عملك كله لله، حركاتك وسكناتك، حلك وترحالك، ركوعك وسجودك، انفاسك واناتك، حياتك ومماتك. كله لله.يقول البارئ عز وجل {كل نفس ذائقة الموت*وانما توفون اجوركم يوم القيامة*فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة*فقد فاز*وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (آل عمران).
ولا نقول الا ما يرضي ربنا، انا لله و انا اليه راجعون، وانا لفراقك يا ابو عمر لمحزونون.
الموت داء لا دواء له، إلا التقى والعمل الصالح:
لا دار لِلمَرءِ بَعدَ المَوت يَسكُنُها
إِلّا الَّتي كانَ قَبل المَوتِ يَبنيها
فَإِن بَناها بِخَير فازَ ساكِنُها
وَإِن بَناها بشرّ خاب بانيها
رحم الله (ابو عمر) احمد عيسي واسكنه الفردوس الاعلى من الجنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
رحم الله اموات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
رحم الله شهداء المرض وشهداء الميدان في غزة وفلسطين ولبنان والسودان وسورية وفي كل مكان يُرفع فيه الأذان ويُنطق فيه بالشهادة.