براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل المعاصي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق وجعله سراجًا منيرًا، وأصلي وأسلم على عبده تسليمًا كثيرًا، وبعد:

من المعلوم بالدين ضرورةً أن أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الشاهدة على الأمم قبلها، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الشهيد على هذه الأمة، فيكون كما أخبر عن نفسه ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُ عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مشفع». [مختصر مسلم 1524]

وكما ثبت في حديث الشفاعة الطويل: يقول أولو العزم من الرسل كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري حتى يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيشفع بإذن ربه - سبحانه - ويُقبل منه، وفي حياته يقول: «لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني» [مصنف ابن أبي شيبة]. ومع علو قدره - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة نجده يحرص على تجريد التوحيد بقوله فيما رواه البخاري: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله». [فتح الباري: 3445]، وجاء القرآن والسنة يبرئان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كل ما يؤدي إلى إفراط في قدره أو تفريط في منزلته، ومن ذلك:

أولاً: بُرّئَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من العلم بالغيب إلا ما شاء اللَّه:

قال - تعالى -: قُل لاَّ أَملِكُ لِنَفسِي نَفعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السٌّوءُ إِن أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ [الأعراف: 188]، وقال - تعالى -: عَالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارتَضَى مِن رَّسُولٍ, فَإِنَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَدًا [الجن: 27، 28]، وقال

تعالى: قُل مَا كُنتُ بِدعًا مِّنَ الرٌّسُلِ وَمَا أَدرِي مَا يُفعَلُ بِي وَلاَ بِكُم إِن أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مٌّبِينٌ [الأحقاف: 9]، فلو كان يعلم الغيب لعلم أن الشاة المهداة إليه من اليهودية مسمومة كما في حديث أنس - رضي الله عنه - فأكل منها فجئ بها فقيل: ألا نَقتُلُها؟ قال: «لا». فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [اللؤلؤ والمرجان: 1413]

فقد مسه السوء من السم، وكان يعتريه المرض بسبب السم لعدم معرفته بالغيب حتى أخبرته الشاة بأمر ربها، كما قال النووي في شرح مسلم، فقد جاء في غير مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الذراع تخبرني أنها مسمومة». [النووي: 14/179]، وكما في البخاري لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمًا؟ » قالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟ » فقالوا: «أردنا إن كنت كاذبًا نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك». [فتح الباري 5777]، ولو كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب ما مسته الجراح والسوء يوم أحد حيث روى سهل بن سعد فقال أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ومن كان يسكب الماء. قال: كانت فاطمة - عليها السلام - تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رَبَاعِيتَّهُ يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيض على رأسه. [فتح الباري 4075]

وكل هذا بسبب ترك الرماة مواقعهم، بعد مخالفتهم أمره، ولو كان يعلم ذلك لجعل الرماة كلهم على شاكلة أبي بكر وعمر وعبد اللَّه بن جبير حتى لا يهزم الجيش من قِبَلهم ويصيبه ما أصابه، وحول قوله - تعالى -: قُل مَا كُنتُ بِدعًا مِّنَ الرٌّسُلِ وَمَا أَدرِي مَا يُفعَلُ بِي وَلاَ بِكُم قال ابن كثير عن الحسن البصري: أما في الآخرة فمعاذ اللَّه، قد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أم ترمون بالحجارة؟ وهذا القول لا يجوز غيره ولا شك أنه اللائق به - صلى الله عليه وسلم - فإنه بالنسبة للآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو من اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. [ابن كثير 4/199]، ولو

كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب لكان يعلم المتهم والبرئ من الخصمين المتحاكمين إليه لحديث أم

سلمة - رضي الله عنها - أنه سمع خصومة بيان حجرته فخرج إليهم، فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض وأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي من النار فليأخذها أو فليتركها». [اللؤلؤ المرجان: 1114]، ولما حاول بعض الناس في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرئوا متهمًا من السرقة وأن يتهموا بريئًا بهذه السرقة وطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن هذه البراءة الكاذبة على الناس نزل القرآن بقوله - تعالى -: إِنَّا أنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاستَغفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلاَ تُجَادِل عَنِ الَّذِينَ يَختَانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبٌّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء: 105- 107]، وقوله - تعالى -: وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ وَرَحمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنهُم أَن يُضِلٌّوكَ وَمَا يُضِلٌّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَضُرٌّونَكَ مِن شَيءٍ, وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيمًا [النساء: 113]، وكذب من قال مدحًا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:

ومن جودك الدنيا وضرتها ****ومن علومك علم اللوح والقلم

فأين هذا من تلك النصوص الصريحة الواضحة!!

 

ثانيًا: برئ من امتلاك الضر والنفع:

قال - تعالى -: قُل لاَّ أَملِكُ لِنَفسِي نَفعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف]، وقال: قُل لاَّ أَملِكُ لِنَفسِي ضَرًّا وَلاَ

نَفعًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ, أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَلاَ يَستَئخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَستَقدِمُونَ [يونس: 49]،

وقال - تعالى -: قُل إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَن أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلتَحَدًا [الجن: 22]، والذي لا يملك لنفسه لا يملك لغيره من بابٍ, أولى كما قال - تعالى -: قُل إِنِّي لاَ أَملِكُ لَكُم ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا [الجن: 21]، وها هو يبرئ نفسه من امتلاك الضر والنفع فيما روته عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: لما نزلت: وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ [الشعراء: 214]، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من اللَّه شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم». [مسلم: 205]، وأنفع النفع هو الهداية إلى صراط اللَّه المستقيم، ولا يملكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله - تعالى -: إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ [البقرة: 272]، وقال - تعالى -: لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم أَو يُعَذِّبَهُم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ [آل عمران: 128]، وعليه يظهر ضلال من يعتقد أن الولي أو الشيخ أو صاحب الفرج أو ساحر أو كاهن يملك له ضرًا أو نفعًا.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply