رمضـان واستقبال المـودّعين


 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 


الـحـمــد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فلا شك أن الإنسان إذا عـمــل عـملاً، أو زار مكاناً، أو اجتمع إلى شخص، واستشعر أثناء ذلك أنه لن يعود إليه مرة أخرى، فـــإن هذا الشعور يضاعف في نفسه شعوراً آخر بضرورة اغتنام تلك الفرصة التي قد لا تتكررº ولـهــذا فـــإن الـصـحـابـة ـ رضوان الله عليهم ـ لما استمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موعظة ذرفت منـهـــا العيون، ووجلت منها القلوب، قالوا: (كأنها موعظة مودع)(1)، ولهذا أيضاً فإن النبي -صـلـى الله عليه وسلم- لما حج حجة (الوداع) جمع لأمته فيها من النصيحة في كلمات، ما تفرق خلال دعوته في سنواتº ومن هنا أيضاً ندرك السر في نصيحته لأحد أصحابه عندما قال له: (إذا قمتَ في صلاتك فصلّ صلاة مودع)(2) .تعالوا نتصور... رجلاً مخلصاً يصلي ركعات يعلم أنه يودع بها الدنيا.. كـيـف سـتـكـون في تمامها.. في خشوعها... في شدة إخلاصها وصدق دعائها؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا بهذا الهدي ـ والله أعلم ـ كيف نتخلص من آفة تحوّل العبادة إلى عادة.


فلماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها... خاصة وأننا إلى وداع في كل حال..؟ وخاصة أن صلاتنا ليست مهددة وحدها بالتحول من عبادة إلى عادة؟


إن رمـضـــــان يـحـــل علـيـنـا ضيفاً مضيافاً، يكرمنا إذا أكرمناه، فتحل بحلوله البركات والخيرات، يُقدم علينا، فيقدّم هو إلينا أصنافاً من الإتحافات والنفحات..


ضيف لكنه مضيف، وربما يكون الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة..! أو ربما ينزل هو في ضيافة غيرنا بعد أعمار قصيرة.. فهلاّ أكرمنا ضيفنا!


وهلاّ تعرضنا لنفحات مضيفنا!


تصور أخي القـارئ ـ أنك تستقبل ضيفاً عزيـزاً، وهو يستضيفك، وتعلم أنك بعد أيام قلائل ستودعه فلا تراه أبداً..! كيف ستستقبله؟ وكيف ستحسن صحبته، وتكرم مثواه؟


تعال معنا ـ أيها القارئ الحـبـيـب ـ نستحضر أحاسيس الوداع، لعلنا ندع بها دَعة تتلف أيامنا، وعدة من الأماني تـضـعــف إيمــانـنـا. تعال نخص هذا الشهر الكريم بمزيد اعتناء وكأننا نصومه صيام مودع!
تـعـال نقف مع أنفسنا هذه الوقفات لإخراج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة:


* نـصوم رمضان في كل عام وهمّ أكثرنا أن يبـرئ الذمة ويؤدي الفريضة.. فليكن همنا لهذا العام تحقيق ـ نعم تحقيق ـ معنى صومـه (إيماناً واحتساباً) ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا.. وهي كثيرة.


* نحـــرص كل عام على ختم القرآن في شهر القرآن مرات عديدة.. فلتكن إحدى ختمات هذا العام ختمة بتدبر وتأمل ونية إقامة حدوده قبل سرد حروفه.


* نسعى في تنقلنا بين المساجد للقيام إلى اختيار الصوت الأجمل.. فليكن سعينا العام وراء الصلاة الأكمل.


* يتزايد حرصنا في أوائل الشهر على عدم تضييع الجماعة مع الإمام.. فليكن حرصنا هذا العام طوال الشهر على عدم تفويت تكبيرة الإحرام.


* نـخــص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا، فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الأرواح والأنفس.


* إذا أدخلـنـا السرور على أسرنا ـ بهذا وذاك ـ فلنوسع الدائرة هذا العام فندخل السرور على أُسَرٍ, أخرى.. أَسَرتها الحاجة وكبّلَتها الأعباء.


* نتـصــدق كل عام بقصد مساعدة المحتاجين، فلنجعل قصدنا لهذا العام مساعدة أنفسنا التي بين أضلعنا على التخلص من نار الخطيئة بجعل تلك الصدقة خالصة لتطفئ غضب الرب.


* نحرص على العمرة في رمضان لفضلها.. فلنجعلها لعمرنا كله هذا العام ـ إذا أذن الله ـ نغسل بها ما مضى... فقد يكون آخر العهد بالبيت ذاك الطواف.


* نحرص ـ وإياك ـ على اكتساب العمل النافع في رمضان، فليكن هذا النفع متعدياً للغير بكتاب يُهدى أو نصيحة تُسدى.


* لنفسك من دعائك النصيب الأوفى، فلتتخل عن هذا (البخل) في شهر الكرم، فملايين المسلمين في حاجة إلى نصيب من دعائك الذي تُـؤَمّن عليه الملائكة وتقول: ولك بمثله.


* الجود محـمـــود فـي رمـضــان ـ وأنت أهله ـ ببذل القليل والكثير، فليمتد جودك إلى الإحسان لمن أساء، وصلة من قطع.


* لنكف عن الاعتكـاف إلى الـنـاس، ولنـكـتـف بالعـكــوف مع النفس لمحاسبتهاº فربما يفجؤنا المـوت فنحاسَـب داخل القبر قبل أن نتمكن من محاسبـة أنفسنـا ونحن أحيـاء على ما فرطنا في جنب الله.


* نحب التعبّد بتفطير الصائمين، فلنجرد هذه العبادة من حـــب المحمدة أو دفع المذمة، فذلك رياء لا يثيب صاحبه بل يصيب مقاتله.


* تفـطـيـر الـصـائمين من جوعة البطن مستحب مندوب، ولكن إشباع جياع القلوب فرض مطلوب، فليكن لنا جهد في هذا مع جهدنا في ذلك.


* تصفّ قدميك مــــــع مصلين لا تعرفهم... فهلاّ تعرفت على ما يوحّد قلبك معهم ويضم صفك إليهم، فإن تسوية الصفوف خلف الإمام ما جُعلت إلا لتوحيد القلوب على الإيمان.


* لنا ولك أعداء، فانتصر عليهم بالدعاء إن كانوا كافرين، وانتصف منهم بالدعاء إن كانوا مسلمين، فكم من دعاء حوّل العداء إلى ولاء.


* في رمضان، يذكرك الضعفاء بأنفسهم على نواصي الطرق وأبواب المساجد، فلتذكر أنت المستضعفين من المسلمين الذين لا سبيل لهم إليك ليذكّروك بأنفسهم.


* يتوارد على سمعك في كل عام ما يعرّفك بقدر رمضان، فاجعل همّ هذا العام أن تتعامل مع رمضان بمقدار قدره.


* قدر رمضان يتضاعف في ليلة القـدر، فهـل قدّرت في نفسك أنها ربما فاتتك في أعوام خالية؟! اغتنمها اليوم فقد لا تأتي بها ليالٍ, تالية.


* إذا ودّعت رمضان.. أو ودّعك رمضان.. فاستحفظه ربك، واستودعه ما عملت فيه.. حتى لا يضيع، فلا تدري، لعلك لا تلقاه بعد عامك هذا..


* إذا لقيته في عام قابل ـ بّلغنا الله وإياك شهوره ـ فعد مرة أخرى واستقبله استقبال المودعّين.
هذه خطرات على أبواب هذا الموسم العظيم فهلاّ عقدنا العزم على أن يكون بداية جديدة ومخلصة للعودة الصادقة إلى الله.


فاللهم بارك لنا في رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقاء النيران. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الهوامش :


(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم (16) وابن ماجه في المقدمة (6) والدارمي في المقدمة (16).
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (15) وأحمد في مسنده (412/5).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply