صفات الفرقة الناجية


بسم الله الرحمن الرحيم





الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلِحون.

عباد الله، إنَّ ربكم جلَّت عظمته وتقدَّست أسماؤه بعث صفيَّه محمّدًا على فَترةٍ, من الرّسُل، وأنزل عليه الكتابَ والحِكمة، ودعَا إلى ربِّه على بصيرةٍ,، فعلِم الناس من القرآن، وعلِموا من السنّة، وفقهوا في دين الله - تعالى -، وما لحِق رسولُ الله بالرّفيق الأعلى حتى ترَك أمّتَه على المنهاجِ الواضح والصّراط المستقيم، قال - تعالى -: \" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السٌّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ \" [الأنعام: 153]، وقال: ((تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالك))[1].



فبيَّن الله - تعالى -أصولَ الإيمان وصفاتِ المؤمنين، فقال جلّ ذكره: \" لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلٌّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُم المُتَّقُونَ \" [البقرة: 177]. وبيَّن الرسولُ مراتبَ الدينِ في الحديث لمّا سأله جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - وهي الإسلام والإيمان والإحسان[2]، وسنَّ - عليه الصلاة والسلام - السّنَن، وشرَع الأحكام، وفصَل الحلال والحرام، وبيَّن مسائل العقيدةِ أكمَلَ بيان، وحقَّق - عليه الصلاة والسلام - مقامَاتِ العبودية لربِّه، وكفى نبيَّنا محمّدًا شرفًا وقَدرًا ثناءُ الله - تعالى -عليه بقوله: \" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ, \" [القلم: 4].



والصّحابة - رضي الله عنهم - تربيةُ رسول الله ونقَلَةُ الشريعةِ والمجاهدون في سبيلِ الله، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه - عليه الصلاة والسلام -، ووصَفهم الربٌّ - تبارك وتعالى - بالإيمان الكامِل والسَّبق إلى الخيراتِ وفِعل الصّالحات فقال - تعالى -: \" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُم المُؤمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ \" [الأنفال: 74]، وقال - تعالى -: \" وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ, رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ \" [التوبة: 100]، وأثنى عليهم في قوله: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[3].



فالسّلف الصّالح حقَّقوا الحياةَ العمليّة للإسلام، وعمِلوا بالدين في حياتهم الخاصَةِ والعامّة، وطبَّقوه التطبيقَ الكامل، وهم القدوةُ في العمل بتعاليمِ الإسلام لمن أتى بعدَهم، فكانت سيرتهم منارًا للأجيالِ بعدَهم في العِلم والعمَل، فمن اتَّبع طريقَهم اهتدى وفاز بجنّاتِ النعيم، ومن خالفهم ضلَّ وغوَى وكان من الخاسرين.



ولما كان السلف - رضي الله عنهم - أكملَ الناس عِلمًا وعملاً وأشدَّ الناس اقتداءً بالنبيِّ رغَّب - عليه الصلاة والسلام - في لزومِ ما كان عليه هو وصحابتُه، وأمر بالتمسّك بما كانوا عليه من الهدَى، وأخبر أنّ الفِرقة الناجية عند اختلافِ الأمة هي ما كان عليه الرسول وأصحابه، فقال: ((افترقَتِ اليهود على إحدَى وسبعين فرقة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسبعين فرقة، وستفترِق هذه الأمّة على ثلاثٍ, وسبعين فرقة، كلٌّها في النارِ إلا واحدة))، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي))[4]. وقوله: ((كلٌّها في النار)) هذا من الوعيدِ المعلوم تفسيرُه عند السلف، وهذه الزيادةُ وهي قوله: ((مَن كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي)) رواها الآجري من طُرق[5]، ومعناها لا شكَّ في صحَّته.



وقد وقع ما أخبرَ به النبيّ من الاختلاف والفُرقة، ولكنّنا كُلِّفنا بالاعتصامِ بالكتاب والسنّة ونَبذِ الخلاف والفُرقة، وأُمِرنا أن نكونَ من الفرقة الناجية التي علِمت الحقَّ وعمِلت به، قال الله - تعالى -: يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].



وكلٌّ فِرقة منَ الفرَق الإسلاميّة تزعم أنها على الحقِّ وغيرها على الباطل، ولكن ليس للدّعاوى وزنٌ عند الله ما لم يكن لها بيِّناتٌ من العِلم النافِع والعمَل الصّالح، وقد بيَّن الله - تعالى - في كتابِه صفاتِ هذه الفرقةِ النّاجية، وجلَّى أمرَها رسولُ اللهº ليكونَ المسلم على بصيرةٍ, من دينهِ وعلى نورٍ, من ربِّه، وَمَن لَم يَجعَل اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ, [النور: 40].



فمِن صفاتِ هذه الفِرقة الناجية الاتباعُ بإحسانٍ, لسلف الأمّة السابقين - رضي الله عنهم -، قال الله - تعالى -: \" وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ, رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ \" [التوبة: 100].



والاتباعُ هو الاقتداء بهم في توحيدِ العبادة لله - تعالى -بإفرادِ الدعاء لله وحدَه وإفرادِ الاستعانة والاستغاثة بالله وحدَه والاستعاذة، فلا يُدعَى مع الله غيره، ولا يُستعان بغيرِ الله، ولا يُشرَك مع الله - عز وجل - في أيِّ نوع من أنواع العبادة، وإثباتِ صفات الله - عز وجل - التي وصف بها نفسَه ووصفه بها رسوله إثباتَ معنى، لا إثباتَ كيفيّة، وتنزيهِ الربّ - تبارك وتعالى - عن كلِّ ما لا يليق به، فإنَّ السلف - رضي الله عنهم - كانت معاني صفاتِ الله - تعالى -أظهرَ عندهم من معاني الأحكامِ العمليّة، ولذلك لم يسألوا عن معانيها كما سألوا في الأحكامِ، والوقوفِ حيث انتهَوا إليه في أمورِ العبادة وأحكامِ الدّين.



ومِن صفاتِ فرقةِ الحقّ الناجية الاعتصامُ بكتاب الله - تعالى - وسنّة رسوله وردٌّ التنازع والاختلافِ إلى ذلك، قال الله - تعالى -: \" وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا \" [آل عمران: 103]، وقال - عز وجل -: \" فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ \" [النساء: 59]، وتأويلُ القرآن وتفسيره بالقرآنِ وبالسنة وبأقوال الصحابةِ والتابعين، فإنَّ الله - تعالى - ذمَّ من اتَّبع المتشابِهَ وأوَّل بالرّأي، ومدح الرّاسخين في العلم المتّبعين غيرَ المبتدعين.



ومِن صفات فرقةِ الحقِّ الناجية التمسٌّكُ بما أجمع عليه السلفُ وما أجمَع عليه علماء الأمّة وعدَمُ المشاقَّة لله ولرسوله، قال الله - تعالى -: \" وَمَن يُشَاقِق الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا \" [النساء: 115].



ومِن صفات هذه الفِرقة الناجيةِ تعظيمُ قولِ رسول الله وسنّته والعنايةُ بآثارِه بحفظِها والذبِّ عنها والرضَا بتحكيمِها، قال الله - تعالى -: \" إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ \" [النور: 51]، وقال - تعالى -: \" فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [النساء: 65]، وروى الآجري بسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال لرجلٍ, يقول: لا أعمَل إلا بما في كتابِ الله - تعالى -: (إنّك أحمَق، أَتَجِد في كتاب الله - عز وجل - الظهرَ أربعًا لا يُجهَر فيها بالقراءة؟!) ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاة ونحوهما، ثم قال: (أتّجِد هذا في كتاب الله - عز وجل - مفسَّرًا؟! إنَّ كتاب الله - جل وعلا - أحكَمَ ذلك، وإنّ السنة تفسِّر ذلك)[6]، وروَى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال في الواشمة والمستوشمة والمتنمّصة: (ما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله وهو في كتاب الله: وَمَا آتَاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]؟!)[7].



ومِن صفات فِرقة الحقّ الناجية بذلُ الجهد في معرفةِ الحقّ ودلائله وعدمُ الرضا بأقوالِ الرجل في دين الله ممّا لا يؤيِّده كتابٌ ولا سنّة ولا أصلٌ أصَّلَه علماء المسلمين، قال الله - تعالى -: \" الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُم اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُم أُولُوا الأَلبَابِ \" [الزمر: 18]، وقال - تعالى -: \" اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ \" [الأعراف: 3].



ومِن صفات هذه الفرقة الناجية محبّةُ المؤمنين ورَحمة المسلمين ونُصحهم وكفٌّ الأذى والشرِّ عنهم، قال الله - تعالى -: \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ \" [المائدة: 54].



ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية سلامةُ قلوبهم وألسنتِهم لسلفِ الأمّة - رضي الله عنهم - ومحبّتُهم، قال الله - تعالى -: \" وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلإِخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ \" [الحشر: 10]. وهذا بخلافِ ما عليه طوائفُ من الفِرَق الإسلامية من سبِّهم ولعنهم للصّحابة وسبِّهم لخِيار الأمة وساداتِ الأولياء - رضي الله عنهم -.



ومّن صفات هذه الفرقةِ الناجية القيامُ بالدين عمَلاً به ودعوةً إليه وإقامةً للحجة على المخالفين وجهادًا في سبيله، قال الله - تعالى -: \" فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ, \" [المائدة: 54]، وروى مسلم في صحيحه أنَّ النبيَّ قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذَلهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك))[8].



ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية النصيحةُ لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمة المسلمِين وعامّتهم، وطاعةُ ولاة الأمر وأمرُهم بالمعروف ونهيُهم عن المنكر بالحكمة والصّواب، وطاعتُهم في المعروف وعدمُ الخروج عليهم ما لم يكن كفرٌ بواح فيه من الله برهان، بخلاف بدعةِ الخوارج الذين يستحلّون دماءَ المسلمين وأموالهم، ويرَونَ الخروجَ على الأئمّة ويستحلّون قتلَ النفوس المعصومَةِ.



ثم إنَّ أهلَ البدعِ قسمان: أئمّةٌ وأتباع، والأئمّة من أهلِ البدع منهم من انتحَلَ مذهبَه بسوءِ قصدٍ, وكيد للإسلام، ومنهم من انتحَلَه بحسن نيَّةٍ,، وكلُّ هالك إلاّ أن يتوبوا ويكونوا مع المؤمِنين، قال الله - تعالى -: \" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِن عِندِ رَبِّنَا \" [آل عمران: 7].



أيّها المسلم، تمسّك بما كان عليه سلفُ الأمّة الذين - رضي الله عنهم - ورضوا عنه، ووعدَهم الجنّة، وشهد لهم بالإيمانِ الكامل، وعُضَّ على ذلك بالنواجِذ، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين، ولا تستوحِش من قلّةِ السالكين.



ومِن صفاتِ هذه الفرقةِ الناجية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والدّعوة إلى دين الله بالحِكمة والموعظة الحسنة وتبليغُ الحقِّ للناس، قال الله - تعالى -: \" كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَن المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ \" [آل عمران: 110]، ويقول: ((مَن رأى مِنكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)) رواه مسلم[9]، والتّغييرُ باليدِ للسّلطان ونُوَّابه. ويقول- تبارك وتعالى -: \" قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا وَمَن اتَّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِن المُشرِكِينَ \" [يوسف: 108].



هذه صفاتُ الفرقة الناجية من الفِرق الإسلامية التي تسير على نهجِ سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان، فكونوا على نهجهِم وسبيلِهم تفوزوا بخيرَي الدنيا والآخرة.



يا معشر المسلمين، وقد حذّر رسولُ الله من مخالفةِ هديِه وهدي أصحابه الأخيار، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((وإياكم ومحدثاتِ الأمورº فإنّ كلَّ بدعةٍ, ضلالة))[10]، قال الله - تعالى -: \" فَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ \" [هود: 12].

بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعَنا بِهديِ سيّد المرسلين وبقولهِ القويم، أقول قولِي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



----------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (4/126)، وابن ماجه في مقدمة السنن (43)، وابن أبي عاصم في السنة (48)، والطبراني في الكبير (18/257) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -، وصححه الحاكم (331)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/47)، وهو في السلسلة الصحيحة (937).

[2] حديث سؤال جبريل - عليه السلام - للنبي عن الإسلام والإيمان والإحسان أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورواه مسلم أيضا في الإيمان (8) من حديث عمر - رضي الله عنه -.

[3] أخرجه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -.

[4] أخرجه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - نحوه، وقال: \"هذا حديث حسن غريب\"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2129). وفي الباب عن عدد من الصحابة.

[5] الشريعة (23، 24، 25).

[6] الشريعة (104).

[7] مسند أحمد (1/433).

[8] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1920) عن ثوبان - رضي الله عنه -.

[9] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد - رضي الله عنه -.

[10] جزء من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - المشهور، أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: \"هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين\"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).



الخطبة الثانية:

الحمد لله علاّم الغيوب غفّار الذنوب، يفرِّج الكروب ويهدي القلوب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، خيرتُه من خلقِه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أمّا بعد: فاتّقوا الله وأطيعوه، فمن تمسَّك بتقواه فاز بالأجرِ العظيم ونُجِّيَ من عذابٍ, أليم.

أيها المسلمون، لقد حذَّر الله - تعالى - من الفِتَن، ونهى عن الفُرقة والخلاف، وأمر بالاجتماعِ والتعاون على الخيرِ والائتلاف، فقال - تعالى - : \" وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ, مِن النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ \" [آل عمران: 103].



وتحذيرُ القرآن والسنّةِ من الفتنِ ومِنَ الفُرقة لأنّها تذهَب بالدين أو تُضعفه أو تُنتَهَك فيها الحرُمات والأعراض أو تَذهب بالأموال وتفسِد الحياةَ الدنيا، وفي الحديث: ((إيّاكم والفتنَ))[1].



ومِن الفِتن في هذا الزمان القنواتُ التي تهدِم الدينَ والأخلاق وتدعو إلى الانحراف، وكذلك المواقِعُ الضارّة في شبكةِ المعلوماتِ وما أكثرَها، فإنها تدعو إلى كلِّ شرٍّ, وتصدٌّ عن كلِّ خَير، وتحسِّن محاكاةَ الأمَمِ غيرِ الإسلامية في كلّ شيء، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: ((لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلَكم حذوَ القُذّة بالقذّةِ حتى لو دخَلوا جحرَ ضبٍّ, لدخلتموه)) رواه البخاري ومسلم[2]، وإخبارُه بذلك لتحذيرِ أمّته من التشبّه بالكفار.



وإنَّ من القنواتِ المفسِدة التي يجِب علَى المسلمِ الحذرُ مِنها ومُقاطعتُه لها هي وأمثالها قناةُ الإصلاح وفَقيهُها التي تبثّ السمومَ بين المسلِمين وتدعو بين وقتٍ, وآخر إلى المظاهراتِ والتّخريب، كما نحذّر كلّ مسلِمٍ, ممّن ينتهج هذا النّهج الذي يدعُو إلى الفوضَى والإفسادِ في الأرض، فإنّ هذه المظاهراتِ عملٌ غوغائيّ فوضويّ ممقوت، لا تجوز المشاركةُ فيها شرعًا، ولا الذهابُ إلى مكانها للمشاهَدةِ والتّسليةº لأنّه تكثير لسوادِ أهلها، ولأنّ فيه نوعًا من تأييدِها، ولأنها تعرّض المسلمين للخطر في الأنفسِ والأموال، قال الله - تعالى -: \" وَلا تَتَّبِع سَبِيلَ المُفسِدِينَ \" [الأعراف: 142]. وإنها لا مكانَ لها في بلادنا ولله الحمد، ويجب أن لا يكونَ لها مكانٌ في بلاد المسلمين، وكلّ من ينتهج نهجَ التخريب والإفساد والعُدوان والظلم لا يمتٌّ عملُه هذا إلى الإسلام بأيِّ صِلةٍ, وإن سمَّى عملَه جِهادًا وإصلاحًا، فالعِبرة بالمعاني والمسَمَّيات، وليستِ العبرةُ بالأسماء.



عبادَ الله، \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56]، وقد قَالَ: ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدَة صلّى الله عليه بها عشرًا)).

فصلٌّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسَلين.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...



--------------------------------

[1] رواه ابن ماجه في الفتن (3968)، وابن عدي في الكامل (6/177) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وإسناده مسلسل بالضعفاء، ولذا قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (860): \"ضعيف جدا\".

[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7320)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2669) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - نحوه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply