حكمة الوقف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حاول العلماء استجلاء حكمة الوقف من خلال النظر في الغاية منه، والثمرة المترتبة عليه، فأجملها البعض بقوله: (حكمة الوقف أو سببه، في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة تحصيل الثواب) ([1])

وفصل البعـض في ذلك، فنظر إليه من جهة صلته بمقاصد الشريعة، ومن جهة ما يهدف إليه بعامة، فهو من هذا الجانب يأتي ضمن مجموعة من التشريعات المفروضة، والواجبة، والمستحبة، لتحقيق التكافل، والتعاون، والتكامل في المجتمع الإسلامي، وذلك لوجود التفاوت، والاختلاف في الصفات، والقدرات، والطاقات، وما ينتج عن ذلك، من وجود المنتج، والعاطل، والذكي، والغبي، والقادر، والعاجز، مما يتطلب ملاحظة بعضهم لبعض، وأخذ بعضهم بأيدي بعض، ومن طرق ذلك الإنفاق، وأفضله ما كان منتظماً، مضمون البقاء، يقوم على أساس، وينشأ من أجل البر والخير، وهذا ما يؤدي إليه الوقف، الذي يحفظ لكثير من الجهات العامة حياتها، ويساعد فئات من المجتمع على الاستمرار، ويتحقق به ضمان العيش الكريم، حين انصراف الناس، أو طغيان الخطر، أو حالة الطوارئ ([2]).

«إن أغراض الوقف في الإسلام ليست قاصرة على الفقراء وحدهم، بل تتعدى ذلك إلى أهداف اجتماعية واسعة، وأغراض خيرة شاملة» ([3]).

أما ما يهدف إليه بصفة خاصة فهو استثمار الدوافع الذاتية لدى الإنسان بناء على ما جبل عليه، كالرغبة في الثواب، أو التكفير عن الخطأ، أو الشعور بالمسئولية، أو علاقة الرحم والقرابة، أو بناء على ما يعرض له كعدم وجود الوارث، أو الاغتراب، أو الرغبة في الحفاظ على ما يملك والإبقاء عليه في ذريته فيكون الوقف محققاً لما يطمح إليه الإنسان بوجود الحافز، أو الدافع الذاتي، وإتاحة الفرصة له للتعبير عن ذلك الدافع بطريقة بر صحيحة تعود عليه بالنفع في آخرته، وتنفع مجتمعه ([4]).

وذكر بعض الباحثين جوانب أخرى، بعضها من الآثار التي ترتبت على وجود الأوقاف، ولا شك بأنها تدخل ضمن حكمة الوقف في إطارها العام، المتضمن تحقيق مصلحة الفرد الأخروية، وكذا مصلحة الأمة برد الكيد عنها، وتماسك بنائها، واستمرار فاعليتها المعرفية، والروحية، والاجتماعية، أو بعبارة أعم إنماء الجانب الصالح، ودفع العوامل السيئة، ومما ذكر ما يلي:

- استزادة المسلم من الخير بعد وفاته.

- إقامة دور العبادة، والمحافظة عليها.

- مساعدة الضعفاء، والمحتاجين.

- المحافظة على الناحية العلمية في المجتمع الإسلامي.

- ترابط المجتمع، وإشعار المسلم بمسئوليته تجاه مجتمعه.

- صلة الأرحام والأحباب.

- دعم الجهاد والمحافظة على قوة الدولة المسلمة.

- صيانة الأعيان الموقوفة من العبث ([5]).

- تحقيق منافع معيشية، واجتماعية، وثقافية مستمرة، ومتجددة.

- إطالة أمد الانتفاع بالمال.

- إغناء الذرية ([6]).

- توفير ضمانات اجتماعية لمواجهة النوائب والمشكلات بما يكفل دفع الأضرار النفسية والمادية.

- إدخال السرور على من لا يملكون أسبابه.

- حفظ كرامة الإنسان حياً وميتاً ([7]).

إن ما ذكره الباحثون مما استنبطوه من النصوص، أو من ثمرات الوقف المتحققة عبر التاريخ الإسلامي، يندرج تحت الحكمة من تشريع الوقف بما يحققه من مقاصد الشريعة الإسلامية، وإن كان كل باحث نظر إليه من زاوية معينة، فذكر ما ظهر له من حيث نظر، ومما يمكن أن يكشف عن ذلك بشكل أشمل النظر إليه من حيث موقعه من نظام الإسلام، وقيمه فهو تعبير عن كمال التشريع الإسلامي، وقدرته على استيعاب التطور الحضاري، والاستجابة لتجدد الحاجات، بما يلائم جبله الإنسان، وعوائد العمران، ويحقق التوسعة على الناس، بفتحة لمجال النفع الاجتماعي، وتكامل جهود الأمة والدولة، وغرس روح المسئولية، والمبادرة الاجتماعية لدى الفرد، وإتاحة الفرصة لنمو مؤسسات أهلية فاعلة، ترجع ملكيتها إلى الله - عز وجل - وتسهم في تكامل المجتمع وترابطه، وتحد من الأنانية، والذاتية والتعلق بالدنيا والتنافس فيها المؤدي إلى تجاهل المحتاج، والضعيف، ومن لا يترتب على العناية به منفعة عاجلة. كما أنه ينمي روح الأخوة، ويزيل من القلوب الحقد، والكراهية وبالجملة فهو يكشف عن عناية الإسلام بالإنسان فرداً ومجموعاً ويتأسس على قيم عظيمة تؤدي إلى بناء مجتمع رشيد، ومن أهم تلك القيم:

 

* العبودية لله - عز وجل -:

ذلك بأن الوقف قربة لله - عز وجل - ينبغي أن يتوفر فيه عنصر الإخلاص له - سبحانه - وابتغاء وجهه دون سواه كما دلت على ذلك الآيات الداعية إلى الإنفاق (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ([8]).

 

* الاستخلاف:

فالمال في حقيقته لله - عز وجل -وملك الإنسان له عارض، فالوقف إعادة الأمانة لصاحبها، وإنفاذ ما يرضيه فيها: {ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} [الحديد: 7].

 

* الإحسان:

فالإحسان هو المرتبة العليا في الدين، وببلوغه يتجاوز الإنسان أهواءه ويقدم ما يحبه الله - عز وجل -على ما تحبه نفسه، بل يقدم أنفس ما لديه تقرباً لله - عز وجل - كما فعل الأصحاب} ([9]).

 

* الفاعلية الخيرة:

الدافعة لإنجاز كل عمل خير، والمبرزة لخلق التضحية، والبذل في الجهد والمال: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].

 

* التكامل:

في الجهود، والقدرات، والطاقات، من قبل قاعدة الأمة، وقمتها: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) ([10]).

 

* التكافل:

بين فئات المجتمع، وذلك ملحوظ في العديد من التشريعات التي جاء بها الإسلام.

تلك هي أهم القيم التي يرتكز عليها الوقف، وتتجلى من خلالها مكانته في إقامة بناء حضاري، يتسم بإعلاء قيمة الإنسان، وتكريمه، وتيسير سبل حياته، نحو العيش الكريم، والسلوك الخير، النافع للبشر.

 

-------------------------------------------

([1]) د. وهبة الزحيلي، الوصايا والوقف في الفقه الإسلامي ص137.

([2]) انظر د. محمد الكبيسي، أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية 1/137، 138.

([3]) المرجع السابق 1/138.

([4]) انظر المرجع السابق 1/139 141.

([5]) انظر إبراهيم بن عبد الله الغصن، التصرف في الوقف ص85 78.

([6]) انظر د. حسن أبو غدة، أضواء على الوقف عبر العصور، مقال في مجلة الفيصل العدد 217 رجب 1415هـ ص89 99.

([7]) انظر د. محمد الدسوقي، دور الوقف في التنمية الاجتماعية، مقال بمجلة الوعي الإسلامي العدد 372 شعبان 1417هـ ص229.

([8]) روه الجماعة.

([9]) كما ورد ذلك في وقف عمر بن الخطاب، وأبي طلحة - رضي الله عنهما -.

([10]) رواه مسلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply