سورة يونس - تفسير السعدي | |
| | |
| |
" الر تلك آيات الكتاب الحكيم " | |
يقول | |
| تعالى " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ " وهو هذا القرآن, | |
| المشتمل على الحكمة والأحكام, الدالة آياته على الحقائق الإيمانية, والأوامر | |
| والنواهي الشرعية, الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد. | |
" أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر | |
| الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " | |
ومع هذا, فأعرض أكثرهم, فهم لا يعلمون, | |
| فتعجبوا " أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ | |
| أَنْذِرِ النَّاسَ " عذاب الله, وخوفهم نقم الله, وذكرهم بآيات الله. | |
| " وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا " إيمانا صادقا " أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ " أي: | |
| لهم جزاء موفور, وثواب مذخور عند ربهم, بما قدموه, وأسلفوه من الأعمال الصالحة | |
| الصادقة. | |
| فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا, حملهم على الكفر به. | |
| " قَالَ الْكَافِرُونَ " عنه: " | |
| إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ " أي: بين السحر, لا يخفى - بزعمهم - | |
| على أحد, وهذا من سفههم وعنادهم. | |
| فإنهم تعجبوا من أمر, ليس مما يتعجب منه, ويستغرب. | |
| وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم. | |
| كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم, الذي بعثه الله من أنفسهم, يعرفونه حق المعرفة, | |
| فردوا دعوته, وحرصوا على إبطال دينه, والله متم نوره, ولو كره الكافرون. | |
" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى | |
| على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا | |
| تذكرون " | |
يقول تعالى - مبينا لربوبيته, وإلهيته, | |
| وعظمته:- " إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ | |
| السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ " مع أنه قادر على | |
| خلقها في لحظة واحدة. | |
| ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية, ولأنه رفيق في أفعاله. | |
| ومن جملة حكمته فيها, أنه خلقها بالحق وللحق, ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد | |
| بالعبادة. | |
| " ثُمَّ " بعد خلق السماوات والأرض " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " استواء يليق بعظمته. | |
| " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ " في العالم العلوي, | |
| والسفلي, من الإماتة والإحياء, وإنزال الأرزاق, ومداولة الأيام بين الناس, وكشف | |
| الضر عن المضرورين, وإجابة سؤال السائلين. | |
| فأنواع التدابير, نازلة منه, وصاعدة إليه, وجميع الخلق, مذعنون لعزته, خاضعون | |
| لعظمته وسلطانه. | |
| " مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ " فلا | |
| يقدم أحد منهم على الشفاعة, ولو كان أفضل الخلق, حتى يأذن الله. | |
| ولا يأذن, إلا لمن ارتضى, ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له. | |
| " ذَلِكُمْ " الذي هذا شأنه " | |
| اللَّهُ رَبُّكُمْ " أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات | |
| الكمال, ووصف الربوبية, الجامع لصفات الأفعال. | |
| " فَاعْبُدُوهُ " أي: أفردوه بجميع ما تقدرون | |
| عليه من أنواع العبودية. | |
| " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " الأدلة الدالة, على أنه | |
| وحده, المعبود المحمود, ذو الجلال والإكرام. | |
" إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي | |
| الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما | |
| كانوا يكفرون " | |
فلما ذكر حكمه القدري, وهو التدبير العام, وحكمه الديني, وهو شرعه, | |
| الذي مضمونه ومقصوده, عبادته وحده لا شريك له, ذكر الحكم الجزئي, وهو: مجازاته على | |
| الأعمال بعد الموت, فقال: " إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا | |
| " أي: سيجمعكم بعد موتكم, لميقات يوم معلوم. | |
| " وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا " أي: وعده صادق, لا بد | |
| من إتمامه " إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ | |
| " . | |
| فالقادر على ابتداء الخلق, قادر على إعادته. | |
| والذي يرى ابتداءه بالخلق, ثم ينكر إعادته للخلق, فهو فاقد العقل, منكر لأحد | |
| المثلين, مع إثبات ما هو أولى منه, فهدا دليل عقلي واضح, على المعاد. | |
| ثم ذكر الدليل النقلي فقال: " لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا | |
| " بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به. | |
| " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " بجوارحهم, من | |
| واجبات, ومستحبات. | |
| " بِالْقِسْطِ " أي: بإيمانهم وأعمالهم, جزاء قد | |
| بينه لعباده, وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين. | |
| " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " بآيات الله, وكذبوا رسل | |
| الله. | |
| " لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ " أي: ماء حار, | |
| يشوي الوجوه, ويقطع الأمعاء. | |
| " وَعَذَابٌ أَلِيمٌ " من سائر أصناف العذاب " بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ " . | |
| أي: بسبب كفرهم وظلمهم, وما ظلمهم الله, ولكن أنفسهم يظلمون. | |
" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد | |
| السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون " | |
لما قرر ربوبيته وإلهيته, ذكر الأدلة | |
| العقلية الأفقية, الدالة على ذلك وعلى كماله, في أسمائه وصفاته, من الشمس والقمر, | |
| والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما, من سائر أصناف المخلوقات, وأخبر أنها آيات " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " و " | |
| لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ " . | |
| فإن العلم, يهدي إلى معرفة الدلالة فيها, وكيفية استنباط الدلائل, على أقرب وجه. | |
| والتقوى, تحدث في القلب, الرغبة في الخير, والرهبة من الشر, الناشئين عن الأدلة | |
| والبراهين; وعن العلم واليقين. | |
| وحاصل ذلك, أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة, دال على كمال قدرة الله تعالى, | |
| وعلمه, وحياته, وقيوميته. | |
| وما فيها من الأحكام, والإتقان, والإبداع والحسن, دال على كمال حكمة الله, وحسن | |
| خلقه, وسعة علمه. | |
| وما فيها, من أنواع المنافع والمصالح - كجعل الشمس ضياء, والقمر نورا, يحصل بهما | |
| من النفع الضروري وغيره مما يحصل - يدل ذلك على رحمة الله تعالى, واعتنائه بعباده, | |
| وسعة بره, وإحسانه. | |
| وما فيها من التخصيصات, دال على مشيئة الله, وإرادته النافذة. | |
| وذلك دال على أنه وحده, المعبود, والمحبوب المحمود, ذو الجلال والإكرام, والأوصاف | |
| العظام, الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة, إلا إليه, ولا يصرف خالص الدعاء, إلا له, | |
| لا لغيره, من المخلوقات المربوبات, المفتقرات إلى الله, في جميع شئونها. | |
| وفي هذه الآيات: الحث والترغيب, على التفكير في مخلوقات الله, والنظر فيها, بعين | |
| الاعتبار. | |
| فإن بذلك تنفسح البصيرة, ويزداد الإيمان والعقل, وتقوى القريحة. | |
| وفي إهمال ذلك, تهاون بما أمر الله به, وإغلاق لزيادة الإيمان, وجمود للذهن | |
| والقريحة. | |
" إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها | |
| والذين هم عن آياتنا غافلون " | |
يقول تعالى " إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ | |
| لِقَاءَنَا " أي: لا يطمعون بلقاء الله, الذي هو أكبر ما طمع فيه | |
| الطامعون; وأعلى ما أمله المؤملون. | |
| بل أعرضوا ذلك, وربما كذبوا به " وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ | |
| الدُّنْيَا " بدلا عن الآخرة. | |
| " وَاطْمَأَنُّوا بِهَا " أي: ركنوا إليها, | |
| وجعلوها غاية أمرهم, ونهاية قصد. | |
| فسعوا لها, وأكبوا على لذاتها وشهواتها, بأي طريق حصلت, حصلوها, ومن أي وجه لاحت, | |
| ابتدروها. | |
| قد صرفوا إرادتهم ونياتهم, وأفكارهم, وأعمالهم, إليها. | |
| فكأنهم خلقوا للبقاء فيها, وكأنها ليست بدار ممر, يتزود فيها المسافرون, إلى الدار | |
| الباقية التي, إليها, يرحل الأولون والآخرون, وإلى نعيمها ولذاتها, شمر الموفقون. | |
| " وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ " فلا | |
| ينتفعون بالآيات القرآنية, ولا بالآيات الأفقية والنفسية. | |
| والإعراض عن الدليل, مستلزم للإعراض والغفلة, عن المدلول المقصود. | |
" أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون " | |
" أُولَئِكَ " الذين هذا | |
| وصفهم " مَأْوَاهُمُ النَّارُ " أي: مقرهم ومسكنهم, | |
| التي لا يرحلون عنها. | |
| " بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " من الكفر والشرك, | |
| وأنواع المعاصي. | |
| فلما ذكر عقابهم, ذكر ثواب المطيعين فقال: " إِنَّ الَّذِينَ | |
| آمَنُوا " إلى " أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ | |
| الْعَالَمِينَ " . | |
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من | |
| تحتهم الأنهار في جنات النعيم " | |
يقول تعالى " إِنَّ | |
| الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: جمعوا بين الإيمان, | |
| والقيام بموجبه ومقتضاه, من الأعمال الصالحة, المشتملة على أعمال القلوب, وأعمال | |
| الجوارح, على وجه الإخلاص والمتابعة. | |
| " يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ " أي: | |
| بسبب ما معهم من الإيمان, يتيبهم الله أعظم الثواب, وهو: الهداية. | |
| فيعلمهم ما ينفعهم, ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية, ويهديهم للنظر في | |
| آياته, ويهديهم في هذه الدار, إلى الصراط المستقيم, وفي دار الجزاء إلى الصراط | |
| الموصل إلى جنات النعيم. | |
| ولهذا قال: " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ " الجارية | |
| على الدوام " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " . | |
| أضافها الله إلى النعيم, لاشتمالها على النعيم التام. | |
| نعيم القلب بالفرح والسرور, والبهجة والحبور, ورؤية الرحمن, وسماع كلامه, والاغتباط | |
| برضاه وقربه, ولقاء الأحبة والإخوان, والتمتع بالاجتماع بهم, وسماع الأصوات | |
| المطربات, والنغمات المشجيات, والمناظر المفرحات. | |
| ونعيم البدن بأنواع المآكل, والمشارب, والمناكح, ونحو ذلك, مما لا تعلمه النفوس, | |
| ولا خطر ببال أحد, أو قدر أن يصفه الواصفون. | |
" دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن | |
| الحمد لله رب العالمين " | |
" دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ " أي عبادتهم فيها لله, أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض, وآخرها, | |
| تحميد لله, فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء. | |
| وإنما بقي لهم, أكمل اللذات, الذي هو ألذ عليهم, من المآكل اللذيذة. | |
| ألا وهو: ذكر الله الذي تطمئن به القلوب, وتفرح به الأرواح. | |
| وهو لهم بمنزلة النفس, من دون كلفة ومشقة. | |
| أما " وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا " فيما بينهم عند | |
| التلاقي والتزاور, فهو السلام, أي: كلام سالم من اللغو والإثم, موصوف بأنه " سَلَامٌ " . | |
| وقد قيل في تفسير قوله " دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ | |
| " إلى آخر الآية. | |
| أن أهل الجنة - إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما - قالوا سبحانك اللهم, | |
| فأحضر لهم في الحال. | |
| " وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ " إذا فرغوا " أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " . | |
" ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم | |
| فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون " | |
وهذا من لطفه وإحسانه بعباده, أنه لو عجل | |
| لهم الشر, إذا أتوا بأسبابه, وبادرهم بالعقوبة على ذلك, كما يعجل لهم الخير إذا | |
| أتوا بأسبابه " لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ " أي | |
| لمحقتهم العقوبة. | |
| ولكنه تعالى, يمهلهم, ولا يهملهم, ويعفو عن كثير من حقوقه. | |
| فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم, ما ترك على ظهرها من دابة. | |
| ويدخل في هذا, أن العبد إذا غضب على أولاده, أو أهله, أو ماله, ربما دعا عليهم | |
| دعوة, لو قبلت منه, لهلكوا, ولأضره ذلك غاية الضرر, ولكنه تعالى, حليم حكيم. | |
| وقوله: " فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا " | |
| أي: لا يؤمنون بالآخرة, فلذلك لا يستعدون لها, ولا يعلمون ما ينجيهم من | |
| عذاب الله. | |
| " فِي طُغْيَانِهِمْ " أي: باطلهم, الذي جاوزوا | |
| به الحق والحد. | |
| " يَعْمَهُونَ " يترددون حائرين, لا يهتدون | |
| السبيل, ولا يوفقون لأقوم دليل. | |
| وذلك عقوبة لهم على ظلمهم, وكفرهم بآيات الله. | |
" وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا | |
| عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون " | |
وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان, من حيث هو, | |
| وأنه إذا مسه ضر, من مرض, أو مصيبة, اجتهد في الدعاء, وسأل الله في جميع أحواله, قائما, | |
| وقاعدا, ومضطجعا, وألح في الدعاء, ليكشف الله عنه ضره. | |
| " فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ | |
| يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ " أي: استمر في غفلته, معرضا عن ربه, | |
| كأنه ما جاءه ضر, فكشفه الله عنه. | |
| فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!! يطلب من الله قضاء غرضه. | |
| فإذا أناله إياه, لم ينظر إلى حق ربه, وكأنه ليس عليه لله حق. | |
| وهذا تزيين من الشيطان, زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر. | |
| " كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ " أي: | |
| المتجاوزين للحد " مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " . | |
" ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات | |
| وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين " | |
يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية, بظلمهم | |
| وكفرهم, بعد ما جاءتهم البينات, على أيدي الرسل, وتبين الحق, فلم ينقادوا لها, ولم | |
| يؤمنوا. | |
| فأحل بهم عقابه, الذي لا يرد عن كل مجرم, متجرئ على محارم الله. | |
| وهذه سنته في جميع الأمم. | |
" ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " | |
" ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ " أي: المخاطبين " خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ | |
| بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " فإن أنتم اعتبرتم, | |
| واتعظتم بمن قبلكم, واتبعتم آيات الله, وصدقتم رسله, نجوتم في الدنيا والآخرة. | |
| وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم, أحل بكم ما أحل بهم, ومن أنذر فقد أعذر. | |
" وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت | |
| بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى | |
| إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " | |
يذكر تعالى, تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى | |
| الله عليه وسلم, وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق, أعرضوا | |
| عنها, وطلبوا وجوه التعنت فقالوا, جراءة منهم وظلما: " ائْتِ | |
| بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ " فقبحهم الله, ما أجرأهم على | |
| الله, وأشدهم ظلما, وردا لآياته. | |
| فإذا كان الرسول العظيم, يأمره الله, أن يقول لهم: " قُلْ مَا | |
| يَكُونُ لِي " أي ما ينبغي, ولا يليق بي " أَنْ | |
| أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي " . | |
| فإني رسول محض, ليس لي من الأمر شيء. | |
| " إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ " أي: | |
| ليس لي غير ذلك, فإني عبد مأمور. | |
| " إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ | |
| عَظِيمٍ " . | |
| فهذا قول خير الخلق, وأدبه مع أوامر ربه ووحيه. | |
| فكيف بهؤلاء السفهاء الضالين, الذين جمعوا بين الجهل والضلال, والظلم والعناد, | |
| والتعنت والتعجيز لرب العالمين, أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟!!. | |
| فإن زعموا أن قصدهم, أن يتبين لهم الحق بالآيات, التي طلبوا, فهم كذبة في ذلك. | |
| فإن الله قد بين من الآيات, ما يؤمن على مثله, البشر. | |
| وهو الذي يصرفها كيف يشاء, تبعا لحكمته الربانية, ورحمته بعباده. | |
" قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم | |
| عمرا من قبله أفلا تعقلون " | |
" قُلْ | |
| لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ | |
| لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا " طويلا " مِنْ قَبْلِهِ " أي: قبل تلاوته, وقبل درايتكم به, | |
| وأنا ما خطر على بالي, ولا وقع في ظني. | |
| " أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أني, حيث لم أتله في مدة | |
| عمري, ولا صدر مني, ما يدل على ذلك. | |
| فكيف أتقوله بعد ذلك, وقد لبثت فيكم عمرا طويلا, تعرفون حقيقة حالي, بأني أمي, لا | |
| أقرأ, ولا أكتب, ولا أدرس, ولا أتعلم من أحد؟!! فأتيتكم بكتاب عظيم, أعجز الفصحاء, | |
| وأعيا العلماء. | |
| فهل يمكن - مع هذا - أن يكون من تلقاء نفسي, أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم | |
| حميد؟ فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم, وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب, لجزمتم جزما لا | |
| يقبل الريب بصدقه, وأنه الحق, الذي ليس بعده, إلا الضلال. | |
| ولكن إذا أبيتم إلا التكذيب والعناد, فأنتم لا شك أنكم ظالمون. | |
" فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح | |
| المجرمون " | |
" فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا | |
| أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ " فلو كنت متقولا, | |
| لكنت أظلم الناس, وفاتني الفلاح, ولم تخف عليكم حالي. | |
| ولكني جئتكم بآيات الله, فكذبتم بها, فتعين فيكم الظلم. | |
| ولا بد أن أمركم سيضمحل, ولن تنالوا الفلاح, ما دمتم كذلك. | |
| ودل قوله " قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا " الآية, | |
| أن الذي حملهم على هذا التعنت, الذي صدر منهم, هو عدم إيمانهم بلقاء الله, وعدم | |
| رجائه, وأن من آمن بلقاء الله, فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب, ويؤمن به, لأنه حسن | |
| القصد. | |
" ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء | |
| شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه | |
| وتعالى عما يشركون " | |
يقول تعالى: " وَيَعْبُدُونَ " أي: | |
| المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم. | |
| " مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ | |
| " أي: إن معبوداتهم, لا تملك لهم مثقال ذرة, من النفع, ولا تدفع عنهم | |
| شيئا. | |
| " وَيَقُولُونَ " قولا خاليا من البرهان: " هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ " أي: | |
| يعبدونهم, ليقربوهم إلى الله, ويشفعوا لهم عنده. | |
| وهذا قول من تلقاء أنفسهم, وكلام, ابتكروه, هم. | |
| ولهذا قال تعالى - مبطلا لهذا القول:- " قُلْ أَتُنَبِّئُونَ | |
| اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ " . | |
| أي: الله تعالى هو العالم, الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض, وقد | |
| أخبركم, بأنه ليس له شريك ولا إله معه. | |
| أفأنتم- يا معشر المشركين - تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟. | |
| أفتخبرونه بأمر خفي عليه, وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا | |
| القول, المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء, أعلم من رب العالمين؟ فليكتف | |
| العاقل بمجرد تصور هذا القول, فإنه يجزم بفساده وبطلانه. | |
| " سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ " أي: | |
| تقدس وتنزه, أن يكون له شريك أو نظير. | |
| بل هو الله الأحد الفرد الصمد, الذي لا إله, في السماوات والأرض, إلا هو. | |
| وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه, فإنه باطل عقلا, وشرعا, وفطرة. | |
| " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا | |
| يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ | |
| الْكَبِيرُ " . | |
" وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك | |
| لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " | |
أي " وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً | |
| وَاحِدَةً " متفقين على الدين الصحيح, ولكنهم اختلفوا. | |
| فبعث الله الرسل, مبشرين ومنذرين, وأنزل معهم الكتاب, ليحكم بين الناس فيما | |
| اختلفوا فيه. | |
| " وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ " بإمهال | |
| العاصين, وعدم معاجلتهم بذنوبهم. | |
| " لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ " بأن ننجي المؤمنين, | |
| ونهلك الكافرين المكذبين, وصار هذا فارقا بينهم " فِيمَا | |
| فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " . | |
| ولكنه, أراد امتحانهم, وابتلاء بعضهم ببعض, ليتبين الصادق من الكاذب. | |
" ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا | |
| إني معكم من المنتظرين " | |
" وَيَقُولُونَ " أي: | |
| المكذبون المتعنتون, " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ | |
| رَبِّهِ " . | |
| يعنون: آيات الاقتراح, التي يعينونها, كقولهم " لَوْلَا | |
| أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا " الآيات. | |
| وكقولهم " وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ | |
| لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " الآيات (90 إلى 93) من سورة | |
| الإسراء. | |
| " فَقُلْ " لهم إذا طلبوا منك آية " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ " أي: هو المحيط علما | |
| بأحوال العباد, فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم, وحكمته البديعة, وليس لأحد تدبير في | |
| حكم ولا دليل, ولا غاية, ولا تعليل. | |
| " فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ | |
| " أي: كل ينتظر بصاحبه, ما هو أهل له, فانظروا لمن تكون العاقبة. | |
" وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا | |
| قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " | |
يقول تعالى: " وَإِذَا | |
| أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ " كالصحة | |
| بعد المرض, والغنى بعد الفقر, والأمن بعد الخوف, نسوا ما أصابهم من الضراء, ولم | |
| يشكروا الله على الرخاء والرحمة, بل استمروا في طغيانهم ومكرهم. | |
| ولهذا قال: " إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا " أي | |
| يسعون بالباطل, ليبطلوا به الحق. | |
| " قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا " فإن المكر | |
| السيئ, لا يحيق إلا بأهله. | |
| فمقصودهم منعكس عليهم, ولم يسلموا من التبعة, بل تكتب الملائكة عليهم, ما يعملون, | |
| ويحصيه الله, ثم يجازيهم عليه أوفر الجزاء. | |
" هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم | |
| بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط | |
| بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين " | |
لما ذكر تعالى, القاعدة العامة في أحوال الناس, عند إصابة الرحمة لهم, | |
| بعد الضراء, واليسر بعد العسر, ذكر حالة, تؤيد ذلك, وهي: حالهم في البحر, عند | |
| اشتداده, والخوف من عواقبه. | |
| فقال: " هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ | |
| " بما يسر لكم من الأسباب الميسرة لكم فيها, وهداكم إليها. | |
| " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ " أي: | |
| السفن البحرية " وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " موافقة | |
| لما يهوونه, من غير انزعاج ولا مشقة. | |
| " وَفَرِحُوا بِهَا " واطمأنوا إليها. | |
| فبينما هم كذلك, " جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ " شديدة | |
| الهبوب " وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا | |
| أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ " أي: عرفوا أنه الهلاك. | |
| فانقطع حينئذ, تعلقهم بالمخلوقين, وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله | |
| وحده. | |
| وحينئذ " دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " ووعدوا | |
| من أنفسهم على وجه الإلزام. | |
| فقالوا: " لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ | |
| مِنَ الشَّاكِرِينَ " | |
" فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس | |
| إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم | |
| تعملون " | |
" فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ | |
| بِغَيْرِ الْحَقِّ " أي نسوا تلك الشدة وذلك | |
| الدعاء, وما ألزموه أنفسهم, فأشركوا بالله, من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد, | |
| ولا يدفع عنهم المضايق. | |
| فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء, كما أخلصوها في الشدة؟!!. | |
| ولكن هذا البغي, يعود وباله عليهم, ولهذا قال: " يَا أَيُّهَا | |
| النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا | |
| " أي: غاية ما تؤملون ببغيكم, وشرودكم عن الإخلاص لله, أن تنالوا شيئا | |
| من حطام الدنيا وجاهها, النزر اليسير, الذي سينقضي سريعا, ويمضي جميعا, ثم تنتقلون | |
| عنه بالرغم. | |
| " ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ " في يوم القيامة | |
| " فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " وفي | |
| هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم. | |
" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات | |
| الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم | |
| قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك | |
| نفصل الآيات لقوم يتفكرون " | |
وهذا المثل من أحسن الأمثلة, وهو مطابق لحالة الدنيا. | |
| فإن لذاتها, وشهواتها, وجاهها, ونحو ذلك, يزهو لصاحبه, إن زها وقتا قصيرا. | |
| فإذا استكمل وتم, اضمحل, وزال عن صاحبه, أو زال صاحبه عنه. | |
| فأصبح صفر اليدين منها, ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها. | |
| فذلك " كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ | |
| بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ " أي: نبت فيها من كل صنف, وزوج بهيج " مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ " كالحبوب والثمار ومما | |
| تأكل " الْأَنْعَامِ " كأنواع العشب, والكلأ | |
| المختلف الأصناف. | |
| " حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ | |
| " أي: تزخرفت في منظرها, واكتست في زينتها, فصارت بهجة للناظرين, | |
| ونزهة للمتفرجين, وآية للمتبصرين. | |
| فصرت ترى لها منظرا عجيبا ما بين أخضر, وأصفر, وأبيض وغيره. | |
| " وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا " أي: | |
| حصل معهم طمع, بأن ذلك سيستمر ويدوم, لوقوف إرادتهم عنده, وانتهاء مطالبهم فيه. | |
| فبينما في تلك الحالة " أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ | |
| نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ " أي: | |
| كأنها ما كانت. | |
| فهذه حالة الدنيا, سواء بسواء. | |
| " كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ " أي: نبينها | |
| ونوضحها, بتقريب المعاني إلى الأذهان, وضرب الأمثال " | |
| لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم. | |
| وأما الغافل المعرض, فهذا لا تنفعه الآيات, ولا يزيل عنه الشك البيان. | |
" والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم | |
| " | |
ولما ذكر الله حال الدنيا, وحاصل نعيمها, شوق إلى الدار الباقية فقال: " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ " إلى " وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " . | |
| عمم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام, والحث على ذلك, والترغيب. | |
| وخص بالهداية, من شاء استخلاصه واصطفاءه. | |
| فهذا فضله وإحسانه, والله يختص برحمته من يشاء. | |
| وذلك عدله وحكمته, وليس لأحد عليه حجة, بعد البيان والرسل. | |
| وسمى الله الجنة " دار السلام " لسلامتها من جميع | |
| الآفات والنقائص. | |
| وذلك, لكمال نعيمها, وتمامه, وبقائه, وحسنه من كل وجه. | |
" للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك | |
| أصحاب الجنة هم فيها خالدون " | |
ولما دعا إلى دار السلام, كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها, | |
| الموصلة إليها, أخبر عنها بقوله: " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا | |
| الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ " أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق, بأن | |
| عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة, في عبوديته, وقاموا بما قدروا عليه منها, | |
| وأحسنوا إلى عباد الله, بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي, من بذل | |
| الإحسان المالي, والإحسان البدني, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم | |
| الجاهلين, ونصيحة المعرضين, وغير ذلك من وجوه البر والإحسان. | |
| فهؤلاء الذين أحسنوا, لهم " الحسنى " وهي: الجنة | |
| الكاملة في حسنها و " زيادة " وهي: النظر إلى وجه | |
| الله الكريم, وسماع كلامه, والفوز برضاه والبهجة بقربه. | |
| فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون, ويسأله السائلون. | |
| ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: " وَلَا يَرْهَقُ | |
| وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ " . | |
| أي: لا ينالهم مكروه, بوجه من الوجوه, لأن المكروه, إذا وقع بالإنسان. | |
| تبين ذلك في وجهه, وتغير, وتكدر. | |
| وأما هؤلاء - فكما قال الله عنهم - " تَعْرِفُ فِي | |
| وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ " . | |
| " أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ " الملازمون | |
| لها " هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يحولون, ولا | |
| يزولون, ولا يتغيرون. | |
" والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من | |
| الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها | |
| خالدون " | |
لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار. | |
| فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله, من أنواع | |
| الكفر والتكذيب, وصناف المعاصي. | |
| فـ " جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا " أي: جزاء | |
| يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم. | |
| " وَتَرْهَقُهُمْ " أي تغشاهم " | |
| ذِلَّةٌ " في قلوبهم وخوف من عذاب الله. | |
| لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم. | |
| وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم, فتكون سوادا في وجوههم. | |
| " كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ | |
| مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " فكم | |
| بين الفريقين من الفرق, ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟! " | |
| وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ | |
| بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ " " وُجُوهٌ | |
| يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا | |
| غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ " . | |
" ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم | |
| فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون " | |
يقول تعالى " وَيَوْمَ | |
| نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا " أي: نجمع جميع الخلائق, لميعاد يوم معلوم, | |
| ونحضر المشركين, وما كانوا يعبدون من دون الله. | |
| " ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ | |
| وَشُرَكَاؤُكُمْ " أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم | |
| وبينهم. | |
| " فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ " أي: فرقنا بينهم, | |
| بالبعد البدني والقلبي. | |
| فحصلت بينهم العداوة الشديدة, بعد أن بذلوا لهم في الدنيا, خالص المحبة, وصفو | |
| الوداد. | |
| فانقلبت تلك المحبة والولاية, بغضا وعداوة. | |
| " وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ " متبرئين منهم: " مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ " فإننا ننزه | |
| الله أن يكون له شريك, أو نديد. | |
" فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلأكثر المصاحف تفاعلاً |