سورة الكهف - تفسير السعدي | |
| | |
" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا | |
| " | |
الحمد | |
| هو الثناء عليه بصفاته, التي هي كلها صفات كمال, وبنعمه الظاهرة والباطنة, الدينية | |
| والدنيوية. | |
| وأجل نعمه على الإطلاق, إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله, محمد صلى الله عليه | |
| وسلم. | |
| فحمد نفسه, وفي ضمنه, إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم, وإنزال الكتاب | |
| عليهم. | |
| ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين, على أنه الكامل من جميع الوجوه. | |
| وهما نفي العوج عنه, وإثبات أنه مقيم مستقيم. | |
| فنفي العوج, يقتضي أنه ليس في أخباره كذب, ولا في أوامره ونواهيه, ظلم ولا عبث. | |
| وإثبات الاستقامة, يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الأخبارات وهي الأخبار, | |
| التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا, كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله, | |
| ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة. | |
| وأن أوامره ونواهيه, تزكي النفوس وتطهرها وتنميها وتكملها, لاشتمالها على كمال | |
| العدل والقسط, والإخلاص, والعبودية لله رب العالمين, وحده لا شريك له. | |
| وحقيق بكتاب موصوف. | |
| بما ذكر, أن يحمد الله نفسه على إنزاله, وأن يتمدح إلى عباده به. | |
" قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون | |
| الصالحات أن لهم أجرا حسنا " | |
وقوله " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ | |
| لَدُنْهُ " أي: لينذر بهذا القرآن الكريم, عقابه الذي عنده, أي: قدره | |
| وقضاءه, على من خالف أمره, وهذا يشمل عقاب الدنيا, وعقاب الآخرة. | |
| وهذا أيضا, من نعمه أن خوف عباده, وأنذرهم, ما يضرهم ويهلكهم. | |
| كما قال تعالى - لما ذكر في هذا القرآن وصف النار, قال: " ذلك | |
| يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون " . | |
| فمن رحمته بعباده, أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره, وبينها لهم, وبين | |
| لهم الأسباب الموصلة إليها. | |
| " وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ | |
| الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا " أي: وأنزل الله على | |
| عبده الكتاب, ليبشر المؤمنين به, وبرسله, وكتبه, الذين كمل إيمانهم. | |
| فأوجب لهم عمل الصالحات, وهي: الأعمال الصالحة, من واجب, ومستحب, التي جمعت | |
| الإخلاص والمتابعة. | |
| " أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا " وهو الثواب | |
| الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح. | |
| وأعظمه وأجله, الفوز برضا الله ودخول الجنة, التي فيها, ما لا عين رأت, ولا أذن | |
| سمعت, ولا خطر على قلب بشر. | |
| وفي وصفه بالحسن, دلالة على أنه لا مكدر فيه, ولا منغص, بوجه من الوجوه. | |
| إذ لو وجد فيه شيء من ذلك, لم يكن حسنه تاما. | |
" ماكثين فيه أبدا " | |
ومع ذلك فهذا الأجر الحسن " | |
| مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا " لا يزول عنهم, ولا يزولون عنه, بل نعيمهم | |
| في كل وقت متزايد. | |
| وفي ذكر التبشير, ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به. | |
| وهو: أن هذا القرآن, قد اشتمل على كل عمل صالح, موصل لما تستبشر به النفوس, وتفرح | |
| به الأرواح. | |
" وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " | |
" | |
| وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " من اليهود والنصارى, والمشركين, الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة, | |
| فإنهم لم يقولوها عن علم ولا يقين, لا علم منهم, ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم | |
| واتبعوهم, بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. | |
| " كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " أي: | |
| عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها. | |
| وأي شناعة أعظم من وصفه, بالاتخاذ للولد, الذي يقتضي نقصه, ومشاركة غيره له في | |
| خصائص الربوبية, والإلهية, والكذب عليه؟!! " فَمَنْ أَظْلَمُ | |
| مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا " . | |
| ولهذا قال هنا: " إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا " أي: | |
| كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء. | |
| وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج, والانتقال من شيء إلى أبطل منه. | |
| فأخبر أولا: أنه " مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا | |
| لِآبَائِهِمْ " والقول على الله بلا علم, لا شك في منعه وبطلانه. | |
| ثم أخبر ثانيا, أنه قول قبيح شنيع فقال: " كَبُرَتْ كَلِمَةً | |
| تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " . | |
| ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح, وهو: الكذب المنافي للصدق. | |
" فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا | |
| " | |
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم, حريصا على هداية الخلق, ساعيا في | |
| ذلك أعظم السعي, فكان صلى الله عليه وسلم, يفرح ويسر بهداية المتدين, ويحزن ويأسف | |
| على المكذبين الضالين, شفقة منه صلى الله عليه وسلم, عليهم ورحمة بهم, أرشده الله | |
| أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء, الذين لا يؤمنون بهذا القرآن, كما قال في | |
| الأخرى. | |
| " ولعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " . | |
| وقال " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وهنا قال " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ " أي: مهلكها, غما | |
| وأسفا عليهم, وذلك أن أجرك, قد وجب على الله. | |
| وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا, لهداهم. | |
| ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار, فلذلك خذلهم, فلم يهتدوا. | |
| فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم, ليس فيه فائدة لك. | |
| وفي هذه الآية ونحوها عبرة. | |
| فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله, عليه التبليغ, والسعي بكل سبب يوصل إلى | |
| الهداية, وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه, مع التوكل على الله في ذلك, فإن | |
| اهتدوا فبها ونعمت, وإلا فلا يحزن ولا يأسف. | |
| فإن ذلك مضعف للنفس, هادم للقوى, ليس فيه فائدة, بل يمضي على فعله, الذي كلف به | |
| وتوجه إليه. | |
| وما عدا ذلك, فهو خارج عن قدرته. | |
| وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: " إنك لا | |
| تهدي من أحببت " وموسى عليه السلام يقول: " رب | |
| إني لا أملك إلا نفسي وأخي " الآية, فمن عداهم من باب أولى وأحرى, قال | |
| تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر " . | |
" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " | |
يخبر تعالى, أنه جعل جميع ما على وجه الأرض, من مآكل لذيذة, ومشارب, | |
| وملابس طيبة, وأشجار, وأنهار, وزروع, وثمار, ومناظر بهيجة, ورياض أنيقة, وأصوات | |
| شجية, وصور مليحة, وذهب وفضة, وخيل وإبل ونحوها, الجميع جعله الله زينة لهذه | |
| الدار, فتنة واختبارا. | |
| " لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " أي: | |
| أخلصه وأصوبه, ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات, فانية مضمحلة, وزائلة | |
| منقضية. | |
| وستعود الأرض, صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها, وانقطعت أنهارها, واندرست أشجارها, وزال | |
| نعيمها. | |
| وهذة حقيقة الدنيا, قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين, وحذرنا من الاغترار بها. | |
| ورغبنا في دار يدوم نعيمها, ويسعد مقيمها, كل ذلك رحمة بنا. | |
| فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها, من نظر إلى ظاهر الدنيا, دون باطنها. | |
| فصحبوا الدنيا, صحبة البهائم, وتمتعوا بها تمتع السوائم, لا ينظرون في حق ربهم, | |
| ولا يهتمون لمعرفته. | |
| بل همهم تناول الشهوات, من أي وجه حصلت, وعلى أي حالة اتفقت. | |
| فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت, قلق لخراب ذاته, وفوات لذاته, لا لما قدمت يداه, من | |
| التفريط والسيئات. | |
| وأما من نظر إلى باطن الدنيا, وعلم المقصود منها ومنه, فإنه يتناول منها, ما | |
| يستعين به على ما خلق له, وانتهز الفرصة في عمره الشريف. | |
| فجعل الدنيا منزل عبور, لا محل حبور, وشقة سفر, لا منزل إقامة. | |
| فبذل جهده في معرفة ربه, وتنفيذ أوامره, وإحسان العمل. | |
| فهذا بأحسن المنازل عند الله, وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم, وسرور وتكريم. | |
| فنظر إلى باطن الدنيا, حين نظر المغتر إلى ظاهرها, وعمل لآخرته, حين عمل البطال | |
| لدنياه. | |
| فشتان ما بين الفريقين, وما أبعد الفرق بين الطائفتين!! | |
" أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " | |
وهذا الاستفهام بمعنى النفي, والنهي. | |
| أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف, وما جرى لهم, غريبة على آيات الله, وبديعة في | |
| حكمته, وأنه لا نظير لها, ولا مجانس لها. | |
| بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة, ما هو كثير, من جنس آياته في أصحاب | |
| الكهف, وأعظم منها. | |
| فلم يزل الله يرى عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم, ما يتبين به الحق من | |
| الباطل والهدى من الضلال. | |
| وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب, بل هي من آيات الله | |
| العجيبة. | |
| وإنما المراد, أن جنسها كثير جدا, فالوقوف معها وحدها, في مقام العجب والاستغراب, | |
| نقص في العلم والعقل. | |
| بل وظيفة المؤمن, التفكر بجميع آيات الله, التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها, | |
| فإنها مفتاح الإيمان, وطريق العلم والإيقان. | |
| وإضافتهم إلى الكهف, الذي هو الغار في الجبل الرقيم, أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه | |
| أسماؤهم وقصتهم, لملازمتهم له دهرا طويلا. | |
" إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ | |
| لنا من أمرنا رشدا " | |
ثم ذكر قصتهم مجملة, وفصلها بعد ذلك فقال: " إِذْ | |
| أَوَى الْفِتْيَةُ " أي: الشباب. | |
| " إِلَى الْكَهْفِ " يريدون بذلك, التحصن | |
| والتحرز, من فتنة قومهم لهم. | |
| " فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً " أي | |
| تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير " وَهَيِّئْ لَنَا | |
| مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد, وأصلح | |
| لنا أمر ديننا ودنيانا. | |
| فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة, إلى محل يمكن الاستخفاء فيه, وبين تضرعهم | |
| وسؤالهم لله تيسير أمورهم, وعدم اتكالهم على أنفسهم, وعلى الخلق. | |
| فلذلك استجاب الله دعاءهم, وقيض لهم, ما لم يكن في حسابهم قال: " | |
| فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ " أي أنمناهم " سِنِينَ عَدَدًا " وهي: ثلثمائة سنة, وتسع سنين, وفي | |
| النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف, وحفظ لهم من قومهم | |
" ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " | |
" | |
| ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ " أي: من نومهم " لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا | |
| " أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم, كما قال تعالى: " | |
| وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ " الآية, وفي | |
| العلم بمقدار لبثهم, ضبط للحساب, ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى, وحكمته, ورحمته. | |
| فلو استمروا على نومهم, لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك, من قصتهم. | |
" نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى | |
| " | |
هذا شروع في تفصيل قصتهم, وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق, الذي | |
| ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه. | |
| " إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ " وهذا | |
| من جموع القلة, يدل ذلك على أنهم دون العشرة. | |
| " آمَنُوا " بالله وحده لا شريك له من دون قومهم. | |
| فشكر الله لهم إيمانهم, فزادهم هدى. | |
| أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان, زاد الله من الهدى, الذي هو العلم النافع, | |
| والعمل الصالح, كما قال تعالى: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى | |
| " . | |
" وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن | |
| ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " | |
" | |
| وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ " أي صبرناهم | |
| وثبتناهم, وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة, وهذا من لطفه تعالى بهم | |
| وبره, أن وفقهم للإيمان والهدى, والصبر والثبات, والطمأنينة. | |
| " إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ | |
| وَالْأَرْضِ " أي: الذي خلقنا ورزقنا, ودبرنا وربانا, هو خالق | |
| السماوات والأرض, المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة, لا تلك الأوثان والأصنام, | |
| التي لا تخلق ولا ترزق, ولا تملك نفعا ولا ضرا, ولأ موتا ولا حياة ولا نشورا, | |
| فاستدلوا بتوحيد الربوبية, على توحيد الإلهية, ولهذا قالوا: " | |
| لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا " أي: من سائر المخلوقات " لَقَدْ قُلْنَا إِذًا " أي: إن دعونا معه آلهة, بعد | |
| ما علمنا أنه الرب, الإله الذي لا تجوز, ولا تنبغي العبادة, إلا له " شَطَطًا " أي: ميلا عظيما عن الحق, وطريقا بعيدة عن | |
| الصواب. | |
| فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية, وتوحيد الإلهية, والتزام ذلك, وبيان أنه | |
| الحق, وما سواه باطل. | |
| وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم, وزيادة الهدى من الله لهم. | |
" هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين | |
| فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " | |
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى والتقوى, التفتوا إلى | |
| ما كان عليه قومهم, من اتخاذ الآلهة من دون الله, فمقتوهم, وبينوا أنهم ليسوا على | |
| يقين من أمرهم, بل في غاية الجهل والضلال فقالوا: " لَوْلَا | |
| يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ " أي: بحجة وبرهان, على ما | |
| هم عليه من الباطل, ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك, وإنما ذلك, افتراء منهم على الله, | |
| وكذب عليه. | |
| وهذا أعظم الظلم, ولهذا قال: " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ | |
| افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا " | |
" وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم | |
| ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " | |
أي: قال بعضهم لبعض, إذ حصل لكم اعتزال | |
| قومكم في أجسامكم وأديانكم, فلم يبق إلا النجاء من شرهم والتسبب بالأسباب المفضية | |
| لذلك لأنه لا سبيل لهم إلى قتالهم, ولا إلى بقائهم بين أظهرهم, وهم على غير دينهم. | |
| " فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ " أي انضموا إليه | |
| واختفوا فيه " يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ | |
| وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا " . | |
| وفيما تقدم, أخبر أنهم دعوه بقولهم " ربنا آتنا من لدنك رحمة | |
| وهيئ لنا من أمرنا رشدا " , فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم, | |
| والالتجاء إلى الله, في صلاح أمرهم, ودعائه بذلك, وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك. | |
| لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته, وهيأ لهم من أمرهم مرفقا. | |
| فحفظ أديانهم وأبدانهم, وجعلهم من آياته على خلقه, ونشر لهم من الثناء الحسن, ما | |
| هو من رحمته بهم, ويسر لهم كل سبب, حتى المحل الذي ناموا فيه, كان على غاية ما | |
| يمكن من الصيانة, ولهذا قال: " وَتَرَى الشَّمْسَ " إلى | |
| قوله " مِنْهُمْ رُعْبًا " . | |
" وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت | |
| تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن | |
| يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " | |
أي: حفظهم الله من الشمس, فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس, تميل عنه | |
| يمينا, وعند غروبها, تميل عنه شمالا, فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها. | |
| " وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ " أي: من الكهف أي: | |
| مكان متسع, وذلك ليطرقهم الهواء, والنسيم, ويزول عنهم الوخم, والتأذي بالمكان | |
| الضيق, خصوصا مع طول المكث. | |
| وذلك من آيات الله, الدالة على قدرته ورحمته, وإجابة دعائهم وهدايتهم, حتى في هذه | |
| الأمور, ولهذا قال: " مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ | |
| الْمُهْتَدِي " أي: لا سبيل إلى نيل الهداية, إلا من الله, فهو الهادي | |
| المرشد لمصالح الدارين. | |
" وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا | |
| لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى | |
| المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا | |
| " | |
يقول تعالى: وكذلك بعثناهم من نومهم الطويل, | |
| ليتساءلوا بينهم, أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة, من مدة لبثهم. | |
| " قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا | |
| يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " وهذا مبني على ظن القائل. | |
| وكأنهم وقع عندهم اشتباه. | |
| في طول مدتهم, فلهذا " قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا | |
| لَبِثْتُمْ " . | |
| فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء, جملة وتفصيلا. | |
| ولعل الله تعالى - بعد ذلك - أطلعهم على مدة لبثهم, لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم, | |
| وأخبر أنهم تساءلوا, وتكلموا بمبلغ ما عندهم, وصار آخر أمرهم, الاشتباه. | |
| فلا بد أن يكون قد أخبرهم: يقينا, علمنا ذلك من حكمته في بعثهم, وأنه لا يفعل ذلك | |
| عبثا. | |
| ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها, وسعى لذلك ما أمكنه, فإن | |
| الله يوضح له ذلك, وبما ذكر فيما بعده من قوله. | |
| " وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ | |
| وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا " . | |
| فلولا أنه حصل العلم بحالهم, لم يكونوا دليلا على ما ذكر. | |
| ثم إنهم لما تساءلوا بينهم, وجرى منهم ما أخبر الله به, أرسلوا أحدهم بورقهم, أي: | |
| بالدراهم, التي كانت معهم, ليشتري لهم طعاما يأكلونه, من المدينة, التي خرجوا | |
| منها, وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه أي: أطيبه وألذه, وأن يتلطف في ذهابه | |
| وشرائه وإيابه, وأن يختفي في ذلك, ويخفي حال إخوانه, ولا يشعرن بهم أحدا. | |
| وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليها, وظهورهم عليهم, أنهم بين أمرين. | |
| إما الرجم بالحجارة, فيقتلونهم أشنع قتلة, لحنقهم عليهم وعلى دينهم. | |
| وإما أن يفتنوهم عن دينهم, ويردوهم في ملتم. | |
| وفي هذه الحال, لا يفلحون أبدا, بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم. | |
| وقد دلت هاتان الآيتان, على عدة فوائد. | |
| منها: الحث على العلم, وعلى المباحثة فيه, لكون الله بعثهم لأجل ذلك. | |
| ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم, أن يرده إلى عالمه, وأن يقف عند حده. | |
| ومنها: صحة الوكالة في البيع وللشراء, وصحة الشركة في ذلك. | |
| ومنها: جواز أكل الطيبات, والمطاعم اللذيذة, إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي | |
| عنه لقوله " فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا | |
| فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ " . | |
| وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك. | |
| ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين, القائلين بأن هؤلاء, أولاد ملوك لكونهم أمروه | |
| بأزكى الأطعمة, التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها. | |
| ومنها: الحث على التحرز, والاستخفاء, والبعد عن مواقع الفتن في الدين, واستعمال | |
| الكتمان في ذلك على الإنسان. | |
| وعلى إخوانه في الدين. | |
| ومنها: شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين, وفرارهم من كل فتنة, في دينهم وتركهم | |
| أوطانهم في الله. | |
| ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر, من المضار والمفاسد, الداعية لبغضه, وتركه. | |
| وأن هذه الطريقة, هي طريقة المؤمنين المتقدمين, والمتأخرين لقولهم: " وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا " . | |
" وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب | |
| فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين | |
| غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " | |
يخبر تعالى, أنه أطلع الناس على حال أهل | |
| الكهف. | |
| وذلك - والله أعلم - بعدما استيقظوا, وبعثوا أحدهم, يشتري لهم طعاما, وأمروه | |
| بالاستخفاء والإخفاء. | |
| فأراد الله أمرا, فيه صلاح للناس, وزيادة أجر لهم, وهو أن الناس رأوا منهم آية من | |
| آيات الله, المشاهدة بالعيان, على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد, | |
| بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم. | |
| فمن مثبت للوعد والجزاء, ومن ناف لذلك. | |
| فجعل قصتهم, زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين, وحجة على الجاحدين, وصار لهم أجر هذه القضية. | |
| وشهر الله أمرهم, ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم. | |
| " فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا " الله | |
| أعلم بحالهم ومآلهم. | |
| وقال من غلب على أمرهم - وهم الذين لهم الأمر: " | |
| لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا " أي: نعبد الله تعالى فيه, | |
| ونتذكر به أحوالهم, وما جرى لهم. | |
| وهذة الحالة محظورة, نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم, وذم فاعليها ولا يدل | |
| ذكرها هنا, على عدم ذمها, فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم, وأن هؤلاء | |
| وصل بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم, | |
| وحذرهم من الاطلاع عليهم, فوصلت الحال إلى ما ترى. | |
| وفي هذه القصة, دليل على أن من فر بدينه من الفتن, سلمه الله منها. | |
| وأن من حرص على العافية, عافاه الله. | |
| ومن أوى إلى الله, آواه الله, وجعله هداية لغيره. | |
| ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته, كان آخر أمره وعاقبته, العز العظيم, من | |
| حيث لا يحتسب " وما عند الله خير للأبرار " . | |
" سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما | |
| بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا | |
| تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " | |
يخبر تعالى, عن اختلاف أهل الكتاب, في عدة | |
| أصحاب الكهف, اختلافا, صادرا عن رجمهم بالغيب, وتقواهم بما لا يعلمون, وأنهم فيهم | |
| على ثلاثة أقوال: منهم: من يقول: ثلاثة, رابعهم كبهم, ومنهم من يقول: خمسة, سادسهم | |
| كلبهم. | |
| وهذان القولان, ذكر الله بعدهما أن هذا رجم منهم بالغيب فدل على بطلانهما. | |
| ومنهم من يقول: سبعة, وثامنهم كلبهم. | |
| وهذا والله أعلم هو الصواب, لأن الله أبطل الأولين, ولم يبطله فدل على صحته. | |
| وهذا من الاختلاف, الذي لا فائدة تحته, ولا يحصل بمعرفة عددهم, مصلحة للناس, | |
| دينية, ولا دنيوية, ولهذا قال تعالى: " قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ | |
| بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ " وهم الذين, أصابوا | |
| الصواب وعلموا إصابتهم. | |
| " فَلَا تُمَارِ " تجادل وتحاج فيهم " إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا " أي: مبنيا على العلم | |
| واليقين, ويكون أيضا فيه فائدة. | |
| وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب, أو التي لا فائدة فيها. | |
| إما أن يكون الخصم معاندا, أو تكون المسئلة لا أهمية فيها, ولا تحصل فائدة دينية | |
| بمعرفتها, كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك, فإن في كثرة المناقشات فيها, والبحوث | |
| المتسلسلة, تضييعا للزمان, وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة. | |
| " وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ " أي: في شأن أهل | |
| الكهف " مِنْهُمْ " أي: من أهل الكتاب " أَحَدًا " وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم | |
| بالغيب والظن, الذي لا يغني من الحق شيئا. | |
| ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى, إما لقصوره في الأمر المستفتى | |
| فيه, أو لكونه لا يبالي بما تكلم به, وليس عنده ورع يحجزه. | |
| وإذا نهى عن استفتاء هذا الجنس, فنهيه هو عن الفتوى, من باب أولى وأحرى. | |
| وفي الآية أيضا, دليل على أن الشخص, قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء, دون آخر. | |
| فيستفتى فيما هو أهل له. | |
| بخلاف غيره, لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا, إنما نهى عن استفتائهم في قصة | |
| أصحاب الكهف, وما أشبهها. | |
" ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " | |
هذا النهي كغيره, وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم | |
| فإن الخطاب عام للمكلفين. | |
| فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة " إني فاعل ذلك | |
| " من دون أن يقرنه بمشيئة الله, وذلك لما فيه من المحذور, وهو: الكلام | |
| على الغيوب المستقبلة, التي لا يدري, هل يفعلها أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد | |
| الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا. | |
| وذلك محذور محظور, لأن المشيئة كلها لله " وما تشاءون إلا أن | |
| يشاء الله رب العالمين " ولما في ذكر مشيئة الله, من تيسير الأمر | |
| وتسهيله, وحصول البركة فيه, والاستعانة من العبد لربه, ولما كان العبد بشرا, لا بد | |
| أن يسهو عن ذكر المشيئة, أمره الله أن يستثنى بعد ذلك, إذا ذكر, ليحصل المطلوب, | |
| وينفع المحذور. | |
| ويؤخذ من عموم قوله " وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ " | |
| الأمر بذكر الله عند النسيان, فإنه يزيله, ويذكر العبد ما سها عنه. | |
| وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله, أن يذكر ربه, ولا يكونن من الغافلين. | |
| ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة, وعدم الخطأ, في أقواله | |
| وأفعاله, أمره الله أن يقول: " عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي | |
| لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا " . | |
| فأمره أن يدعو الله ويرجوه, ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. | |
| وحري بعبد, تكون هذه حاله, ثم يبذل جهده, ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد, أن | |
| يوفق لذلك, وأن يأتيه المعونة من ربه, وأن يسدده في جميع أموره. | |
" ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " | |
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب, في شأن أهل الكهف - لعدم علمهم | |
| بذلك, وكان الله, عالم الغيب والشهادة, العالم بكل شيء - أخبره الله بمدة لبثهم, | |
| وأن علم ذلك, عنده وحده, فإنه من غيب السماوات والأرض, وغيبها مختص به. | |
| فما أخبر به عنها على ألسنة رسله, فهو الحق اليقين, الذي لا شك فيه. | |
| وما لا يطلع رسله عليه, فإن أحدا من الخلق, لا يعلمه. | |
| وقوله: " أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ " تعجب من كل | |
| سمعه وبصره, وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات, بعدما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. | |
| ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة, فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع | |
| الكون, الولي لعباده المؤمنين, يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى, | |
| ويجنبهم العسرى, ولهذا قال: " مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ | |
| وَلِيٍّ " . | |
| أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف, بلطفه وكرمه, ولم يكلهم إلى أحد من الخلق. | |
| " وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا " وهذا | |
| يشمل الحكم الكوني القدري, والحكم الشرعي الديني, فإنه الحاكم في خلقه, قضاء | |
| وقدرا, وخلقا وتدبيرا والحاكم فيهم, بأمره ونهيه, وثوابه وعقابه. | |
" واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه | |
| ملتحدا " | |
ولما أخبر أنه تعالى, له غيب السماوات والأرض, فليس لمخلوق إليها طريق, | |
| إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده, وكان هذا القرآن, قد اشتمل على كثير من | |
| الغيوب, أمر تعالى بالإقبال عليه فقال: " واتل " إلى | |
| قوله " ملتحد " . | |
| التلاوة, هي الاتباع أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها, وتصديق | |
| أخباره, وامتثال أوامره ونواهيه, فإنه الكتاب الجليل, الذي لا مبدل لكلماته, أي: | |
| لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها, وبلوغها من الحسن, فوق كل غاية " | |
| وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " . | |
| فلكمالها, استحال عليها التغيير والتبديل. | |
| فلو كانت ناقصة, لعرض لها ذلك, أو شيء منه. | |
| وفي هذا, تعظيم للقرآن, في ضمنه, الترغيب على الإقبال عليه. | |
| " وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا " أي: | |
| لن تجد من دون ربك, ملجأ تلجأ إليه, ولا معاذا تعوذ به. | |
| فإذا تعين أنه وحده, الملجأ في كل الأمور, تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه, | |
| في السراء والضراء, المفتقر إليه في جميع الأحوال, المسئول في جميع المطالب. | |
" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا | |
| تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع | |
| هواه وكان أمره فرطا " | |
يأمر تعالى نبيه محمدا, صلى الله عليه وسلم, وغيره أسوته, في الأوامر | |
| والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين " | |
| الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " أي: أول | |
| النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله. | |
| فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها. | |
| ففيها الأمر, بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم, ومخالطتهم وإن كانوا فقراء | |
| فإن في صحبتهم من الفوائد, ما لا يحصى. | |
| " وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ " أي: لا | |
| تجاوزهم بصرك, وترفع عنهم نظرك. | |
| " تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فإن | |
| هذا ضار غير نافع, وقاطع عن المصالح الدينية. | |
| فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا, فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب, | |
| الرغبة في الآخرة, فإن زينة الدنيا, تروق للناظر, وتسحر القلب, فيغفل القلب عن ذكر | |
| الله, ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته, وينفرط أمره, فيخسر الخسارة الأبدية, | |
| والندامة السرمدية ولهذا قال: " وَلَا تُطِعْ مَنْ | |
| أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا " غفل عن الله, فعاقبه بأن أغفله | |
| عن ذكره. | |
| " وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي: صار تبعا لهواه, حيث | |
| ما اشتهت نفسه فعله, وسعى في إدراكه, ولو كان فيه هلاكه وخسرانه, فهو قد اتخذ إلهه | |
| هواه كما قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله | |
| على علم " الآية. | |
| " وَكَانَ أَمْرُهُ " أي: مصالح دينه ودنياه " فُرُطًا " أي: ضائعة معطلة. | |
| فهذا قد نهى الله عن طاعته, لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به, ولأنه لا يدعو إلا | |
| لما هو متصف به. | |
| ودلت الآية, على أن الذي ينبغي أن يطاع, ويكون إماما للناس, من امتلأ قلبه بمحبة | |
| الله, وفاض ذلك على لسانه, فلهج بذكر الله, واتبع مراضي ربه, فقدمها على هواه, | |
| فحفظ بذلك ما حظ من وقته, وصلحت أحواله, واستقامت أفعاله, ودعا الناس إلى ما من | |
| الله به عليه. | |
| فحقيق بذلك, أن يتبع ويجعل إماما. | |
| والصبر, المذكور في هذه الآية, هو الصبر على طاعة الله, الذي هو أعلى أنواع الصبر, | |
| وبتمامه يتم باقي الأقسام. | |
| وفي الآية, استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار, لأن الله مدحهم بفعله. | |
| وكل فعل مدح الله فاعله, دل ذلك على أن الله يحبه, وإذا كان يحبه فإنه يأمر به, | |
| ويرغب فيه. | |
" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا | |
| للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس | |
| الشراب وساءت مرتفقا " | |
أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم. | |
| أي: قد تبين الهدى من الضلال, والرشد من الغي, وصفات أهل السعادة, وصفات أهل | |
| الشقاوة, وذلك بما بينه الله على لسان رسوله. | |
| فإذا بان واتضح, ولم يبق فيه شبهة. | |
| " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ | |
| " أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين, بحسب توفيق العبد, وعدم توفيقه. | |
| وقد أعطاه الله مشيئة, بها يقدر على الإيمان والكفر, والخير والشر فمن آمن, فقد | |
| وفق للصواب, ومن كفر, فقد قامت عليه الحجة, وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " . | |
| ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: " إِنَّا أَعْتَدْنَا | |
| لِلظَّالِمِينَ " بالكفر والفسوق والعصيان " | |
| نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا " أي: سورها المحيط بها. | |
| فليس لهم منفذ, ولا طريق, ولا مخلص منها, تصلاهم النار الحامية. | |
| " وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا " أن يطلبوا الشراب, | |
| ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد. | |
| " يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ " أي: كالرصاص | |
| المذاب, أو كعكر الزيت, من شدة حرارته. | |
| " يَشْوِي الْوُجُوهَ " أي: فكيف بالأمعاء | |
| والبطون, كما قال تعالى " يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم | |
| مقامع من حديد " . | |
| " بِئْسَ الشَّرَابُ " الذي يراد ليطفئ العطش, | |
| ويدفع بعض العذاب, فيكون زيادة في عذابهم, وشدة عقابهم. | |
| " وَسَاءَتْ " النار " | |
| مُرْتَفَقًا " وهذا ذم لحالة النار, أنها ساءت المحل, الذي يرتفق به. | |
| فإنها ليست فيها ارتفاق, وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة, | |
| وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير, ونسيهم الرحيم في العذاب, كما نسوه. | |
|   أكثر المصاحف تفاعلاً |