عباد الرحمن 3


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله الُُذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة وجعل امتنا وله الحمد خير أمه وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا وعلمنا الكتاب والحكمة وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة وأشهد أن محمد عبدة ورسوله أرسله للعالمين رحمة وخصه بجوامع الكلم فربما جمع أشتات الحكم والعلم في كلمة أو شطر كلمة صلى الله علية وعلى أله وأصحابه صلاه تكون لنا نوراًً من كل ظلمة وسلم تسليما

فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل -: ((وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.

ثم أما بعد

لا زلنا وإياكم في ضلال صفات عباد الرحمن واليوم لقاءنا الثالث مع الصفة الأولى لهم وهي صفة صيانة النفس البشرية من التلف، بقوله - تعالى -: (وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَق) الفرقان 68، لأن الأصل في النفس البشرية أنها واحدة (يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) النساء 1، وقتل الجزء بمثابة قتل الكل. والأحاديث النبوية في الأمر كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا) مورد الظمآن،

وقوله((قَتلُ المُؤمِنِ أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ مِن زَوَالِ الدٌّنيَا) النسائي وقوله - صلى الله عليه وسلم - (أَوَّلُ مَا يُقضَى بَينَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ) البخاري.

ويشمل ذلك قتل الإنسان نفسه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَن قَتَلَ نَفسَهُ بِحَدِيدَةٍ, فَحَدِيدَتُهُ بِيَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَن قَتَلَ نَفسَهُ بِسُمٍّ, فَسُمٌّهُ بِيَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ, فَقَتَلَ نَفسَهُ فَهُوَ يُرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) أحمدكما يشمل الإجهاض وعملية تحديد النسل، بطرق غير شرعية ولغير ضرورة معتبرة، وفي ذلك يقول الله - تعالى -(قَد خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَولادَهُم سَفَهاً بِغَيرِ عِلمٍ, وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَد ضَلٌّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ)الأنعام 140. ويشمل قتل الغير(وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ) الأنعام 151 (مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفسٍ, أَو فَسَادٍ, فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة32. عباد الله أيها المسلمون ومن صفات عباد الرحمن اجتناب فاحشة الزنى: بقوله - تعالى -(وَلا يَزنُون) الفرقان 68، وكما قال - تعالى -: (وَلا تَقرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) الإسراء 32

ولذلك بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العواقب المدمرة لشيوع الفاحشة في المجتمع(عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قَالَ أَقبَلَ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: \"َ يَا مَعشَرَ المُهَاجِرِينَ خَمسٌ إِذَا ابتُلِيتُم بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَن تُدرِكُوهُنَّ، لَم تَظهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ, قَطٌّ حَتَّى يُعلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوجَاعُ الَّتِي لَم تَكُن مَضَت فِي أَسلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوا، وَلَم يَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المَئُونَةِ وَجَورِ السٌّلطَانِ عَلَيهِم، وَلَم يَمنَعُوا زَكَاةَ أَموَالِهِم إِلَّا مُنِعُوا القَطرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَولَا البَهَائِمُ لَم يُمطَرُوا، وَلَم يَنقُضُوا عَهدَ اللَّهِ وَعَهدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن غَيرِهِم فَأَخَذُوا بَعضَ مَا فِي أَيدِيهِم، وَمَا لَم تَحكُم أَئِمَّتُهُم بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأسَهُم بَينَهُم) ابن ماجه

وقد امتدح الله - تعالى -العفة وحرض عليها وبشر أصحابها بالفلاح (وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ) المؤمنون 5، وأرشد إلى ما يعين على ذلك ويسد الذرائع إلى فاحشة الزنى (قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصنَعُون) النور 30، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (يَا مَعشَرَ الشَّبَابِ مَنِ استَطَاعَ مِنكُمُ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّج وَمَن لَم يَستَطِع فَعَلَيهِ بِالصَّومِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) البخاري، كما حذر - عز وجل - حفظا للمجتمع وصيانة للأعراض من إشاعة الفاحشة بالقول أو الفعل أو سوء الظن(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَة) النور 19

ثم يُعقِب الله صفات عباد الرحمن بوعيد صارم للعصاة، ووعد حق للطائعين التوابين.

أما وعيده فقولـه - تعالى -(وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَاما)، فقولـه (ومن يتجرأ على فعل تلك الأثام من القتل والزنا يلق أثاما أي نكالا ووبالاً (يُضَاعَف لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُد فِيهِ مُهَانا) الفرقان 69، فالخلود في النار بسبب الشرك ودعوة غير الله - تعالى -، أما المؤمن فتضاعف عقوبته ولكنه لا يخلد في النار.

هذا الوعيد الصارم الشديد أسلوب يؤثر في النفس البشرية التواقة إلى النجاة والسعادة، إذ الخوف والرجاء فطرة بشرية أصيلة، والمؤمن الحق دائما بين خوف يرده عن المعاصي ورجاء يحث به الخطى نحو الجنة، (إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين) الأنبياء90،

ثم تأتي رحمة الله الواسعة لذلك عقب - تعالى -على ذكر العقوبة، بفتح باب الرجاء والأمل والبشارة لمن أقلع وتاب ورجع إلى الحق والصواب، كيلا تتقطع قلوب العباد يأسا وقنوطا، فقال (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ, وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) الفرقان 70، فأرشد إلى طريق النجاة من العذاب المضاعف المخلد في النار، وبَيَّنَ أن التوبة مسلك ذلك ووسيلته الأولى والوحيدة.

إن حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب إلى الطاعة، والله تواب: أي يتوب على عبده ويقبل توبته ويعود عليه بالمغفرة والفضل، أو يوفقه للتوبة ويسدد خطاه في طريقها.

و التوبة فرض على جميع المسلمين، لقوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبٌّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَار)، فوصفها - تعالى -بلفظ (نصوح) تمييزا لها عن التوبة المائعة الوقتية التي سرعان ما تتلاشىº فالنصوح (أي الخلوص) والصدق أهم صفاتها وجوهر حقيقتها، يقال \" والتوبة النصوح كذلك لأنها تخلص صاحبها من كل الآفات وتصفيه من كل الذنوب. لذلك كانت للتوبة النصوح شروط لا تتحقق إلا بها، وهي:

1-الندم على ما ارتكب من السيئات. 2-الإقلاع عن رديء الأعمال والعادات.

3-القيام في الحال على أحسن الحالات. 4- رد الحقوق والمظلمات.

5- العزم على ترك العودة إلى المخالفات. 6- تدارك ما أمكن تداركه مما فات من الأعمال الصالحة والعبادات.

 

فالتوبة بذلك ندم يورث عزما وقصدا، وعلامة الندم رقة قلب خوفا ورجاء، وغزارة دمع حزنا واستغفارا، لذلك قال عمر - رضي الله عنه -: (اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة). وعلامة العزم والقصد الإقلاع البات والجهد في الطاعة. و لقد رغب الشرع الحكيم في التوبة وحرض عليها وحببها بنصوص الكتاب والسنة فقال - تعالى -: َ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُون) النور31

- (إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبٌّ المُتَطَهِّرِين) البقرة 222

(أَلَم يَعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَأخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) التوبة 104

(قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر 53

- (وَمَن يَعمَل سُوءاً أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما) النساء 110

وأخرج أحمد: حَدَّثَنَا عَن أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - يَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ وَيَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا

وأخرج مسلم: وَكَانَ مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ ابنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا أَيٌّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي اليَومِ إِلَيهِ مِائَةَ مَرَّةٍ,

إن الله - عز وجل - يستثني من العذاب، التوابين توبة نصوحا، توبة في طياتها الإيمان والعمل الصالح، ويجزيهم على ذلك جزاء أوفى يناسب عظمة كرمه وعفوه، ومن أكرم منه تعالى؟ ومن أكثر عفوا منه - سبحانه -؟ يقول - عز وجل -: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ, وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان 70

أخرج الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعمَشُ عَنِ المَعرُورِ بنِ سُوَيدٍ, عَن أَبِي ذَرٍّ, قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّي لَأَعرِفُ آخِرَ أَهلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ وَآخِرَ أَهلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ يُؤتَى بِرَجُلٍ, فَيَقُولُ نَحٌّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَن صِغَارِهَا قَالَ فَيُقَالُ لَهُ عَمِلتَ كَذَا يَومَ كَذَا وَكَذَا وَعَمِلتَ كَذَا يَومَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لَقَد عَمِلتُ أَشيَاءَ لَم أَرَهَا هُنَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَت نَوَاجِذُهُ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ, حَسَنَةً.

ثم عقب - سبحانه - على التوبة من الذنوب بقولـه: (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) الفرقان 71، فالتوبة الأولى توبة من الذنوب ورجوع عن المعصية إلى الطاعة، وإقلاع عن الخطأ إلى الصواب،، أما التوبة الثانية هنا فتعني الرجوع إلى الله وحكمه، وإلى صراطه المستقيم، واستحقاق نعيمه المقيم، كما تعني كذلك أن من تاب تاب الله عليه وغفر له، مثل قوله (وَمَن يَعمَل سُوءاً أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما) 110، وهذا إخبار منه - تعالى -بواسع رحمته وعموم لطفه وجزيل إحسانه.

عباد الله صفات عباد الرحمن تتوالى ومن صفاتهم قال - تعالى -بعد ذلك (وَالَّذِينَ لا يَشهَدُونَ الزٌّورَ) الفرقان72

وحرف الزاي والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومنه \" ازوَرَّ عن الشيء\" إذا مال عنه وانحرف، وكل ما هو تغيير للحق والحقيقة زور، فالكذب زور لأنه ميل عن طريق الحق، والشرك والكفر والباطل أيا كان زور، ومجالس اللهو والعبث والفاحشة زور كذلك، أما شهادة الزور فمنها حضور كل مجلس يجري فيه ما لا يجوز شرعا أو مروءة، لأن مجرد مشاهدة هذه المجالس أو حضورها اشتراك فيها وإقرار لها ورضا بها، يقول - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِض عَنهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ, غَيرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيطَانُ فَلا تَقعُد بَعدَ الذِّكرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ) الأنعام 68، ويقول أيضا: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزٌّورِ) الحج30، ومنها أيضا تزوير الحقائق وقلبها عند تأدية الشهادة إن احتيج إليها، وهو ما رواه البخاري في صحيحه، قال عَن عَبد ِالرَّحمَنِ بنِ أَبِي بَكرَةَ عَن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: \" أَلَا أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِر\"ِ ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: \" الإِشرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الوَالِدَين \"، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَال: \"َ أَلَا وَقَولُ الزٌّورِ\"، قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا لَيتَهُ سَكَتَ). والآية بهذا تحرم الزور قولا وفعلا وسماعا ومشاهدة وشهادة، وتنـزه المؤمن عن مخالطة الشر وأهله، وتصون دينه عما يثلمه ويشينه.

ثم يقول - تعالى -(وَإِذَا مَرٌّوا بِاللَّغوِ مَرٌّوا كِرَاماً) الفرقان72:

واللغو هو كل ما سقط من قول أو فعل أو سفاهة، وما لا يعتد به ولا تحصل منه فائدة،.واللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك من الأقوال والأفعال مما ليس بطاعة أو مباحº فإذا صادف أن مر المؤمن بمجالس الزور واللغو أكرم نفسه ونزهها بالإعراض والإنكار وترك الخوض فيها أو المساعدة عليها أو النظر والمشاهدة لها (وَإِذَا مَرٌّوا بِاللَّغوِ مَرٌّوا كِرَاماً).

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد:

عباد الله يقول - جل وعلا - (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِم لَم يَخِرٌّوا عَلَيهَا صُمّاً وَعُميَاناً) الفرقان73:

وللمرء إذا ما ذُكر بآيات الله وآلائه ونعمه، أو وجه إليه نصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حث على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:

إما أن يتلقى ذلك مفتحا ذهنه حريصا على الاستفادة، مقبلا على المذكر الناصح بأذن واعية وعين راعية وقلب خاشع، ممتثلا لشرع الله وحكمه، وهو بذلك من (الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُم أُولُو الأَلبــَابِ) الزمر18.

وإما أن يخر على النصح بأذن صماء وعين عمياء وقلب مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال - تعالى -: (وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالأِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلٌّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) الأعراف 179.

أيها المسلمون إن الذين يذكرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقُولُ أَيٌّكُم زَادَتهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتهُم إِيمَاناً وَهُم يَستَبشِرُون، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجساً إِلَى رِجسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ) التوبة 124-125

والصفة الأخرى لعباد الرحمن فهم دائماً يدعون الله (و يَقُولُونَ رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعيُنٍ,) الفرقان74:

لأن الرجل إذا كانت له زوجة صالحة وذرية طيبة مطيعة معاونة، وبورك له في أهله وولده قرت عينه بهم وسكنت عن ملاحظة أزواج الآخرين وذرياتهم، وذلك هو قرة العين وسكون النفس. ولذلك يحرص عباد الرحمن على أن يكون لهم أعقاب عمال لله تقر بهم الأعين، وأزواج صالحات يساهمن في تربية الذرية على التقوى والصلاح، فلا تنقطع أعمالهم بالموت وإنما تستمر في الأبناء والحفدة، ويوقنون أن ذلك هبة من الله - تعالى -فيلجؤون إليه بالدعاء والتوسل (قَالَ رَبِّ هَب لِي مِن لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدٌّعَاء)آل عمران 38 (فَهَب لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِن آلِ يَعقُوبَ وَاجعَلهُ رَبِّ رَضِيّاً) مريم 5-6. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) الترمذي والنسائي.

(وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَاماً) الفرقان74:

والمعنى أن من صفات عباد الرحمن أن يسألوا ربهم أن يبلغهم في العلم والدين مبلغا يجعلهم هداة إلى الخير دعاة إلى الطاعة، أئمة يقتدى بهم وتكون سيرتهم أسوة حسنة ودعوة صادقة يسترشد بها (وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَا إِلَيهِم فِعلَ الخَيرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) الأنبياء 73،

ثم ختم - عز وجل - وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعده لهم فقال (أُولَئِكَ يُجزَونَ الغُرفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّونَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75، أي أن المتصف بالصفات الواردة في هذه الآيات، وهي التواضع والحلم و التهجد و الخوف من الله، و الاعتدال في الأمر كله والرفق في القول والتصرف، والتنـزه عن الشرك والكبائر، والتوبة والإعراض عن السوء وأهله، وتحمل الأذى والعفو عن أهله، واجتناب الزور واللغو، وقبول الموعظة و النصح، و الابتهال إلى الله طلبا للعون بالزوجة الصالحة والذرية الطيبة وببلوغ مرتبة الإمامة في الدين ... كان جزاءه بما صبر على الطاعة و عن الشهوات ثلاثة أصناف من التكريم.

1- الدرجة العليا من الجنة و قد عبر عنها القرآن \" بالغرفة \" (أُولَئِكَ يُجزَونَ الغُرفَةَ بِمَا صَبَرُواً) الفرقان 75، و الغرفة لغة هي كل بناء عال، يقول - تعالى -(وَمَا أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُم عِندَنَا زُلفَى إِلَّا مَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُم جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُم فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ) سـبأ 37، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُم لَهُم غُرَفٌ مِن فَوقِهَا غُرَفٌ مَبنِيَّةٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ وَعدَ اللَّهِ لا يُخلِفُ اللَّهُ المِيعَادَ) الزمر20

2- التعظيم، لقوله - تعالى -(وَيُلَقَّونَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75، والتحية تكون لهم من الله - تعالى -(سَلامٌ قَولاً مِن رَبٍّ, رَحِيمٍ,) يس 58، و تكون أيضا من الملائكة (جَنَّاتُ عَدنٍ, يَدخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ, سَلامٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ) الرعد 23-24.

3- دوام هذا التعظيم خالصا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَت مُستَقَرّاً وَمُقَاماً)الفرقان 76، (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبٌّكَ عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذٍ,) هود 108.

أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الذين إصطفاهم ورضي عنهم ، هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً)) الأحزاب: 56اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply