المغازي والسرايا بعد الهجرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تبين لنا أنه لما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة سلبهم المشركون أكثر أموالهم، ومع كون المشركين قد ظلموا المسلمين بذلك فإنهم قد فقدوا الوعي السياسي لمصالحهم، لأن قوافل تجارة قريش إلى الشام تمر بالمدينة وضواحيها، والتجارة إلى الشام هي أكبر مصادر الثروة عندهم، وقد فاتهم التفكير السليم والتقدير الصحيح لمصالحهم التجارية، حينما أقدموا على ذلك العمل الشنيع، من سَلبِ المسلمين أموالهم.

فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، واستقرَّ به المقام، ووطَّد الأمور داخل المدينة بتقوية المجتمع الإسلامي، وعقد المعاهدات بينه وبين يهود المدينة فكَّر في إنصاف المسلمين من أعدائهم من أهل مكة، فصار يبعث السرايا لرَصد قوافل قريش التجارية ومصادرتها.

 

ولو لم يكن من أهداف الإغارة على قوافل قريش التجارية إلا هذا المقصد لكان كافيا في تسويغها شرعا وعقلا، لأنها من باب إنصاف المظلومين الذين لا يمكن استرداد حقوقهم إلا من هذا الطريق، فكيف ولهذا المسلك الحربي أهدافٌ عالية، من أبرزها محاولة إضعاف أكبر عدو للإسلام قد بدأ معركة الصراع مع المسلمين، وقد كان العامل القويَّ في استكبار زعماء قريش وتطاولِهم على المسلمين ما يتمتعون به من مال كثير قد تنامَى مع الزمن، بسبب حياة الأمن التي يعيشونها في ظلال قدسية الحرم، وما وُفِّقوا إليه من الرحلات التجارية الضخمة التي يشترك فيها عادة كثير من أهل مكة. ولقد كانت خطورة هذا المال الضخم تتمثل في مقدرة أهل مكة على تمويل المعارك الكبرى مع أعدائهم، فكان من الحكمة لمن دخل معهم في عداء حربي أن يقص من أجنحتهم التي تمكِّنهم من التحليق في أجواء العدوان والظلم.

 

ومن السذاجة والتخلف في الوعي السياسي أن يفوِّت هذه الفرصة مخاصمهم وهو يقدر عليها.

ومما يدل على عزم قريش على حرب المسلمين ما أخرجه الإمام أبو داود السجستاني من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنهما - عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أُبَيّ وإلى جميع من كان عنده من عبدة الأوثان بالمدينة من الأوس والخزرج ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر يقولون: إنكم آوَيتُم الصبَاةَ وفي رواية: صاحِبَنَا وإنا نُقسمُ باللات والعُزى: لتقتُلُنَّه، أو لتُخرِجُنَّه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتُل مقاتلتكم، ونستبيح ذراريكم وفي رواية نساءَكم فلما بلغ ذلك عبد الله وكُلَّ من كان لم يسلم من الأوس والخزرج أجمعوا على قتال من أسلم منهم، وعلى قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه، وأجمع المسلمون منهم لقتالهم، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ماكانت قريش تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرَّقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، ثم كانت وقعةُ بدر، فكتبت كفار قريش إلى اليهود: إنكم أهلُ الحلقَةِ والحصون، فلتُقاتلنَّ صاحبنا، أو ليكونن بيننا وبينكم أمرٌ، فلما بلغ كتابُهم إليهم اجتمعت بنو النَّضير على الغدر، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حَبرًا، فنلتقي بمكان مَنصف، فيسمعون منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنَّا أجمعون، فأعلمه جبريل بكيدهم، فغدا عليهم بالكتائب فحصرهم، فقال: إنكم والله لاتأمنون عندي إلا بعهد تُعاهدونني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قُريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا على بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجَلَت بنو النضير \" ([1]).

 

مواقف جهادية من غزوة بدر الكبرى

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالخروج للعير ([2]):

 قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع بأبي سفيان بن حرب مُقبلاً من الشام في عير لقُريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارةٌ من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون منهم مَخرمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.

 

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مُسلم الزٌّهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبدُ الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عُروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كلُّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر ([3])، قالوا: لما سمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مُقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عيرُ قُريش، فيها أموالهم، فاخرجُوا إليها لعل الله يُنَفِّلكُموها، فانتدب الناسُ، فخفّ بعضُهم وثقُل بعضُهم وذلك أنهم لم يظنّوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلقَى حَربًا، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ضمن حديثٍ, عن غزوة بدر: \"قال: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتكلم فقال: إن لنا طَلبَة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا، فجعل رجال يستأذنونه في ظُهرانهم في علو المدينة فقال: لا، إلا من كان ظهره حاضرا ([4]).

 

قال ابن إسحاق: وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس الأخبار، ويسأل مَن لَقي من الرٌّكبان، تخوٌّفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان أنّ محمدًا قد استَنفر أصحابَه لك ولعيرك فَحذر عند ذلك. فاستأجر ضَمضم بن عَمرو الغفَاريَّ، فَبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قُريشًا فيَستَنفرهم إلى أموالهم، ويُخبرهم أنّ محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة ([5]).

 

استعداد قريش للحرب:

قال ابن إسحاق - رحمه الله تعالى -: فتجهز الناسُ سراعًا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحَضرمي ([6])، كلا والله ليعلمَنّ غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وأوعَبت قريش، فلم يتخلف من أشرافهم أحدٌ، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المُغيرة، وكان قد لاط([7]) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يُجزئ عنه، بَعَثهُ فخرج عنه وتخّلف أبو لهب.

قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن أبي نَجيح: أن أُمية بن خلف كان أجمع القُعود، وكان شيخا جليلاً جَسيما ثقيلا، فأتاه عُقبة بن أبي مُعَيط، وهو جالس في المسجد بين ظَهرانَي قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار وَمجمَر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استَجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قَبَّحك الله وقَبَّح ما جئتَ به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس.

 

قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ماكان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا..ثم ذكر الحرب القديمة التي كانت بين قريش وبني بكر، إلى أن قال: وحدثني يزيد بن رُومان، عن عُروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسيرَ ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يَثنيهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جُعشُم المُدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جارٌ من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا ([8]).

 

وهكذا كان إبليس لعنه الله - تعالى -مرافقا للمشركين من حين استعدادهم للحرب، فلما أن عرض لهم ماقد يثنيهم عن الاستمرار في عزمهم من خوفهم على الذراري من أعدائهم الأقربين ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك الرجل الشجاع الفاتك فأجارهم من جميع بني كنانة، وكانوا يعلمون سلفا أنه إذا قال فعل، وأنه لاتُخفَر ذمته ولايستطيع أحد من قومه أن يتجاوز حماه، ففرحوا بذلك، وهم لايشكٌّون أن الذي خاطبهم هو سراقة نفسه.

ولقد رجع مكر إبليس وبالاً عليه وعلى شيعته من الكفار، حيث أصبح خروج قريش الذي شجعهم عليه إبليس نكبة كبرى عليهم كما سيأتي.

 

خبر جزور أبي جهل وموقف لعداس

أخرج الواقدي من حديث الزهريّ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثمَة، قال: سمعت حَكيم بن حزام يقول: ماوجّهت وجهًا قطٌّ كان أكره لي من مسيري إلى بدر. ولا بان لي في وجه قطٌّ مابان لي قبل أن أخرج. ثم يقول: قدم ضَمضَم فصاح بالنفير، فاستقسمت بالأزلام، كلّ ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجتُ على ذلك حتى نزلنا مَرَّ الظَّهران ([9]).

 

فنحر ابنُ الحَنظَليَّة([10]) جُزُرًا، فكانت جزور منها بها حياة، فما بقي خباءٌ من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها، فكان هذا بيِّنًا. ثم هممتُ بالرجوع، ثم أذكر ابن الحنظلية وشؤمه، فيردني حتى مضيت لوجهي.

فكان حكيم يقول: لقد رأيتنا حين بلغنا الثَّنَّيةَ البيضاء والثنية البيضاء التي تُهبطك على فَخّ وأنت مُقبل من المدينة إذا عَدّاس جالسٌ عليها والناس يمرّون، إذ مرّ عليه ابنا ربيعة، فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غّرزهما، وهو يقول: بأبي وأُمي أنتما، والله إنه رسول الله، وماتُساقان إلاّ إلى مصارعكما! وإنّ عينيه لتسيل دموعهما على خدّيه، فأردت أن أرجع أيضًا، ثم مضيتُ، ومرّ به العاص بن مُنَبِّه بن الحجاج، فوقف عليه حين ولَّى عُتبة وشيبة، فقال: مايُبكيك؟ فقال: يُبكيني سيّدايَ وسيّدا أهل الوادي، يخرجان إلى مصارعهما، ويُقاتلان رسول الله. فقال العاص: وإنّ محمدا رسول الله؟ قال: فانتفض عَداس انتفاضةً، واقشعرّ جلده، ثم بكى وقال: إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافّةً. قال: فأسلم العاص بن مُنَبِّه، ثم مضى وهو على الشكّ حتى قُتل مع المشركين على شكً وارتياب ([11]).

وفي هذا الخبر عبرة من تلك الناقة التي نحرها أبو جهل فأصاب دمها جميع خيام جيش الكفار، فقد كان ذلك نذيرًا لهم بأنهم مقبلون على مصيبة دموية كبرى، ولاشك أن ذلك مما كان له أثر في إضعاف معنويتهم حيث يكونون قد أقبلوا على حرب لايتوقعون أن نتائجها تكون لصالحهم.

كذلك موقف عداس من سيِّدَيه عتبة وشيبة ابني ربيعة حيث جزم لهما بأنهما إنما يسوقان أنفسهما إلى مصارعهما، وأقسم لهما أن من خرجوا لحربه هو رسول الله حقا، وهذا من الدلائل على إسلامه وأنه كان من الذين يكتمون إيمانهم، وموقفه هذا لكونه أصلا من أهل الكتاب لاشك أنه سيحدث أثرًا في نفوس سيديه ومن سمع هذا الكلام من التشكيك في نجاح قريش في مهمتهم الحربية تلك.

 

---------------

([1])  سنن أبي داود، رقم 3004، كتاب الخراج (3/404)، وقد ذكره الحافظ ابن الأثير في جامع الأصول، 8/218 رقم 6053، وصححه المحقق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.

([2]) يعني قافلة قريش التجارية القادمة من الشام.

([3]) يعني أن جميع ماساقه ابن إسحاق من حديث هذه الغزوة فهو بهذا الإسناد إلا إذا ذكر إسنادًا آخر، وقد اختصر ابن هشام ذكر الإسناد فنسب أخبار هذه الغزوة إلى ابن إسحاق نفسه.

  وقد أخرج الإمام ابن جرير هذا الحديث في تفسيره بهذا الإسناد 9/185 وكذلك في تاريخه 2/427 بهذا الإسناد، وقد تخلله روايات أخرى عن ابن إسحاق بغير هذا الإسناد وروايات عن غير ابن إسحاق، وإذا رجع إلى هذا الحديث يقول: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، يعني فيما يحدث به عن شيوخه، وعبارته هذه أدق من صنيع ابن هشام الذي نسب القول إلى ابن إسحاق، فأوهم أنه من قوله بلا سند.

([4]) صحيح مسلم رقم 1901 (ص1510) كتاب الإمارة، والظَّهر البعير.

([5]) سيرة ابن هشام 2/284.

([6]) يعني التي غنمها المسلمون في سرية نخلة.

 ([7]) أي له عليه دين من الربا، قال أبو عبيد، سمي الربا لياطًا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع سبل الهدى 5/133.

([8]) سيرة ابن هشام 2/288 291.

([9]) مرَّ الظهران على مرحلة من مكة (معجم البلدان، ج8، ص 21).

([10]) هو أبو جهل، والعرب تنسب إلى الأم غالبا إذا أرادوا التحقير.

([11]) مغازي الواقدي 1/34 35.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply