دعاء الاستخارة


 بسم الله الرحمن الرحيم 

الدعاء عند الاستخارة صلة بين العبد وربه في كل أمر يقدم عليه، يستعينه ويستهديه ويسترشده، وفيه آداب إسلامية جمة.

وفوائد نفيسة، وقد حرص، الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يعلمه أصحابه.

فعن جابر - رضي الله عنه - قال: « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - وتسمه باسمه - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجلة وآجله فاقدره لي (ويسره لي، ثم بارك لي فيه) [*]، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به » [1].

 

فوائد الحديث:

أولاً: آداب الدعاء في هذا الحديث جملة من آداب الدعاء أولها:  أن يقدم المسائل بين يدي دعائه ثناءً على الله - عز وجل - بما هو أهله والله - سبحانه - يحب المدح والثناء من عباده وهذا أدب لا يكاد يخلو منه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعائه ومنها أن يقدم بين يدي حاجته عملاً صالحاً كما أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الداعي أن يركع ركعتين قبل دعائه، وهناك أمثلة أخرى مشابهة كصلاة التوبة وصلاة الحاجة..

« قال ابن أبي حمزة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك ولا شيء لذلك أنجع ولا لأنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً.

وقال النووي في (من غير الفريضة) « لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلاً أو غيرها من النوافل، الراتبة والمطلقة، سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ » قال ابن حجر معقباً « إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً أجزأ بخلاف ما إذا لم ينو.

ويبعد الإجزاء عمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة لأن ظاهر الخبر أن تقع، الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر ».

ومن آداب الدعاء بين يدي الله أن يظهر العبد فقره وعجزه وانكساره وذله وحاجته إلى ربه كما في الحديث « فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ».

ومنها رد الحول والقوة إلى الله، وفي الحديث تطبيق فعلي لمعنى « لا حول ولا قوة إلا بالله » التي كثيراً ما يرددها المسلمون وقل ما يفهمون معناها، فانظر كيف يتبرأ العبد من الحول ويرده كله إلى الله حين يسأله أن يقدر له الأمر إن كان خيراً، ثم يبارك له فيه، فإن كان شراً يصرف الأمر عنه ويصرفه عن الأمر ثم يقدر له بدل خير ويرضيه به فالحول كله لله.

ومن أعظم الآداب سؤال الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى بما يتناسب مع الحاجة، وهذا أحفظ لحرمة أسماء الله وصفاته وأقوى في تدبر معانيها فإن القائل « يا جبار يا منتقم اغفر لي » أنَّى له أن يفقه معنى المغفرة والجبروت، وهو أيضاً أدعى للإجابة وفيه تربية للنفوس على التجاوب مع مقتضيات الأسماء والصفات.

فتأمل ما أشد مناسبة صفات العلم والقدرة والفضل لطلب الخير في أمر ما، فإن السائل حين يطلب أن يُكتب له الأمر إن كان خيراً وأن يُصرف عنه إن كان شراً وأن يُقدر له الخير حيث كان فمثل هذا لا يتحقق إلا إذا كان المسؤول عليماً بما هو خير للسائل وما هو شر له، وقديراً حتى يقدِّره ويجعل للعبد قدرة عليه ثم كريماً متفضلاً حتى يعطيه.

ومن طريف ما يروى في هذه المناسبة أن رجلاً من الأعراب كان يستمع إلى الأصمعي يتلو (والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ والله غفور رحيم) فقال كلام من هذا، قال الأصمعي كلام الله، قال لا والله ما هذا كلام الله، فأعادها الأصمعي وقرأ (واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال نعم عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.

 وانظر - يا أخي -كيف يعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبدأ بسؤال الخير في الدين، فإنه لا خير أعظم من سلامة الدين ولا مصيبة أطم من المصيبة فيه.

فالواجب على العبد أن يعتني بدينه اعتناءه بسائر أموره، بل أشد.

ثانياً: الاعتناء بالاستخارة:  كما في الحديث « يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن » قال ابن حجر « قيل وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلها إلى الاستخارة، كعموم الحاجة إلى القراءة في الصلاة » وقال ابن أبي جمرة: « التشبيه في تحفظ حروفه وترتيب كلماته، ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه، ويحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به، والتحقيق لبركته والاحترام له..

قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تِلوَيَّن للفريضة والقرآن ».

فلا تفرط - أخي في الله - فيما أرشدك رسولك لأن تحرص عليه مثل هذا الحرص.

ثالثاً: في أي شيء يستخير:  جاء في الحديث « في الأمور كلها » قال ابن أبي جمرة: « هو عام أريد به الخصوص فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما » ذلك أن الله قد خار لنا في ذلك حين شرع لنا أمر ديننا (ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, ولا مُؤمِنَةٍ, إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم).

 فإذا أقدم المسلم على أمر سأل عن حكم الإسلام فيه، فإن كان للإسلام حكم فيه بفعل أو ترك فقد قضي الأمر وما على المسلم إلا أن يمتثل، ويشمل ذلك الأمور المستحبة، فلا يستخير لقيام الليل ولا لصيام الاثنين والخميس، إذ في ذلك خير حتماً، فتبقى الاستخارة في كل الأمور المباحة التي لا يقطع بكونها خيراً أو شراً إلا عالم الغيب.

كم من الأمثلة على أمور ظن الإنسان فيها خيره فإذا فيها ضرره والعكس، والله يقول: (وعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وهُوَ خَيرٌ لَّكُم وعَسَى أَن تُحِبٌّوا شَيئاً وهُوَ شَرُّ لَّكُم واللَّهُ يَعلَمُ وأَنتُم لا تَعلَمُونَ) فلا ينبغي للمسلم أن يزهد في الاستخارة في أي أمر « ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم » وتكون الاستخارة أيضاً (في المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه).

 ولا يقدم الكثير على الاستخارة إلا في حال التردد، أما حين يظهر له الخير في أمر فإنه يغفل عن الاستخارة ويمضي في أمره معتمداً على علمه متكلاً على حوله وقوته، معرضاً عن هدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

 رابعاً: وماذا بعد الاستخارة؟ فإذا استخار المسلم ربه فإنه يمضي عازماً على أي أمر يراه، متوكلاً على الله في تحقيقه جازماً أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس شرطاً أن يأتيه بعد استخارته إلهام أو رؤيا صالحة أو أمر لا يعتاده وإن كان شيء من ذلك قد يقدره الله.

 ولما ظن بعض الناس ذلك ولم يجدوه بعد الاستخارة، ذهبوا إلى تكرار الاستخارة مرة بعد أخرى وإن كان تكرار الاستخارة في المسألة الواحدة قد أفتى بعض العلماء بجوازه من الناحية الفقهية، ولكن تكرارها بدافع التجربة والمحاولة ليس جيداً، بل قد يوقع الإنسان في اليأس والقنوط وسوء الظن بالله.

ولذلك فإن بعض من أفتى بجواز التكرار قيده بقيد من لم تطمئن نفسه لصلاته الأولى.

 فالاستخارة -في جوهرها- تربية إيمانية قلبية يقدم الإنسان على أمره بعدها واثقاً بأن ما يمضي فيه هو الخير، لأنه قد استخار ربه وهو يحسن ظنه بربه أنه قد خار له، وحينئذ حتى لو واجه عقبات وصعوبات ومشاكل فيما أقدم عليه فإنه لا يسيء الظن بربه لأنه أولاً لا يدري ما كان سيجده لو قدر له الأمر الآخر، وثانياً فالمؤمن لا يقيس الخير بالماديات وإنما بما يكون في عمله من بركة في الدنيا وأجر في الآخرة.

فلعل المصائب هي الخير له إذ فيها تكفير للذنوب ورفع للدرجات حين الصبر عليها.

 وحين يصل المؤمن إلى هذا الفقه لمعنى الاستخارة وما يترتب عليها، فحدث كما شئت عن مدى ارتياحه واطمئنانه وصبره على جميع أموره إذ يؤمن - وقد سبق أن استخار ربه بصدق - أن ما هو فيه هو خيرة ربه له، وذلك يورث من الاطمئنان والرضا بما يكون فوق ما يورثه شعوره أنها مجرد قدر الله له، فلا يندم ولا يتحسر ولا يقول لو...

لو.

 وينعكس أثر هذا على شخصيته، فيظهر دائماً واثقاً عازماً لا متردداً قلقاً.

 هذه بعض الآداب والتوجيهات في هذا الحديث العظيم الذي هجره كثير فن الناس وأعرض عنه زهداً فيه وغفلة عن لجوئهم إلى ربهم.

اللهم توكلنا عليك وفوضنا أمورنا إليك، إلهنا دبر لنا فإننا لا نحسن التدبير وخذ بأيدينا إلى كل خير.

 

ــــــــــــــــــــــ

(*) زيادة من رواية في كتاب التوحيد.

(1) رواه البخاري في كتاب الدعوات 11/183 باب الدعاء عند الاستخارة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply