دعم الجمعيات من مال اليانصيب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

قد ورد إلى الموقع هذا السؤال من إحدى الجاليات الإسلامية في المملكة المتحدة (بريطانيا)، وكان السؤال على النحو التالي:

هناك جمعيات إسلامية أنشئت في ديار الغرب للاهتمام بأمور الجالية الإسلامية، لاسيما الناشئة منها، ولا يخفى أهمية وجود أمثال هذه الجمعيات لما تقدمه من خدمات كبيرة لا يدرك أهميتها إلا من ابتلي بالإقامة في تلك الديار وعانى من ويلات تلك المجتمعات الجاهلية.

لكن من أهم المشاكل التي تواجه هذه الجمعيات هو قضية التمويل، وهو أمر في غاية الأهمية لاستمرار تلكم النشاطات، ويمكن للدولة أن تدعم هذه الجمعيات، لكن من خلال أموال ما يعرف بـ (Lottery) أو اليانصيب، فهل يجوز لهذه الجمعيات أخذ هذه الأموال للإنفاق منها على نشاطاتها العامة؟

الرجاء التفصيل في الإجابة من حيث الأدلة، سواء كانت بالمنع أو الجواز، وبارك الله فيكم وفي جهودكم.

فعرضنا السؤال على فضيلة الشيخ الدكتور سامي السويلم (مدير مركز البحث والتطوير بالمجموعة الشرعية بشركة الراجحي)،

فأجاب فضيلته بقوله:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

هذه القضية يتجاذبها أصلان :

 

الأصل الأول:

عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم". وقال: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والمال المأخوذ بطريق محرم لا يصدق عليه أنه طيب، فلا ينبغي قبوله، ويؤيد ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" أخرجه مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، والغلول، هو: ما يؤخذ من الغنائم قبل قسمتها بين الجيش ودون إذن الإمام، فهو نوع من السرقة، فيكون مدلول الحديث أن الله تعالى لا يقبل الصدقة إذا كان مصدرها محرماً، وإذا كان الله تعالى لا يقبل هذه الصدقة فلا ينبغي للمسلم أن يقبلها.

ويشهد لهذا الأصل أيضاً قصة المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وكان قبل إسلامه قد صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء" أخرجه البخاري في صحيحه، فدل على أن المال المأخوذ ظلماً لا يجوز قبوله.

 

الأصل الثاني:

عموم قوله تعالى: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى"(الأنعام: من الآية164)، وقوله جل شأنه: "يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرٌّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ"(المائدة: 105).

وهذا الأصل يقتضي أن من اكتسب مالاً حراماً فوزره عليه، ولا يتعداه إلى الآخرين إذا كان تعاملهم معه مشروعاً في نفسه.

ويشهد لذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعامل مع اليهود بالبيع والشراء والشركة، مع علمه بكثرة تعاملهم بالربا، كما قال تعالى عنهم: "وَأَخذِهِمُ الرِّبا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِل، وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ مِنهُم عَذَاباً أَلِيما" (النساء: 161).

كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَبِل هدية اليهودية التي أهدت له شاة مسمومة.

ومن هذا الباب أيضاً أن الفاروق -رضي الله عنه- وافق أن تؤخذ الجزية من أهل الذمة من ثمن الخمر التي يتبايعونها، بدلاً من أخذ الخمر، وقال: "ولّوهم بيعها وخذوا منهم أثمانها" أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وأبو عبيد في الأموال، قال شيخ الإسلام: "وهذا ثابت عن عمر - رضي الله عنه- "، وهو مذهب الأئمة"(الفتاوى).

وهذا صريح في قبول المسلمين أن تكون الجزية من ثمن الخمر، مع أن الخمر محرمة، وثمنها محرم أيضاً.

وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: "إن لي جاراً يأكل الربا وإنه لا يزال يدعوني"، فقال: "مهنؤه لك وإثمه عليه".

وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "إذا كان لك صديق عامل، أو جار عامل، أو ذو قرابة عامل، فأهدى لك هدية أو دعاك إلى طعام، فاقبله، فإن مهنأه لك وإثمه عليه". رواهما عبد الرزاق في المصنف، ورجال الإسنادين ثقات، وسلمان وابن مسعود من علماء الصحابة وفقهائهم المعروفين -رضي الله عنهم جميعاً-.

فدل ذلك على أن الوزر يتحمله آكل الحرام ولا يتعداه إلى غيره.

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم"، أخرجه عبد الرزاق في المصنف كذلك.

 

الجمع بين الأصلين:

وللعلماء في الجمع بين هذين الأصلين مسلكان:

المسلك الأول: يفرق فيه بين أمرين:

الأمر الأول: من يكتسب المال الحرام وهو يعتقد تحريمه.

الأمر الثاني: من يكتسب المال الحرام معتقداً أنه حلال.

فالأول لا يعذر في كسبه للحرام لعلمه بذلك، ولذلك لا يقبل منه المال الحرام، كما في قصة المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-.

أما الثاني فهو لا يعتقد أنه حرام أصلاً إما لعدم إسلامه أو لكونه جاهلاً أو متأولاً ولذلك يقبل منه، كما في قبول أثمان الخمر عن الجزية من أهل الذمة.

ولكن يترتب على هذا المسلك أن التعامل مع غير المسلم يصبح أكثر تسامحاً من التعامل مع المسلم، إذا كان كلاهما واقع في المحرم.

وهذا ما جعل بعض الفقهاء يفضل التعامل مع الصيرفي غير المسلم على الصيرفي المسلم، إذا كان كلاهما يتعامل بالربا لأن غير المسلم يعتقد حل الربا أما المسلم فهو يعتقد تحريمه.

وهذه النتيجة محل نظر كبير، فالمسلم خير من غير المسلم، وإن كان مرابياً لأن مجرد التعامل بالربا لا يخرجه عن الإسلام ولذلك قال شيخ الإسلام منتقداً هذه النتيجة: "ومعلوم أن الله ورسوله لا يأمر المسلم أن يأكل من أموال الكفار ويدع أموال المسلمين، بل المسلمون أولى بكل خير، والكفار أولى بكل شر"، (الفتاوى).

كما أن الآثار المنقولة عن سلمان وابن مسعود -رضي الله عنهما- تتعلق بمن يعتقدون حرمة الربا، ومع ذلك فقد قالا بجواز التعامل معهم وقبول المال منهم، وأن وزر الربا على صاحبه وليس على المتعامل معه.

المسلك الثاني: يفرق فيه بين أمرين:

الأمر الأول: ما كان التحريم فيه لحق الله تعالى.

الأمر الثاني: ما كان التحريم فيه لحق المخلوق.

فالتحريم لحق المخلوق، مثل: تحريم السرقة والغلول والغصب ونحو ذلك، وهو الذي يؤخذ فيه المال بغير رضا صاحبه، كما قال تعالى: "يا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ, مِنكُم وَلا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيماً" (النساء: من الآية29).

أما التحريم لحق الله تعالى فهو كتحريم الربا والميسر.

فالربا محرم وإن كان يحصل بتراضي الطرفين في الظاهر، وكذلك الميسر، فهنا التحريم لحق الله تعالى ولا يفيد تراضي الطرفين شيئاً لأن التراضي حصل لما هو ضرر في حقيقة الأمر، كالتراضي على الزنا والخمر والمخدرات.

وبناء على هذا الفرق فإن من أخذ مالاً محرماً لحق المخلوق، فلا يقبل منه هذا المال إذا بذله في تبرع أو معاوضة لأن المال مأخوذ ظلماً من طرف آخر، فيجب رده إلى صاحبه ولا يجوز الانتفاع به، وقصة المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- من هذا الباب لأن المال الذي جاء به للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُخذه من أصحابه بدون رضاهم، ولذلك لم يقبله النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وكذلك نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم قبول الصدقة من الغلول لأن الغلول سرقة للمال من أصحابه، وهم الجيش الذين استحقوا الغنائم.

أما ما كان التحريم فيه لحق الله تعالى كالربا والميسر وثمن الخمر ونحوها، فإن وزر صاحبه بينه وبين الله تعالى فهذا يدخل في عموم قوله -عز وجل-: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُونَ"(الأنعام : من الآية164).

فمن تعامل مع المرابي معاملة مشروعة، كبيع أو شراء أو ضيافة ونحوها، فلا يناله من وزر المرابي شيء.

وإنما كره عدد من أهل العلم ذلك لما قد يتضمنه من إقرار المنكر والإعانة عليه، فهذا قد يوجب ترك معاملة المرابي لا لأن قبول ماله محرم في نفسه، ولكن من باب إنكار ما هو عليه من أكل المال المحرم.

ولهذا قال إبراهيم النخعي -رحمه الله- : "أقبل (أي: هدية المرابي) ما لم تأمره أو تعينه"، (مصنف عبد الرزاق).

فإذا كان قبول هدية المرابي يعينه على الحرام ويشجعه عليه، فهو محرم من هذا الوجه، فإذا لم يكن في قبول الهدية إعانة، ولم يكن في تركها ما يمنعه عن ترك الحرام، كما هو الحال مع غير المسلمين، فلا مبرر في هذه الحالة لعدم قبول أموالهم إذا حصلت بوجه مشروع.

ولذلك تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود، وقَبِل منهم عمر -رضي الله عنه- الجزية من أثمان الخمور لأنهم لن يتركوا التعامل في الخمور لمجرد أنا تركنا التعامل معهم، فإذا كانوا مستمرين على ما هم عليه، ولا يترتب على هجرهم مصلحة، أو كانت مصلحة الهجر أقل بكثير من مصلحة قبول المال والانتفاع به، فالأولى تقديم كبرى المصلحتين على أدناهما، كما هي قاعدة الشريعة المطهرة.

ومن هذا الباب يفهم قول سلمان وابن مسعود - رضي الله عنهما-، فإن فتواهما بجواز قبول دعوة المرابي المسلم يخرَّج على أن مصلحة هجره قليلة أو معدومة، فليس هناك ما يمنع من قبول دعوته، خاصة إذا كان في ذلك تأليف لقلبه وتذكير له ونصحه بما ينفعه، فهذه المصلحة قد ترجح مصلحة الهجر، فتكون مقدمة عليها، وهذا المسلك هو الأرجح والأقرب لقواعد الشريعة ومقاصدها.

 

تبرعات الحكومات الغربية:

وبناء على ما سبق يتبين حكم دعم الحكومات الغربية للأقليات الإسلامية، من أموال اليانصيب أو غيرها من المصادر المحرمة في الشريعة الإسلامية.

 

فما موقف الأقليات المسلمة من ذلك؟

إن الحكومات الغربية تعتقد أن اليانصيب عمل مشروع، وهي تحصل على هذه الأموال برضا أصحابهاº وهذا يعني أن التحريم هنا راجع إلى حق الله تعالى وليس لحقوق الناس.

وقد سبق أن ما كان من هذا النوع فإن وزره على صاحبه، ولا يتحمل الآخرون منه شيئاً، إذا كان تعاملهم معها مشروعاً في نفسه.

وكون الحكومات الغربية تعتقد جواز اليانصيب، فهذا يعني أن عدم الانتفاع بهذه الأموال لا يؤثر كثيراً في موقف الحكومة في ترك اليانصيب، كما أن عدم التعامل مع أهل الذمة لم يكن يؤثر كثيراً في تركهم للخمور.

فإذا جاز للمسلمين، حال قوتهم واستعلائهم، الانتفاع بأموال أهل الذمة التي حصلوا عليها عن طريق بيع الخمور، فلا ريب في جواز انتفاع المسلمين حال ضعفهم وكونهم أقلية بأموال غير المسلمين، والتي حصلت عن طريق اليانصيب، وهذا من باب أولَى.

ومع ذلك فإن من مصلحة المراكز والجمعيات الإسلامية في الغرب، أن تحافظ على استقلاليتها المالية قدر الإمكان.

ولذا فنقترح ألا يبلغ الدعم الحكومي للمراكز الإسلامية أو الجمعية الإسلامية نسبة من ميزانيتها بحال من الأحوال، وأن يتم تمويل الباقي من الموارد الذاتية للمسلمين في المنطقة وذلك لسببين:

الأول: المحافظة على استقلالية المركز الإسلامي وشخصيته.

الثاني: مراعاة للخلاف في هذه المسألة.

فبالرغم من أن القول بالجواز هو الأرجح، إلا أن هذا لا يرفع الخلاف ولا ينفي بقاء شبهة على الأقل لدى القائلين بخلاف ذلك.

فإذا اقتصرت نسبة الدعم على أقل من النصف، وكان الباقي وهو الأكثر من موارد متفق على مشروعيتها، كان ذلك أدعى للقبول لما تقرر في الأصول من أن العبرة والحكم يكون للغالب، وغالب موارد المركز في هذه الحالة تصبح من مصادر مشروعة.

هذا ما ظهر لي في هذه القضية، فإن كان صواباً فمن فضل الله ورحمته، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من كل زلل. والحمد لله رب العالمين.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

مراجع:

أحكام الاشتباه الشرعية، يوسف البدوي.

أحكام أهل الذمة، لابن قيم الجوزية.

أحكام المال الحرام، عباس الباز.

الإنصاف، للمرداوي.

القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية، إبراهيم الشال.

القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية، عبد السلام الحصين.

 

مجموع الفتاوى، لابن تيمية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply