السفر وأنواعه


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

قال الله - تعالى -: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، وقال - تعالى -: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.

وإن من أعظم أسباب انشراح الصدر: التوحيد الخالص والعلم النافع ودوام الإنابة إلى الله - تعالى -ودوام ذكره - جل وعلا - على كل حال، والإحسان إلى الخلق بجلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، ومنها إخراج الحسد والغش والخيانة والكبر والعجب والرياء والسمعة من القلب حتى يتسع للخير ويضيق عن الشر، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله))1.

عباد الله: إن البدن إذا كلّ وتعب طلب الراحة، وإن القلب إذا أجهد عمي وطلب الاستراحة، وإن المُنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وها هي الإجازة الصيفية قد أظلتنا نسأل الله لنا ولأبنائنا والمسلمين جميعاً الفوز والنجاح والتفوق والصلاح، وإن الناس إذا جاءت الراحة والإجازة السنوية بدأوا يفكرون ويخططون لها ويهتمون جداً لكيفية قضائها هل يقضونها في الشرقية أم في الغربية أم في الشمال أو في الجنوب أم الوسطى؟ هل يقضونها في الداخل أم في الخارج؟ أم هل يقضونها في السياحة والاعتبار والنظر في الآثار والديار؟ ولكل تفكيره وتدبيره فيما أحل الله لعباده وأباحه، وإننا نذكرهم قبل الشروع في الأسفار ومفارقة الديار بأنواع الأسفار وما يلزم المسافر من أحكام وآداب.

عباد الله، إن السفر على قسمين هرب أو طلب، أي إما شر تهرب منه حفاظاً على نفسك أو دينك أو أهلك أو مالك، وأمثلة ذلك كثيرة منها الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومنها الخروج من دار الكفر والبدعة التي لايقدر الإنسان على ردها وإنكارها قال الله - تعالى -: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً وقال - تعالى -: واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين روي عن مالك - رحمه الله -: (لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف) فكيف بأرض يسب الله فيها وملائكته وأنبياؤه وكتبه؟.

وأما سفر الطلب فإن من أمثلته الهجرة وذلك سفر الأنبياء والصالحين والسفر للجهاد، وكان ذلك أكثر سفر النبي والصحابة الكرام، وهذا القرآن بين أيديكم والسيرة النبوية ومنها: السفر لطلب العلم وطلب العلم فريضة، ومنها السفر للأماكن الفاضلة كمساجد الأنبياء الثلاثة المعروفة التي لا تشد الرحال على سبيل القربة والتعبد والاعتكاف إلا إليها، ومنها السفر للتجارة والكسب الحلال، ومنها السفر للاعتبار: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، فهذه جملة الأسفار الواجبة والمندوبة والمباحة وأما غير ذلك من الأسفار فلا يليق بعاقل أن يضيع فيه وقته أو يتعب فيه بدنه أو ينفق فيه ماله: والله يعلم المفسد من المصلح، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).

 

-----------------------------------------------

1 - رواه الحاكم (4/311)، وفيه عدي بن الفضل. قال الذهبي: ساقط. وانظر ميزان الاعتدال للذهبي رقم (5593). والبيهقي في شعب الإيمان ح (10552).

 

الخطبة الثانية

 عباد الله: إن الله- تبارك وتعالى -امتن علينا بأن سخر لنا ما في السموات وما في الأرض وأباح لنا ما شرعه لنا وأذن لنا فيه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )ووصف لنا عباده الذين أكرمهم بأفضل الصفات وأدبهم بأجمل الآداب لنقتدي بهم: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وقد قال في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)).

عباد الله: إذا كان ضرب في الأرض مباحاً وكانت هذه هي أنواع الأسفار التي يثاب عليها بالإضافة إلى صلة الرحم وزيارة الإخوان في الله - تعالى -فإن على المسلم أن يعرف أحكامها وآدابها وأن يستخير الله - تعالى -قبل الدخول فيها وأن يصحح نيته ومقصده ليسلم ويغنم إذ الأسفار فيها مخاطرة، وعلينا جميعاً أن ننصح أولئك الذين منّ الله عليهم بالصحة والعافية والمال وخلو البال ثم يسافرون أسفار محرمة والى بلاد كافرة ليتلفوا المال والصحة ويخسروا أنفسهم ودينهم ومروءتهم ويحملوا إلى ديارهم شؤم المعاصي والأمراض النفسية والبدنية.

عباد الله: هل يصح من عاقل أن يتعمد تدمير نفسه وماله مقابل العار والشنار ويحمل نفسه الموبقات والأوزار؟ إن بعض الناس هدانا الله وإياهم يفعلون ذلك وإن السكوت على صنيعهم، ذلك مما يجر خراب الديار، أيسافر المسلم إلى بلاد الفتن والتحلل؟ أتنفق مالك ووقتك وبدنك وأنت محاسب على ذلك لتصل إلى بلاد لا يذكر فيها اسم الله لا للعلاج ولا للتجارة ولا للعلم نعوذ بالله من الخيبة والخسران، إننا نذكر أنفسنا وإخواننا بنعم الله - تعالى -التي أجلها نعمة الإيمان والإسلام والأمن والصحة والعافية وتلك هي الدنيا بحذافيرها، عن عبيد الله بن محمص الأنصاري الخطمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))2.

 

----------------------------------------

2 - رواه الترمذي وقال حديث حسن.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply