بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في كتاب الله آيات تتكرر فيها الصيغة العجيبة: {يسألونك}، وكأنها جسر يصل بين الخلق وخالقهم، بين الحيرة البشرية والوحي السماوي الذي يجيب عنها بميزان العلم والحكمة. هذه الصيغة القرآنية ليست مجرد حروف استفسار، بل هي باب من أبواب الهداية، يُظهر كيف علّم الله هذه الأمة أدب السؤال، وكيف أجابها بما يرفع جهلها لا بما يُرضي فضولها.
لقد أكثر الله تعالى في كتابه من أنواع السؤال: {يسألونك عن الأهلة}، {يسألونك عن الأنفال}، {يسألونك عن اليتامى}، {يسألونك عن الروح}، {يسألونك عن الساعة}. وكل سؤال منها له دلالته وموقعه ومقصده، فمنها ما هو سؤال تشريع، ومنها ما هو سؤال تعنت، ومنها ما هو سؤال طلب هداية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الأمة أقلّ الأمم سؤالًا لأنبيائها، إذ سألوا نبيهم ﷺ أربع عشرة مرة، أجابهم في ثمانٍ منها بسورة البقرة، بخلاف بني إسرائيل الذين أكثروا من السؤال حتى صار سؤالهم تعنتًا وجدلًا: {وقالوا يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]. فالسؤال في ذاته ليس مذمومًا، ولكن المذموم أن يُسأل الله أو رسوله على وجه الاعتراض والمراء.
ومن أعجب هذه الأسئلة قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء:85]، فلم يُجَب السائلون هنا بتفصيل، لأن ما سألوا عنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. وكأن في هذا الجواب المختصر بيانًا أن حدود العقل لا تتجاوز ما أراد الله له أن يدرك، وأن بعض الأبواب لا تُفتح إلا في دار الخلود.
أما في قوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير} [البقرة:220]، فالسؤال هنا نابع من رحمةٍ بشرية فطرية، وجواب الله جاء ليضبط الرحمة بالعدل، إذ قال بعدها: {والله يعلم المفسد من المصلح}. فالإصلاح لا يكون بالشفقة وحدها، بل بميزان التقوى والنية، ولهذا حذّر الله من أكل أموال اليتامى فقال: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النساء:10].
السؤال هنا إذًا ليس عن الحكم فقط، بل عن المنهج في التعامل مع الضعيف، وعن اختبار الضمير الإنساني أمام المال والسلطة والرحمة. ولهذا ختم الله الآية بقوله: {إن الله عزيز حكيم}، ليذكّر أن اليد التي تملك أموال اليتيم إن لم تخشَ الله عز وجل، فسيقتصّ العزيز الحكيم لليتيم يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وفي موضع آخر، يتجاوز السؤال نطاق الأحكام إلى عالم الغيب والمصير، كما في قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} [الأعراف:187]. سؤالٌ قديم جديد، يتكرر في النفوس منذ خلق الإنسان، سؤال القلق الوجودي عن النهاية. ولكن الجواب جاء موقظًا: {قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو}. وكأن الله يقول للإنسان: ليس المهم متى تقوم الساعة، بل كيف تلقاها. فالسؤال الحق ليس عن الزمن، بل عن الزاد. ولهذا قال بعدها: {كأنك يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف:35]، لتتحول كل الدنيا إلى ومضة عابرة في ضوء الأبدية.
ومن دقائق البلاغة أن الله تعالى حين قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [البقرة:186]، حذف كلمة "قل" التي ترد في سائر المواضع، لأن الله هنا لم يجعل بينه وبين عباده واسطة حتى في الجواب، فالقرب هنا قرب محبة ورحمة لا قرب مسافة. أي أن من أراد الله لا يحتاج إلى رسولٍ يبلّغ عنه الدعاء، بل يرفع يده فيجد القرب حاضرًا:{أجيب دعوة الداع إذا دعان}
إن هذا النسق القرآني في عرض الأسئلة وجوابها يُعلّمنا أن السؤال عبادة، إذا نُوي به طلب الحق. فالعلماء يسألون ليزدادوا فهمًا، والجاهلون يسألون ليتعلموا، والمتكبرون يسألون ليجادلوا، والله تعالى يجيب كلٌّ بما يستحق: {قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون}.
وما أروع ما ختم به الله باب السؤال حين قال: {أما السائل فلا تنهر} [الضحى:10]، لتتحول الكلمة من خطاب للعقل إلى خطاب للقلب. فالسائل- سواء أكان فقيرًا يطلب رزقًا أو جاهلًا يطلب علمًا - له حق أن يُستمع إليه برفق. فمن نهر سائلًا كأنه نهر إنسانيته. قال ابن القيم رحمه الله: *الناس يسألونك بألسنتهم، والله يسألك بضعفهم*، فاحذر أن تردّ من سألك فإنك لا تدري أيّهم سؤال ابتلاء وأيّهم سؤال امتحان.
هكذا يرسم القرآن الكريم من خلال آيات السؤال منهجًا كاملًا للتفكير والتعامل مع العلم والناس، منهجًا يجمع بين الأدب في الطلب، والتسليم في الجواب، والرحمة في التطبيق. ومن تأمل هذه الآيات علم أن أعظم الأسئلة ما قاد إلى عمل، وأخطرها ما أورث جدلًا، وأن السائل الصادق لا يطلب الجواب فقط، بل يطلب الطريق إلى الله.