حقيقة الحياة وعلاماتها والآثار المترتبة عليها


بسم الله الرحمن الرحيم 

ما زال الكثير من المصطلحات والمفردات في حاجة إلى تحديد، حتى بعد ظهور الموسوعات المختلفة التي أماطت اللثام عن بعضها، ومن المصطلحات التي يكتنفها الغموض إلى حد ما، مصطلح الحياة، ولعظم الآثار التي تترتب على حياة الإنسان، كان عِظَم أهمية تحديد مفهوم الحياة، لبيان متى يعد الإنسان حياً، ليعلم عند نقيض ذلك الوقت الذي يعد فيه في عداد الأموات، ولذا كان هذا البحث الذي أُبين فيه معنى الحياة، وعلاماتها، والآثار التي تترتب على ثبوتها للآدمي.

 

أولاً: حقيقة الحياة:

معنى الحياة في عُرف أهل اللغة:

تطلق الحياة في اللغة على ما هو نقيض للموت، والحي من كل شيء: نقيض الميت، والحياة، مقابل الموت، والحي: كل متكلم ناطق، والحي من النبات: ما كان طرياً يهتز، والعرب تصف كل ذي روح بالحياة(1).

معنى الحياة في عرف الفقهاء:

عرف الجرجاني الحياة بأنها: \" صفة توجب للموصوف بها أن يعلم ويقدر \"(2).

ومقتضى هذا أن الإنسان لا يوصف بالحياة إلا إذا كان قادراً على العلم والتقدير، ولن يكون قادراً على ذلك إلا بعد نفخ الروح فيه، وإذا كان الموت خلق ضدّاً للحياة كما قال بعض الفقهاء، وقلنا إن الموت: مفارقة الروح للجسد، فإن هذا يقتضي أن تكون الحياة هي: حلول الروح في الجسد.

ومن ثم فإن الجنين قبل نفخ الروح فيه، لا يعتبره الفقهاء بمثابة من نفخ فيه الروح، بل إن أكثرهم لا يعتبرونه حياً، وفي هذا يقول ابن مفلح الحنبلي: \" إن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح لا يكون إسقاطه وأداً، لأن الوأد إنما يكون لبدن حلت فيه الروح، يدل لهذا قول الحق - سبحانه -: {وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9)} {التكوير: 8، 9}، فالموؤدة لا تسأل إلا إذا بعثت، ولا يبعث يوم القيامة إلا ما حلت فيه الروح، فما لم تحل فيه لا يبعث، ولا يكون الاعتداء عليه وأداً \"(3)، ومعنى هذا أن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح في نظر الفقهاء، لا تُوصف الحال التي يكون عليها بالحياة، ولهذا فقد شبه بعض الفقهاء حاله، بما يسميه الأطباء بالحياة النباتية أو الخلوية، التي لا إدراك فيها ولا حس ولا إرادة لمن يحياها، لانعدام هذه القوى لدى من يكون عليها، وفي هذا يقول ابن القيم: \" فإن قيل: الجنين قبل نفخ الروح فيه، هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟، قيل: فيه حركة النمو والاغتذاء، كالنبات، ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة، فلما نفخت انضمت حركة حسيته وإرادته، إلى حركة نموه واغتذائه\"(4).

وهذا يحدونا إلى القول: بأن الحياة الإنسانية في نظر هؤلاء الفقهاء، تبدأ من وقت نفخ الروح في الجنين، وتستمر ملازمة له إلى أن تفارق الروح بدنه، قبل ولادته أو بعدها.

وإن كان بعض المشاركين في الندوات يرون أن الجنين يعد حياً منذ بداية الحمل، أي: من وقت الإخصاب، بحيث لا يجوز الاعتداء عليه في أي مرحلة يكون فيها، سواء نفخت فيه الروح أو لم تنفخ، وقد انتهوا إلى هذا

الرأي تأثراً بأقوال الأطباء المشاركين لهم فيها، والذين يرون أن في مجرد النطفة أو البويضة قبل الإخصاب حياة، بغض النظر عما إذا كانت حياة يحترمها الشارع أم لا، إذ جاء في توصيات ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، المنعقدة بالكويت سنة 1983م، ما نصه: \" استأنست الندوة بمعطيات الحقائق العلمية الطبية المعاصرة، والتي بينتها الأبحاث والتقنية الطبية الحديثة، فخلصت إلى أن الجنين حي من بداية الحمل، وأن حياته محترمة في كافة أدوارها، خاصة بعد نفخ الروح فيه، وأنه لا يجوز العدوان عليها بالإسقاط إلا للضرورة الطبية القصوي\"(5).

واستمراراً لتأثر الشرعيين المشاركين في مثل هذه الندوات، بأقوال الأطباء الذين يشاركون فيها، صدرت عن ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها، المنعقدة بالكويت في المدة من 15 - 17-1-1985م، توصية جاء فيها:

\" أولاً: بداية الحياة تكون منذ التحام حيوان منوي ببويضة، ليكونا البويضة الملقحة، التي تحتوي الحقيبة الوراثية الكاملة للجنس البشري عامة، وللكائن الفرد بذاته المتميز عن كل كائن حي - على مدى الأزمنة - وتشرع في الانقسام، لتعطي الجنين النامي المتطور المتجه خلال مراحل الحمل إلى الميلاد.

ثانياً: منذ يستقر الحمل في بدن المرأة فله احترام متفق عليه، ويترتب عليه أحكام شرعية معلومة.

ثالثاً: إذا بلغ الجنين مرحلة نفخ الروح (على خلاف في توقيته، فإما مائة وعشرون يوماً، وإما أربعون يوماً) تعاظمت حرمته باتفاق، وترتبت على ذلك أحكام شرعية أخرى.

رابعاً: من أهم تلك الأحكام، أحكام الإجهاض التي وردت في توصيات ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام\"(6).

وما خلصت إليه الندوتان يقرر أن الحياة الثابتة للجنين قبل نفخ الروح فيه، ليست حياة كاملة، ولهذا فإنه يترتب عليها \"أحكام شرعية معلومة\"، كما ورد في التوصيات، وأما الحياة الثابتة للجنين بعد النفخ، فهي حياة كاملة، تترتب عليها \" أحكام شرعية أخرى \"، أي زائدة على الأحكام التي ترتبت على حياة ما قبل النفخ، وهذا يؤكد أن الحياة الآدمية التي تترتب عليها كافة الأحكام الشرعية، لا تكون إلا بعد نفخ الروح، سواء قيل بأن وقت النفخ بعد الأربعين الأولى من حدوث الحمل، أو بعد مائة وعشرين يوماً منه، وأما الحياة التي يكون عليها الجنين قبل ذلك، فلا تكون بهذه المثابة، وإن ترتب عليها بعض الأحكام الشرعية، فلا توصف بالحياة الآدمية أو الإنسانية، وإن كان الجسم معها نام، تتشكل أعضاؤه، وتتضح معالمها، وينتقل من طور إلى طور، فلا يتصف بالحياة الآدمية إلا ما نفخ فيه الروح، وقد أشار إلى هذا كثير من فقهاء السلف، منهم ابن عابدين الذي قال: \" إن الجنين ما لم تخلق له أعضاء، فإنه لا يكون آدمياً، حتى تثبت له أحكام الآدمي\"(7)، وقال أيضاً: \"لو كان الجنين حياً، ويخشى على حياة الأم من بقائه، فإنه لا يجوز تقطيعه، لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل آدمي لأمر موهوم\"(8)، فلم يعتبر ابن عابدين الجنين قبل تخلق أعضائه آدمياً، وإنما اعتبره آدمياً تثبت له أحكام الآدمي بعد هذا التخلق ونفخ الروح فيه.

ولو سلمنا أن الحياة التي يكون عليها الجنين قبل النفخ حياة إنسانية أو آدمية، انطلاقاً من وجود حياة بالخلايا الجنسية حتى قبل الإخصاب، للزم منه أن تكون هذه الخلايا هي الإنسان أو الآدمي، وأنه لا فرق بين الحياة التي تكون فيها، وحياة سائر البشر، ولا يقول بهذا اللازم أحد من أولي النهى، فبطل الملزوم.

 

ثانياً: علامات الحياة:

إن علامات الحياة الآدمية في الجنين لا تختلف عن علاماتها فيمن ولد، إلا أن علاماتها في الجنين يمكن الوقوف عليها، عن طريق الكشف المبكر عن الحمل بوسائل الكشف المختلفة، كسماع نبضات قلبه بالمسماع، أو فحصه بالسونار أو الموجات فوق الصوتية، أو بالإشعاع، ويمكن لأمه أن تشعر بذلك من حركته، وممارسة صحوه ومنامه، واضطرابه، ونحو ذلك، وفي هذا يقول أحد الأطباء: \" وفي نهاية الشهر الرابع ينفخ فيه الروح، وتستطيع الأم أن تشعر بحركته، وأن يسمع الطبيب دقات قلبه، وفي هذه المرحلة يبدأ الجنين بممارسة عمليتي النوم والصحو، ويصبح حساساً للضجيج، فينتقل من حالة النوم إلى حالة الصحو، ويكون قادراً على البلع، وتشكل الأحبال الصوتية، وينغلق البطن، ويبدأ الكبد بالقيام بوظائفه، ويتخلق الدم من مخ العظام والكبد، وخلاصة القول: إنه بنهاية الشهر الرابع وبداية الخامس، تنتقل أجهزة الجنين من الخمود إلى الفعالية، وهذا في تقديرنا ناجم عن نفخ الروح في هذا الوقت من عمر الجنين\"(9).

وأما بالنسبة لمن ولد، فإن حياته تعلم - كما قال جمهور الفقهاء(10) - بكل ما تعلم به هذه الحياة، كاستهلاله صارخاً، أو ارتضاعه، أو تنفسه، أو عطاسه، أو تثاؤبه، أو بكائه، أو حركته الشديدة، أو نحو ذلك من أمارات تعلم بها حياته.

وإذا كان بعض الفقهاء قد اعتبر توقف النبض من العرق الذي بين الكعب والعرقوب علامة على الموت، فإن بقاء النبض فيه علامة على حياة صاحبه، ودليلاً على بقاء عمل القلب والدورة الدموية، كما يعد من علامات الحياة عند الفقهاء، وجود حرارة بالبدن، وظهور بريق بالعينين، وتلون الجلد بلونه الطبيعي(11)، وغير ذلك من أضداد علامات الموت التي ذكرها الفقهاء.

 

ثالثاً: أنواع الحياة:

عَرَّف الفقهاء خمسة أنواع للحياة بالنسبة للآدميين، هي ما يلي:

النوع الأول: الحياة المستمرة:

وهي الحياة التي يكون عليها الإنسان الصحيح البدن، المستقل بحياته عن غيره، والتي لو ترك معها الإنسان لعاش عمراً، وفي هذا النوع من الحياة يكون للإنسان حركة اختيارية، ونطق وإبصار وحس، وإدراك، وغير ذلك من علامات الحياة، فقاتل هذا قاتل نفس حية من جميع الوجوه، باتفاق الفقهاء.

النوع الثاني: الحياة المستقرة:

وهي حياة من أصيب بجناية، وتيقن أو غلب على الظن هلاكه منها بعد يوم أو يومين أو أيام، وفي هذه الحياة يبقى الإدراك والسمع والبصر والكلام والحركة الاختيارية لمن كان يحياها، يقول بدر الدين الزركشي: \" الحياة المستقرة: هي أن تكون الروح في الجسد، ومعها الحركة الاختيارية دون الاضطرارية، كما لو كان قد قتله إنسان أو حيوان مفترس وأخرج حشوته وأبانها\"(12).

وقد اعتبر الفقهاء من تكون له هذه الحياة، بالمريض الميؤوس من بُرئه، وجعلوا حكم الحياة المستمرة باق بالنسبة له، بحيث لو عاجله إنسان فأزهق روحه، بأن أذهب علامات الحياة هذه من بدنه، فهو قاتل له، ومثلوا لهذه الحياة: بما كان عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، بعد ما طُعن طعنة نافذة، بحيث خرج من موضعها ما شربه عمر بفيه من اللبن، وصرح الطبيب باليأس من شفائه، فقال له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى، وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده، وأنفذوا وصاياه(13).

 

النوع الثالث: الحياة غير المستقرة:

وهي حياة من أصيب بجناية، أو مرض، بحيث لم يبق له إدراك، أو تمييز، أو إبصار، أو نطق، أو حركة اختيارية، حتى إذا ما نطق أتى بكلام غير واضح ولا منتظم، وإذا تحرك أتى بحركات لا إرادية، ومثل هذا يكون قد أيس من برئه، وقد أطلق على حال من وصل إلى هذه الحياة، حال حركة المذبوح، أو حالة اليأس، أو حال منفوذ المقاتل.

وقد ذهب فقهاء الشافعية إلى أن من وصل إلى هذه الحالة بسبب المرض، وأيس من برئه، فإنه يعد حياً، بحيث يكون الاعتداء عليه اعتداء على آدمي حي، فيأخذ حكمه بحسب وصف الجناية، وإنما ثبت له حكم الأحياء، لاحتمال استمرار حياته وإن وصل إلى هذه الحالة، مع انتفاء سبب يحال عليه هلاكه، إذ لم يسبق وصول المريض إلى هذه الحالة فعل يحال الموت وأحكامه عليه، كالقتل أو نحوه، فإن مجرد إصابته بالمرض لا يكون سبباً لإهلاكه(14).

وأما إذا كان قد وصل إلى هذه الحالة بسبب جناية عليه، فإن الفقهاء اختلفوا في حكمه على مذهبين:

المذهب الأول:

يرى من ذهب إليه أن من وصل إلى هذه الحياة بجناية عليه، فإنه يُعد في حكم الأحياء، ما دام لم يسلم الروح، وهو يرث غيره، وتصح الوصية له، إذا مات الموصي قبله، وإذا استطاع الكلام فأسلم اعتبر إسلامه، وورثه أهله من المسلمين، ومن اعتدى عليه فعجل بموته، فهو قاتل له عمداً، وهو قول ابن القاسم وبعض فقهاء المالكية، وإليه ذهب الظاهرية(15).

المذهب الثاني:

يرى أصحابه أن من تكون له هذه الحياة، هو في حكم الميت، بحيث يجب القصاص ممن أوصله إلى هذه الحالة، إذا كانت جنايته عمداً عدواناً، أو الدية إن كانت الجناية غير عمدية، فإذا اعتدى عليه آخر بعد وصوله إلى هذه الحالة، فإنه يعزر، لانتهاكه حرمة الميت، ومن تكون له هذه الحياة لا يرث، ولا تصح منه التصرفات القولية، ولو كان كافراً فأسلم أو مسلماً فارتد، لم يعتد بما صدر عنه من ذلك، وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو أظهر الأقوال في مذهب المالكية، وإليه ذهب الشافعية والحنابلة(16).

أدلة المذهبين:

أ-استدل أصحاب المذهب الأول على أن من يكون في حال الحياة غير المستقرة، له حكم الأحياء بما يلي:

- المعقول:

إن من يكون في هذه الحالة، معدود من جملة الأحياءº لأن فيه حياة، وإن كان منفوذ المقاتل بجناية عليهº لأنها لم تسلمه إلى الموتº ولهذا تصح منه التصرفات، وقاتله قاتل آدمي حي(17).

ب -استدل أصحاب المذهب الثاني، على أن من يكون في حال الحياة غير المستقرة، بإطلاقاتها السابقة، فله حكم الميت، بما يلي:

- المعقول:

1- أن من وصل إلى هذه الحالة، لا تبقى فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك تحرك المذبوح، فلا يثبت له حكم الأحياء(18).

2- إن من به هذه الحياة، قد صار في حكم الموتى، لزوال إدراكه، ونطقه وحركته الاختياريين، حتى لا يصلح منه إسلام إن كان كافراً، ولا تقبل توبته إن كان عاصياً، ولا يصح تصرفه إن باع أو ابتاع، أو أوصى لغيره، ولا يؤاخذ بموجب جنايته على نفس أو مال، وينتقل ماله إلى ورثته الموجودين حينئذٍ,، ولا يرث منه من يحدث منهم بعد ذلك، ولا يرث من أحد مات وهو على حاله هذا(19).

المناقشة والترجيح:

والذي أرى رجحانه - بعد النظر في هذين المذهبين وأدلتهما - هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من اعتبار من يكون منفوذ المقاتل، أو له حركة المذبوح، في حكم الأحياء، وذلك لما وجهوا به مذهبهم.

ولأن من يكون في هذه الحالة، له نوع حياة محترمة، فيجب اعتبارها، ولا يجوز تعجيل انتهائها بالإجهاز عليه، أو غم نفسه، أو تزفيف جرحه، أو جزر رقبته، أو نحو ذلك من وسائل تتبع في إنهاء حياة الأحياء، خاصة إذا أخذ في الاعتبار أن من يكون في هذه الحالة لا يستعصي علاجه في زماننا، ولا يصدق في حقه - في ظل التقدم التقني في الطب والعلاج - أنه ميؤوس من شفائه، إلا أنه يعتبر له حكم الأحياء في حق عدم جواز الاعتداء عليه، ووجوب إسعافه، ومعاونته على مجاوزة حاله، وأما بالنسبة لسائر تصرفاته، فلا يعتد بها وهو في هذه الحالةº وذلك لأن مدار الاعتداد بهذه التصرفات شرعاً، على سلامة عقله، ولا يقطع بهذه السلامة وهو في هذه الحالة، كما أن فرض المسألة أنه لا إدراك له، ولا ينتظم كلامه، فلا يعتد بعبارته شرعاً.

النوع الرابع: حياة من يعالج سكرات الموت:

وهي حياة من يكون في النزع(20)، إذا بدت عليه مخايل الموت، وقربت نفسه من الزهوق، ووصل إلى آخر رمق.

وقد اتفق الفقهاء على أن من يكون في هذه الحالة، لا يعد من الأموات، وإنما هو في حكم الأحياء، ومن ثم فلا يجوز قتله، أو التعجيل بوفاته شفقة عليه أو رحمة به، ويعد قاتله قاتل نفس حية، ويجب عليه عقوبته بحسب نوع القتل الذي اقترفه(21).

وفي هذا يقول الحصكفي: \"ولو قتله وهو في حالة النزع قتل به\"، ويقول ابن عابدين معلقاً على ذلك: \"إن موت من يكون في النزع غير متحقق، فإن المريض قد يصل إلى حالة شبه النزع، بل قد يظن أنه مات، ويفعل به كالموتى، ثم يعيش طويلاً\"(22).

ويقول النووي: \" المريض المشرف على الموت يجب القصاص على قاتله..سواء انتهى إلى حالة النزع أم لا..، فلو انتهى المريض إلى سكرات الموت، وبدت أماراته، وتعثرت الأنفاس في الشراسيف، لا يحكم له بالموت، بل يلزم قاتله القصاص \"(23).

وقال ابن حزم: \"لا يختلف اثنان من الأمة كلها، في أن من قربت نفسه من الزهوق بعلة أو بجراحة، أو بجناية عمد أو خطأ، فمات له ميت، فإنه يرثه، وأنه إن قدر على الكلام فأسلم وكان كافراً وهو يميز بعد، فإنه مسلم يرثه أهله من المسلمين، وأنه إن عاين وشخص ولم يكن بينه وبين الموت إلا نفس واحد، فمات من أوصى له بوصيته قد استحق الوصية، ويرثها عنه ورثته، فصح أنه حي بعد بلا شك، إذ لا يختلف اثنان من أهل الشريعة وغيرهم، في أنه ليس إلا حي أو ميت،.. فإذ هو كذلك، وكنا على يقين من أن الله - تعالى - قد حرم إعجال موته، وغمه، ومنعه النفس، فبيقين وضرورة ندري أن قاتله قاتل نفس بلا شك \"(24).

النوع الخامس: الحياة النباتية:

وهي الحياة التي تكون في الجنين قبل نفخ الروح فيه، وهي حياة لا يكون الغذاء والنمو والحركة فيها بإرادة الجنين واختيارهº لانعدام مقومات الحس والإرادة فيه، والذي أطلق عليها وصف النباتية هو ابن القيم حيث يقول: \" فإن قيل: الجنين قبل نفخ الروح فيه، هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟، قيل: فيه حركة النمو والاغتذاء، كالنبات، ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة، فلما نفخت انضمت حركة حسيته وإرادته، إلى حركة نموه واغتذائه \"(25).

وقد اتفق الفقهاء على أن من يكون في هذه المرحلة له حرمة، تقتضي عند جمهورهم عدم جواز إجهاضه لغير عذر(26)، وإن رأى بعضهم جواز ذلك، على تفصيل بينهم في المرحلة التي يجوز فيها إسقاطه، فمنهم من رأى جواز إسقاط من يكون في مرحلة النطفة الأمشاج فقط دون غيرها، وهو قول بعض المالكية، وجمهور الشافعية، وبعض الحنابلة، والظاهرية(27)، ومنهم من قال بجواز إجهاض من يكون في مرحلة النطفة أو العلقة دون المضغة، وهو قول أبي بكر الفراتي من الشافعية(28)، ومنهم من ذهب إلى جواز إجهاضه ولو كان علقة أو مضغة ما لم تتخلق أعضاؤه، وهو قول بعض الحنفية(29)، ومنهم من رأى جواز التسبب في إسقاطه في أي مرحلة من مراحل تخلقه ما لم تنفخ فيه الروح، وهو قول ابن عقيل الحنبلي(30).

 

رابعاً: الآثار المترتبة على الحياة:

تترتب على حياة الآدمي آثار كثيرة، منها ما يلي:

1- ثبوت أهلية الوجوب الكاملة له، فيثبت بثبوتها له جميع الحقوق: كالإرث من الغير، واستحقاق الوصية، والوقف، وثبوت النسب، ووجوب النفقة له، وغير ذلك من الحقوق التي تثبت له بمقتضى هذه الأهلية.

2- ثبوت أهلية الأداء ناقصة أو كاملة بحسب حاله، إن كان بالغاً عاقلاً رشيداً، أو لم يكن كذلك، وبمقتضى ثبوت هذه الأهلية له، يكون صالحاً لصدور جميع التصرفات منه أو بعضها على وجه يعتد به الشارع.

3- حرمة الاعتداء على بدنه، بجناية على النفس أو ما دونها.

4- ثبوت ملكية المباحات له بحيازته لها، أو بسبقه إليها، أو بإحيائها بما يتحقق به هذا الإحياء.

5- وجوب حقوق الغير عليه، إن كان أهلاً لإيجابها عليه، فيجب عليه الإنفاق مثلاً على من يعولهم من أصوله وفروعه، إن كان له ما ينفق منه عليهم، كما يجب عليه ضمان ما أتلفه من مال الغير، والوفاء بما التزم به في مواجهة الغير.

6- وجوب التكاليف الشرعية المختلفة عليه، إذا بلغ عاقلاً.

7- مؤاخذته على الأفعال غير المشروعة التي يقترفها، وذلك بمعاقبته بالعقوبات المقررة لها شرعاً.

8- ثبوت ذمة مالية له يكون بمقتضاها صالحاً للإلزام والالتزام، ويصير بها أهلاً لثبوت الحقوق له أو عليه.

9- بقاء العقود التي أبرمها مستمرة منتجة لآثارها الشرعية.

10- ثبوت الحقوق والحريات العامة له، كحق الحياة، والتعليم، والعمل، ومزاولة التجارة أو الصناعة، وحق التجنس بجنسية دولة معينة، والانتماء إلى بلد معين، ونحو ذلك.

11- الاعتداد بإسلامه إذا كان غير مسلم فاعتنق الإسلام، والاعتداد بردته إذا كان مسلماً، فاعتنق ديناً آخر، وقبول توبته إن كان عاصياً فتاب.

12- استمرار العلاقة الزوجية بينه وبين زوجه ما لم تنته بسبب آخر غير الوفاة.

13- صحة عقوده وتصرفاته التي يبرمها، إذا توافرت لديه أهلية الأداء.

 

--------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

(1) لسان العرب 1-773، القاموس المحيط.

(2) التعريفات - 94.

(3) ابن مفلح: الفروع 1-281.

(4) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن - 76.

(5) أعمال ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام - 351.

(6) أعمال ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها - 676.

(7) رد المحتار 5-276.

(8) المصدر السابق 1-602.

(9) د. سيف السباعي: الإجهاض بين الطب والفقه والقانون - 43-44.

(10) وممن قال به: الثوري، والحنفية، واستظهره ابن رشد المالكي، وهو مذهب الشافعية، ومشهور مذهب الحنابلة، وحكاه ابن رشد عن أكثر الفقهاء، (رد المحتار 5-377، تبيين الحقائق 6-126، المهذب 2-197، روضة الطالبين 9-367، مغني المحتاج 4-104، المغني 7-811).

(11) ذكر الفقهاء علامات عديدة، تظهر على من فارقت الروح جسده، منها: انقطاع النفس، وخمود الحركة، وانقطاع الكلام، وشخوص البصر، وانفراج الشفتين بحيث لا تنطبقان، واسترخاء القدمين وسقوطهما، فلا ينتصبان، واعوجاج الأنف، وانخساف الصدغين، وامتداد جلدة الوجه، وتقلص الخصيتين إلى أعلى مع تمدد الجلدة، وبرودة البدن، وانخلاع الكفين، وانفصال الزندين، واسترخاء الفك، وتغير اللون، وعدم وجود نبض في العرق الذي يكون بين العرقوب والكعب وعرق الدبر، وغيبوبة سواد العينين في البالغين (الدر المختار ورد المحتار 2-189، الفتاوى الهندية 1-157، فتح القدير 2-68، شرح الخرشي وحاشية العدوى عليه 2-122-123، الشرح الصغير للدردير 2-69، المجموع 5-124، روضة الطالبين 2-98، مغني المحتاج 1-332، المغني 2-452، كشاف القناع 2-84-85، شرح منتهى الإرادات 1-323).

(12) الزركشي: المنثور في القواعد 2-105.

(13) البحر الرائق 8-295، منح الجليل 4-361، مواهب الجليل، التاج والإكليل 6-244، المهذب 2-224، مغني المحتاج 4-13، المغني مع الشرح الكبير 9-338، المعتمد 2-348، كشاف القناع 5-516.

(14) نهاية المحتاج 7-263، مغني المحتاج 4-13.

(15) مواهب الجليل والتاج والإكليل 6-233، 244، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4-215، المحلي 10-518.

(16) الدر المختار ورد المحتار 6-544، الفتاوى الهندية 6-5-6، الذخيرة 12-285، منح الجليل 4-361، التاج والإكليل 6-244، شرح الخرشي 8-7-8، المهذب 2-224، مغني المحتاج 4-13، روضة الطالبين 9-145، 146، الزركشي: شرحه على مختصر الخرقي 6-86، المغني 7-683، كشاف القناع 5-516.

(17) التاج والإكليل 6-244.

(18) رد المحتار 6-544، 545، نهاية المحتاج 7-263، كشاف القناع 5-516.

(19) روضة الطالبين 9-145، نهاية المحتاج 7-263.

(20) النزع: هو مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع الأجزاء، حتى لم يبق جزء من الروح المنتشرة في أعماق البدن، إلا قد حل به الألم (الغزالي: سكرات الموت- 46).

(21) الدر المختار ورد المحتار 6-544، القرافي: الفروق 2-31، مواهب الجليل والتاج والإكليل 6-244، روضة الطالبين 9-146، نهاية المحتاج 7-263-264، مغني المحتاج 4-38، المغني 7-835، كشاف القناع 5-516،، المحلى 10-518.

(22) الدر المختار ورد المحتار 6-544.

(23) روضة الطالبين 9-146.

(24) المحلى 10-518.

(25) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن - 76.

(26) رد المحتار 5-239، 279، البحر الرائق 3-214-215، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2-237، شرح الزرقاني على الموطأ 3-77-78، نهاية المحتاج 8-442، إحياء علوم الدين 2-51، الإنصاف 1-386، أحكام النساء - 99.

(27) حاشية الدسوقي 2-237، نهاية المحتاج 8-442، تحفة المحتاج 8-241، الإنصاف 1-386، الفروع 1-281، المحلى 11-639، 640، 12-380، الجامع لأحكام القرآن 2-8.

(28) نهاية المحتاج 8-442.

(29) فتح القدير 2-494، رد المحتار 5-279، 378، الاختيار 4-168.

(30) الإنصاف 1-386.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply