الرؤيا في شريعتنا الغراء


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الرؤيا الصالحة جزءًا من النبوة، ووحيًا إلى العباد، فمنها بشارة للطائعين بما حصلوا من الزاد، ومنها نذارة للعاصين لما أحدثوا من الفساد، فنسأل الله العفو والمغفرة يوم يقوم الأشهاد..وبعد:

فسوف نتناول بإذن الله وحوله هذا الموضوع على حلقات تحت عناصر نتناول منها في هذه الحلقة العناصر التالية:

العنصر الأول: الضوابط التي تعصم الذهن من الزلل عمومًا وفي مسألتنا هذه خصوصًا بين يدي الموضوع:

الضابط الأول: بيان الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق (العبادة): إن الغاية التي خلق الله من أجلها الخلق هي: أن يعبدوه - تعالى -ولا يشركوا به شيئًا، قال - تعالى -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: \"إلا ليعبدون\" استثناء مفرغ من أعم الأحوالº أي: (ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة).[القول المفيد: 1/25]

ومن أجل هذه الغاية العظمى ـ وهي أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ـ أرسل الله - عز وجل - الرسل وأنزل الكتب من أول رسول إلى الأرض نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلى آخر رسول هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-، قال - تعالى -: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقال - تعالى -: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} < [الإسراء: 23]، وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء: 36]،

وقال - تعالى -: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا}[الأنعام: 151]، وجاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا

معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ » قلت: الله ورسوله أعلم.قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا». [متفق عليه: البخاري 7373، ومسلم 30]

الضابط الثاني: وله تعلق بالأول وهو أن العبادة لا تصرف إلا لله - تعالى - وحده ومن صرف منها شيئا لغير الله - تعالى - فقد أشرك عياذا بالله:

إن جميع أنواع العبادات يجب أن تصرف لله وحده - جل وعلا - سواء كانت العبادات البدنية (من صلاة, وصيام, وحج, وجهاد في سبيل الله)، أو عبادات مالية (من زكاة، وصدقة، وذبح)، أو عبادات قلبية (من محبة، وخوف، ورجاء، ورغبة، ورهبة، وتوكل، وإنابة، واستعانة، واستغاثة، وتوسل، ودعاء، وغير ذلك)، يجب أن تصرف جميعها لله وحده ولا يشرك فيها معه غيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن حجر، أو شجر، أو قبر لأنه - جل وعلا - خالق كل شيء وبيده مقادير كل شيء، وله مقاليد كل شيء، وهو القادر على كل شيء، وهو الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يعز ويذل، يحيي ويميت، يشفي ويمرض، يغني ويفقر، ليس لأحد غيره من هذا شيء، ولا يقدر أحد على شيء من هذا غيره - سبحانه -.

الضابط الثالث: وهو متمم لما قبله، وهو: أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين (الإخلاص لله- المتابعة لهدي رسول الله).

قال الله - تعالى -: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5]، وقال - تعالى -: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7]، وقال - تعالى -: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}[آل عمران: 31]، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله التي يلهج بها المسلم مرات في الصلوات

وغيرها.

العنصر الثاني: علاقة المنامات بالتوحيد: (الموت وتوابعه: عذاب القبر، أحوال الآخرة، علم الغيب):

أولا: العلاقة بين النوم والموت: في النوم والموت ينتقل الإنسان من حالة اليقظة إلى حالة أخرى يفقد فيها يقظته وإرادته وحركته، ولكن هذه التغيرات تكون مؤقتة في حالة النوم ودائمة في حالة الموت.

قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الزمر: 42].

ثانيا: المنامات وعلاقتها بعلم الغيب: إن المنامات دليل واضح وبين على ما بعد الموت من عذاب القبر واليوم الآخر فإن العبد ينام فيرى في منامه أمورا لا يصدقها عقل، من طيران في الهواء، ومشي على الماء، وتكلم مع الحيوان، ومعارك دامية، حتى إنه بعد استيقاظه قد يشعر بآلام في جسده، فسبحان الله العظيم الذي بهرت قدرته العقول.

إن مما أجمع عليه أهل العلم قديما وحديثا استقراءا تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

الأول: توحيد ربوبية.

الثاني: توحيد ألوهية.

الثالث: توحيد أسماء وصفات.

وموضوعنا كما له تعلق بتوحيد الربوبية من جهة الإيجاد والإمداد وتعلق بتوحيد الإلهية من جهة اتباع الهدى والتصديق بالرؤى كذلك له تعلق بالنوع الأخير أيضا وهو توحيد الأسماء والصفات من جهة أن الرب - جل وعلا - لا ينام، وما ينبغي له أن ينام، قال الله - تعالى -: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم- : «إن الله - تعالى - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». [صحيح الجامع (1860]

فلنلق الضوء على أدب سام من جملة الآداب العالية التي حضت عليها شريعتنا السمحة وهو آداب النوم.

العنصر الثالث: آداب النوم: إن للنوم آدابا حض عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - تعصم العبد من تلاعب الشياطين به في نومه، منها ما هو قبل النوم، ومنها ما هو عند النوم، ومنها ما هو بعد النوم.

أولا: الآداب التي هي قبل النوم: أ- النوم بعد صلاة العشاء (إلا لحاجة): لأداء الصلاة في وقتها، له أثر على الرؤيا وغيرها.

ب- النوم على وضوء: لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم- : «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة». [متفق عليه: البخاري 247، ومسلم 2710]

جـ- التسمية عند وضع الثوب للنوم ونحوه: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: بسم الله». [صحيح الجامع (3610]

د- نفض فراش النوم ثلاث مرات مع التسمية: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قام أحدكم من فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصنفة إزاره ثلاث مرات فإنه لا يدري ما خلفه عليه

بعده». [قال الألباني: إسناده جيد. «الكلم الطيب» (ح34) (ص77]

ثانيا: الآداب التي في أثناء النوم:

أ- النوم على الشق الأيمن: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للبراء بن عازب - رضي الله عنه -: «ثم اضطجع على شقك الأيمن». [متفق عليه: البخاري (247)، ومسلم (2710]

ب- وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن: لقول حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه- : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده. [البخاري (6314]

ج- ندعو بهذا الدعاء: «اللهم باسمك أموت وأحيا». [البخاري (6314) من حديث حذيفة بن اليمان]

د- قراءة آية الكرسي: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حين قال له الشيطان اللعين: «إذا أويت إلى فراشك

فاقرأ آية الكرسي: حتى تختمها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح». فقال - صلى الله عليه وسلم -: «صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان». [البخاري (2311)]

هـ- نجمع الكفين ثم ننفث فيهما، ثم نقرأ فيهما بالإخلاص بالمعوذتين: لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: بـقل هو

الله أحد<<، وقل أعوذ برب الفلق<<، وقل أعوذ برب الناس<<. [السلسلة الصحيحة (3104]

و- ندعو بهذا الدعاء ونجعله آخر ما نقول: «اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجات ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت». وفي رواية: «واجعلهن آخر ما تقول». [متفق عليه: البخاري 247، ومسلم 2710 من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-]

ثالثا: الآداب التي هي بعد النوم: ندعو بهذا الدعاء: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور». [أخرجه البخاري (6314] يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله - عن نوم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تدبر نومه ويقظته - صلى الله عليه وسلم - وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى فإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة وحظها من الرياضة مع وفور الأجر وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة». [زاد المعاد 4/219]

ولو أننا تدبرنا أدعية النوم السابقة نجدها تدور كلها حول المعاني التالية:

الأول: إخلاص التوحيد لله تعالى.

الثاني: تسليم الأمر له وحده وتفويض كل شيء إليه.

الثالث: الاحتماء به من شر كل قوى الكون من إنس وجن.

الرابع: الالتجاء إليه لأنه - سبحانه - مصدر الأمن والطمأنينة.

الخامس: التصالح مع الله - تعالى -ومع عباده.

السادس: توجيه النفس إلى التوبة حتى تكون في مأمن عند خروجها أثناء نومها.

العنصر الرابع: رابعا: المنامات جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة:

أ- الرؤيا الصالحة:

لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». [متفق عليه: البخاري 7071، ومسلم 2263 من حديث أبي هريرة]

قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: «معنى قوله - صلى الله عليه وسلم-: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» أن رؤيا المؤمن تقع صادقة لأنها أمثال يضربها الملك للرائي، وقد تكون خبرا عن شيء واقع، أو شيء سيقع فيقع مطابقا للرؤيا فتكون هذه الرؤيا كوحي النبوة في صدق مدلولها وإن كانت تختلف عنها ولهذا كانت جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة وتخصيص الجزء بستة وأربعين جزءا من الأمور التوقيفية التي لا تعلم حكمتها كأعداد الركعات والصلوات».

[مجموع فتاوى ابن عثيمين ج1 رقم 133]

ب- علاقة الرؤيا الصالحة بالصدق: إن للرؤى تعلق وثيق بصدق رائيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أصدقكم

رؤيا: أصدقكم حديثا». [متفق عليه: البخاري 7017، ومسلم 2263 من حديث أبي هريرة]

قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: «أما الذي تصدق رؤياه فهو الرجل المؤمن الصدوق إذا كانت رؤياه صالحة، فإذا كان الإنسان صدوق الحديث في يقظته وعنده إيمان وتقوى فإن الغالب أن الرؤيا تكون صادقة، ولهذا جاء هذا الحديث مقيدا في بعض الروايات بالرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا».

[مجموع فتاوى ابن عثيمين ج1 رقم 133] جـ- الرؤيا الصالحة من المبشرات: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات». قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة». [البخاري (6990) من حديث أبي هريرة]

هـ- الرؤيا الصالحة تسر ولا تضر: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله - تعالى -، فليحمد الله عليها وليحدث بها». وفي رواية: «فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره». [البخاري 6985، ومسلم 4198]

لذا يتضح من استقراء النصوص السابقة أن الرؤيا التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة هي: رؤيا صادقة مبشرة للمؤمن الصادق، تسره، ولا تغره فتضره.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply