نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الوعاظ والقصاص ووجدت في كتب المغازي والسير بغير تحقيق، فاغتر بها من لا دراية له بعلم الحديث فراح يفتري على أم المؤمنين أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإلى القارئ الكريم تخريج هذه القصة الواهية وتحقيقها.
أولاً: متن القصة
رُوِي عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يُقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه فقال: يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر.
ثانيًا: التخريج:
الخبر الذي جاءت به هذه القصة الواهية أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/79) قال: «أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن عبد اللَّه عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب...القصة».
وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (79/150) قال: أخبرنا أبو عمر الخزاز، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا أبو علي الفقيه، حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عمر به.
وأورده الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (7/653) نقلاً عن ابن سعد بنفس السند.
وأورده الحافظ الذهبي في «السير» (2/222- 223) بصيغة التضعيف التي تدل على عدم صحة القصة.
ثالثًا: التحقيق:
القصة واهية، حيث إن ما أخرجه ابن سعد به سقط في الإسناد وطعن في الراوي وبيان ذلك:
محمد بن عمر: أورده الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (17/97/6090) وقال: «محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي أبو عبد اللَّه المدني روى عنه كاتبه محمد بن سعد.. وآخرون».
1- قال البخاري في «الضعفاء الصغير» ترجمة (334): «محمد بن عمر الواقدي متروك الحديث».
2- قال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» (ت531): «محمد بن عمر الواقدي، متروك الحديث».
قلت: وهذا المصطلح عند الإمام النسائي له معناه، يتبين ذلك من قول ابن حجر في «شرح النخبة» (ص73): «مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه». اهـ.
3- أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/20/92) وقال:
أ- «سألت أبي عن محمد بن عمر الواقدي المدني فقال: متروك».
ب- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال لي الشافعي: كتب الواقدي كذب.
جـ- حدثنا أحمد بن سلمة النيسابوري حدثنا إسحاق بن منصور قال: قال أحمد بن حنبل: كان الواقدي يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو هذا.
قال إسحاق بن راهويه كما وصف وأشد لأنه عندي ممن يضع الحديث.
د- أخبرنا أبو بكر بن خيثمة فيما كتب إليّ قال: سمعت يحيى بن معين يقول: «لا يكتب حديث الواقدي، ليس بشيء». اهـ.
4- قال ابن عدي في «الكامل» (6/241، 98/1719): «هذه الأحاديث التي أمليتها للواقدي والتي لم أذكرها كلها غير محفوظة، ومن يروى عنه الواقدي من الثقات فتلك الأحاديث غير محفوظة عنهم إلا من رواية الواقدي والبلاغ عنه، ومتون أخبار الواقدي غير محفوظة وهو بيّن الضعف». اهـ.
5- وأورده ابن حبان في «المجروحين» (2/290) وقال: «محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي المدنيº كان ممن يحفظ أيام الناس وسيرهم وكان يروي عن الثقات المقلوبات وعن الأثبات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلكº كان أحمد بن حنبل يكذبه.
ثم أخرج عن علي بن المديني أنه قال: «الواقدي يضع الحديث».
قلت: والواقدي يروي هذا الخبر عن ابن أخي الزهري، وابن أخي الزهري يروي هذا الخبر عن عمه.
وابن أخي الزهري أورده الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (16/460/5964) وقال: محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري، أبو عبد اللَّه المدني ابن أخي الزهري روى عن عمه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وآخرين وروى عنه محمد بن عمر الواقدي، وآخرون ثم ذكر أن الواقدي يأتي عنه بمناكير عن الزهري وغيره.
قلت: مما أوردناه آنفًا يتبين من التحقيق الطعن في الراوي وهو الواقدي الكذاب والذي يضع الأحاديث.
الأمر الثاني: وهو السقط في الإسناد.
حيث إن السقط حدث في آخر السند من بعد التابعي وهو الزهري، حيث أورده الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/207) وقال: «محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري من رؤوس الطبقة الرابعة».
قلت: والطبقة الرابعة هي الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين وهذه الطبقة جُلٌّ روايتهم عن كبار التابعين كذا في مقدمة «التقريب» (1/5) فكيف يخبر الزهري عن هذه القصة؟
ولذلك هذا الخبر الواهي الذي جاءت به القصة يكون أيضًا مرسلاً لأن «المرسل»: هو ما سقط من آخره مَن بعد التابعي. كذا في «شرح النخبة» (ص41).
إذن فالخبر مع شدة ضعفه من مرسل الزهري.
وحكم مرسل الزهري عند علماء الفن نقله السيوطي في «التدريب» (1/205) قال: «روى البيهقي عن يحيى بن سعيد قال: مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه». اهـ.
وبهذا يتبين أن القصة واهية من سقط في الإسناد وطعن في الراوي.
رابعًا: طريق آخر:
وقد يقول قائل: إن هناك طريقًا آخر للقصة، فإلى القارئ الكريم تخريج هذا الطريق وتحقيقه:
القصة من هذا الطريق أخرجها الطبري في «التاريخ» (2/183)، والبيهقي في «الدلائل» (5/8)، وأورده ابن كثير في «البداية والنهاية» (4/500)، كلهم عن ابن إسحاق قال: ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فدخل على ابنته: أم حبيبة... القصة.
خامسًا: التحقيق
القصة من هذا الطريق واهية حيث إن سندها مظلم أسقط ابن إسحاق رجاله وقد أورده الحافظ ابن حجر في «طبقات المدلسين» في الطبقة الرابعة رقم (91) وقال: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بالتدليس ابن حبان». اهـ.
ولذلك أسقط ابن إسحاق الرواة وبالتالي لم يتبين أنه حدث أم عنعن فاختفى التدليس تحت الإرسال، يتبين هذا الإرسال من معرفة طبقة ابن إسحاق حيث قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/144): «محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق رمي بالتشيع والقدر من صغار الخامسة». اهـ.
قلت: والخامسة هي الطبقة الصغرى من التابعين الذين رأوا الواحد والاثنين ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كذا في مقدمة «التقريب» (1/5).
قلت: وبهذا يتبين أن ابن إسحاق من صغار الطبقة الصغرى من التابعين وعليه فمرسله من أضعف المراسيل وأن هذا الطريق يزيدها وهنًا على وهن.
سادسًا: قرائن تدل على عدم صحة القصة:
1- إن أبا سفيان ما قدم المدينة إلا ليكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في هدنة الحديبية وقام فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال اللَّه - تعالى -: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان: 15].
فهل من المعروف أن تمنع أم حبيبة أباها من الجلوس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتطوي الفراش وتنهر أباها وتقول لأبيها هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك؟!
2- وفعل أم حبيبة (وهو طيها الفراش)، وقولها (أنت امرؤ نجس مشرك) يوهم من لا يعرف أن القصة واهية بأن النجاسة في المشرك نجاسة البدن، والصواب أن نجاسة المشركين معنوية.
قصة صحيحة تبين نكارة القصة:
أخرج البخاري في «صحيحه» (ح2620، 3183، 5978، 5979)، ومسلم في «صحيحه» (1003) من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: قدمت عَليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلى أمك».
قلت: وهذا اللفظ للبخاري (ح2620) باب الهدنة للمشركين.
وبوَّب الإمام البخاري بابًا في كتاب «الأدب» سمَّاه باب «صلة الوالد المشرك» (ح5978).
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (5/277): قوله: «في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» في رواية حاتم: «في عهد قريش إذا عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح. اهـ.
قلت: قول الحافظ: «في رواية حاتم» هو حاتم بن إسماعيل وهو الذي روى عنه شيخ البخاري قتيبة بن سعيد (ح3183).
مما سبق يتبين:
1- أن قصة أم حبيبة وسب أبيها أبي سفيان قصة واهية منكرة.
2- وأن قصة أسماء بنت أبي بكر وصلتها لأمها المشركة اتباعًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعلى درجات الصحة.
3- ومما يدل على نكارة متن قصة أم حبيبة أن مقدمات القصتين واحدة فلابد وأن تكون النتيجة واحدة في اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
هذه القصة الواهية المنكرة تجعل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفًا لهديه.
4- وبهذا يتبين للقارئ الكريم الأثر السيئ للقصص الواهية ومخالفتها للقرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.
5- ومن الآثار السيئة لهذه القصة الواهية نسف الاستفادة دعويًا وتربويًا من القصة الصحيحة والتي فيها:
أ- جواز صلة القريب المشرك. كذا قال النووي في «شرح مسلم».
ب- وفيها موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة.
جـ- وفيها السفر في زيارة القريب.
د- وفيها تحري أسماء في أمر دينها وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير - رضي الله عنه -.
هذا ما وفقني اللَّه إليه وهو وحده من وراء القصد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد