الحسبة والمحتسبون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

احتساب الأنبياء - عليهم السلام -

الحمد لله العليم الخبيرº أمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين، ونهى عن الفساد وذم المفسدين، نحمده على نعمه وإحسانه، ونشكره على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهºأرسل الرسل مبشرين بدينه - سبحانه - وبرحمته وثوابه، ومنذرين عن مخالفة أمره، والوقوع في نهيه، ومحذرين من شدة انتقامه، وأليم عقابه {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وأشهد أن محمدا عبده ورسولهº أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالىº فاتقوه حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقىº فتلك وصية الرسل - عليهم السلام - إليكم {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يـا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

 

أيها الناس: لما خلق الله - تعالى -البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.

وفريق الجنة هم الأنبياء وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون، وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفسادº ولذا كان أكثر الناس صلاحا وإصلاحا الرسل - عليهم السلام -º لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد، وقد قال الله - تعالى -عن الصالحين من آل إبراهيم - عليه السلام - {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال شعيب وهو يحتسب على قومه {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.

وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهمº قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسداتº وذلك حين ذكرهم الله - تعالى -مبينا فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم أعقب - سبحانه - ذلك بقوله - عز وجل -: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.

ومن قرأ القرآن بتدبر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيهº علم أن الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله - تعالى -ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.

والموضوعات التي احتسب فيها الرسل - عليهم السلام - على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله - تعالى -ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم.

لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة.

لقد احتسب الرسل على أقوامهم في مسألة التوحيد، وهي أعظم مسألة وأجلها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.

وكان احتسابهم شاملا لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهمº لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم - عليه السلام - على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وأنكر موسى - عليه السلام - على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله - تعالى -.

وتحمل هذان النبيان الكريمان - عليهما السلام - في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحملا من الأذى في سبيل الله - تعالى -مما قصه الله - تعالى -في كتابه العزيز.

وأنكر موسى - عليه السلام - على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم: {أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون}، وفي الآية الأخرى: {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فكان موسى - عليه السلام - قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لإرضاء البشر من دون الله - تعالى -، كما كان قدوة صالحة لمن يفضحون الكتاب والمفكرين والإعلاميين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!! وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!! وكم يفترى على المصلحين المحتسبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل؟!

وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا - عليهم السلام - ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم!!

هذا نوح - عليه السلام - يخاطب ابنه وقد بدت بوادر العذاب لينقذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}.

واحتسب إبراهيم - عليه السلام - على أبيه فخصه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره {واذكر في الكتـاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطـان إن الشيطـان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطـان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}.

واحتسب إسماعيل - عليه السلام - على أهل بيته كما ذكر الله - تعالى -عنه ذلك بقوله: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة}.

واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصيº فنوح - عليه السلام- أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم - عليه السلام - أنكر على قومه اعتقادهم في النجوم وفي أصنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبين ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم {فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون} ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}.

وهود - عليه السلام - احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون {من أشد منا قوة} فبين لهم - عليه السلام - أن الله - تعالى -أقوى منهم، وحذرهم من مغبة عبثهم، وقال منكرا عليهم:{أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون}.

واحتسب صالح - عليه السلام - على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال - عليه السلام – لهم: {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون}. كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم: {ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.

وأما قوم لوط - عليه السلام - فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالىº فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفـاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} وكانوا يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله - عليه السلام -: {إنكم لتأتون الفـاحشة ما سبقكم بها من أحد من العـالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر}.

وأما شعيب - عليه السلام - فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال - عليه السلام – لهم: {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم} كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال - عليه السلام - لهم {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وفي الآية الأخرى {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}.

وكما احتسبت الرسل - عليهم السلام - على أقوامهم فنهوهم عن هذه الموبقاتº فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله - تعالى -، ويوصل إلى جنته..

أمروهم بشكر الله - تعالى - على نعمه، والإقرار بفضله، وإخلاص الدين له، فهذا هود وصالح - عليهما السلام - يقولان لأقوامهما {اذكروا آلاء الله}.

وموسى - عليه السلام - فعل ذلك أيضا: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}.

وأمروا أقوامهم بالتوبة والاستغفارº فهود وصالح - عليهما السلام - قالا لأقوامهما {استغفروه ثم توبوا إليه} وقال شعيب - عليه السلام - لقومه {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.

ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم {وقال موسى لأخيه هـارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.

وما أشد غضب الرسل - عليهم السلام - حين تنتهك حرمات الله - تعالى -.. يغضبون غيرة على دين الله - تعالى -ولا يغضبون لأنفسهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا، فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله - تعالى -، واشتد غضبهم له - سبحانه -.

ولما أوحى الله - تعالى -إلى نوح - عليه السلام - أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك غيرة لله - تعالى -، وانتصارا لدينه {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكـافرين ديارا}. ولم يكن دعاؤه عليهم بالهلاك انتصارا لنفسه، أو انتقاما منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علل دعاءه عليهم بقوله - عليه السلام - {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}.

ولما عاد موسى - عليه السلام - من ميقات ربه، وتكليمه إياه وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالىº غضبا لله - تعالى -أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس!! فالله المستعان.

والرسل - عليهم السلام - قضوا أعمارهم كلها في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح - عليه السلام - محتسبا على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك أن الرسل - عليهم السلام - ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.

ولقي الرسل - عليهم السلام - في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذىº فنوح - عليه السلام - سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم - عليه السلام - أُلقي في النار، ورمي هود - عليه السلام - بالجنون، واتهم موسى- عليه السلام - بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب - عليه السلام - أن يرجم لولا منعة قومه، وقتل زكريا ويحيا - عليهما السلام -، وطورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله - تعالى - في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.

ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسل - عليهم السلام - ليقبلوا المساومة في دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم، وكان سليمان بن داود - عليهما السلام - قدوة للمحتسبين في ذلكº إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتـاني الله خير مما آتـاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صـاغرون}.

جعلنا الله - تعالى - من أتباع الرسل - عليهم السلام -، ووفقنا للصلاح والإصلاح، ورزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله - تعالى -لي ولكم....

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله - تعالى -وأطيعوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.

أيها المسلمون: أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاءº لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.

ومن نظر في سير الأنبياء - عليهم السلام - ظهرت له تلك الحقيقةº إذ إن الأنبياء - عليهم السلام - وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس إلا.

قال نوح - عليه السلام - وهو يدعو قومه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} وقال هود - عليه السلام - {وأنا لكم ناصح أمين} وقال صالح شعيب - عليهما السلام - {ونصحت لكم}.

وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويودون نشر الفاحشةº لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.

والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، سبحان الله!! ما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهمº إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!

والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهواتº لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.

وتلك الحجة السامجة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل - عليهم السلام - يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!

إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.

إن من نظر في سير الأنبياء - عليهم السلام -، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبتº ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك. وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعةº رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذا بجميعها؟!

ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله - تعالى -منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه:

فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى - عليهما السلام - على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.

ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح - عليهما السلام - مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.

ومَثَّلَ احتساب لوط - عليه السلام - مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.

ومَثَّلَ احتساب شعيب - عليه السلام - مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.

كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب - عليهما السلام - مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.

فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله - تعالى -{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وكفى بذلك شرفا وفضلا.

ومن اختار مجالا من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك، فقد اقتدى برسول من رسل الله - تعالى -، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.

ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيرا كثيرا، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.

وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجني، والافتراء والتشفي في أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!!

ومن روج الشائعات على أهل الاحتساب فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين.

فاعرفوا رحمكم الله - تعالى -مقام الحسبة من الدين، واعلموا أنها وظيفة المرسلين، فقوموا بها، وأعينوا أهلها، وخذوا على أيدي المفسدين، طاعة لله - تعالى -، وحفظا لمجتمعاتكم من البلاء والعقوبة. وصلوا وسلموا.....

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply