بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من صفات المرأة المسلمة الحياء، وهو الخلق النبيل الباعث دوماً على ترك القبيح، ويعدٌّ الحياء من أخص صفات المرأة المسلمة، ولذلك عندما وصف الصحابة حياءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: (كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها)[1]، يقول ابن القيم -رحمه الله-: (وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها، وأعظمها قدراً، وأكثرها نفعاً، بل هو خاصةُ الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم، وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء)[2].
والمرأة المسلمة تستحي من الله -تعالى-، فتحفظ الرأس وما وعى، فلا تنظرُ إلى حرام، ولا تسمعُ الحرام، ولا تقولُ الحرام، وتحفظُ البطنَ وما حوى، فلا تأكلُ إلا حلالاً، ولا تشربُ إلاَّ حلالا، وتذكر الموت البلى.
صور من حياء الصحابيات:
لقد كانت نساءُ الجيل الفريد، تتميز بهذه الصفة العالية، فهذه عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تقول: ((كُنتُ أَدخُلُ بَيتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوبِي، فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُم فَوَاللَّهِ مَا دَخَلتُ إِلَّا وَأَنَا مَشدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِن عُمَرَ))[3].
رضي الله عنك -يا زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أيٌّ سموٍ, أعظمُ من هذا السمو؟!
وأيٌّ حياءٍ, أعلى من هذا الحياء؟ تستحي من رجلٍ, قد مات ودفن تحت الثرى!! فماذا نقولُ لبعض المسلمات اللاتي تساهلن بالحجاب، ورفع الصوت مع الرجال الأجانب؟!! فأين حياءهن؟!!
تقول أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنها-: ((تَزَوَّجَنِي الزٌّبَيرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرضِ مِن مَالٍ,، وَلَا مَملُوكٍ, وَلَا شَيءٍ, غَيرَ نَاضِحٍ,، وَغَيرَ فَرَسِهِ، فَكُنتُ أَعلِفُ فَرَسَهُ وَأَستَقِي المَاءَ، وَأَخرِزُ غَربَهُ وَأَعجِنُ، وَلَم أَكُن أُحسِنُ أَخبِزُ، وَكَانَ يَخبِزُ جَارَاتٌ لِي مِن الأَنصَارِ، وَكُنَّ نِسوَةَ صِدقٍ,، وَكُنتُ أَنقُلُ النَّوَى مِن أَرضِ الزٌّبَيرِ الَّتِي أَقطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَأسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَي فَرسَخٍ,، فَجِئتُ يَومًا وَالنَّوَى عَلَى رَأسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ نَفَرٌ مِن الأَنصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: ((إِخ إِخ لِيَحمِلَنِي خَلفَهُ فَاستَحيَيتُ أَن أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرتُ الزٌّبَيرَ وَغَيرَتَهُ، وَكَانَ أَغيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي قَد استَحيَيتُ فَمَضَى، فَجِئتُ الزٌّبَيرَ، فَقُلتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى رَأسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِن أَصحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَركَبَ فَاستَحيَيتُ مِنهُ وَعَرَفتُ غَيرَتَكَ، فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَملُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِن رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَت حَتَّى أَرسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكرٍ, بَعدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ, تَكفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعتَقَنِي،)) رواه البخاري[4].
وتقول عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: ((جَاءَت فَاطِمَةُ بِنتُ عُتبَةَ بنِ رَبِيعَةَ تُبَايِعُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَ عَلَيهَا أَن لَا يُشرِكنَ بِاللَّهِ شَيئًا، وَلَا يَسرِقنَ، وَلَا يَزنِينَ، الآيَةَ قَالَت فَوَضَعَت يَدَهَا عَلَى رَأسِهَا حَيَاءً، فَأَعجَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا رَأَى مِنهَا، فَقَالَت عَائِشَةُ: أَقِرِّي أَيَّتُهَا المَرأَةُ، فَوَاللَّهِ مَا بَايَعَنَا إِلَّا عَلَى هَذَا، قَالَت: فَنَعَم إِذًا فَبَايَعَهَا بِالآيَةِ)) رواه أحمد[5].
ومن ذلك أيضاً ما ذكره الشعبي، قال: مرَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في بعض طرق المدينة فسمع امرأة تقول:
دعتني النفسُ بعد خروجِ عمرٍ,و إلى اللذاتِ فاطلعَ التلاعَا
فقلتُ لها: عجلتِ فلن تُطاعي ولو طــالت إقامتُه رِباعاً
أُحـاذرُ إن أطعتُكِ سبَّ نفسي ومخــزاةً تُجللني قِناعا
فقال عمر -وأُتي بالمرأة-: أيٌّ شيءٍ, منعك؟ قالت: الحياءُ وإكرام عرضي. فقال -رضي الله عنه-: إنَّ الحياء ليدلُ على هناتٍ, ذاتِ ألوان، من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وُقي، وكتب إلى صاحب زوجها فأقلفه - أي أرجعه ـ إليها.
ولا تزالُ في نساء الأمة بقيتُ خيرٍ, ولله الحمد، ويوجد نماذج كثيرةٍ, تدل دلالةً واضحة على تأصلِ هذه الصفة في نساء الأمة، فمن ذلك ما ذكرهُ أحدُ الدعاة يقول: كنتُ في رحلةٍ, دعوية إلى بنجلاديش مع فريقٍ, طبي، أقام مخيماً لعلاج أمراض العيون، فتقدّم إلى الطبيب شيخٌ وقور، ومعه زوجته بترددٍ, وارتباك، ولمّا أرادَ الطبيبُ المعالج أن يقتربَ منها، فإذا بها تبكي وترتجفُ من الخوف، فظنّ الطبيبُ أنَّها تتألمُ من المرض، فسأل زوجها عن ذلك، فقال -وهو يغالبُ دموعه-: إنَّها لا تبكي من الألـم، بل تبكي لأنها ستضطر أن تكشف وجهها لرجلٍ, أجنبي!! لم تنم ليلة البارحةِ من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيراً، أوَ ترضى لي أن أكشف وجهي؟! وما قبلت أن تأتي للعلاج إلاَّ بعد أن أقسمتُ لها أيماناً مغلظة بأنّ الله -تعالى- أباح لهـا ذلك للاضطرار، والله -تعالى- يقول: ((فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ, وَلا عَادٍ, فَلا إثمَ عَلَيهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))(البقرة: 173).
فلمّا اقترب منها الطبيب، نفرت منه، ثم قالت: هل أنت مسلم؟
قال: نعم، والحمد لله!!
قالت: إن كنت مسلماً، فأسألك بالله ألاّ تهتك ستري، إلاَّ إذا كنت تعلم يقيناً أنَّ الله أباح لك ذلك!!
أُجريت لها العمليةُ بنجاحٍ,، وأزيلَ الماءُ الأبيض، وعاد إليها بصرها بفضل الله -تعالى-، حدّث عنها زوجـها أنَّها قالت: لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي، ولا يمسني رجل أجنبي: قراءتي القرآن، وخدمتي لك ولأولادك[6].
ما أعظم شموخ المرأة المسلمةِ بعزتها وعفافها!! وما أجمل أن تُرى المرأة مصونةً فخورة بحشمتها!
أكرم به من إيمانٍ, يتجلّى في صورةِ عمليةٍ, صادقة، بعيدةً عن التكلف أو التنطع، سالمةً من الرياءِ وشوائبِ الهوى!!
فأين أولئك النساء اللواتي كسرنَ طوق الحياء، وأسلمن أنفسهنَّ لدعاة الرذيلة وأدعياءَ المدنية، وأصبحنَّ يلهثنَ وراء شهواتهن، ويتبارين في التفسخِ والانحلال، أين هنَّ من تلك المرأة العفيفة الطاهرة؟!
ولَكَم يتفطر القلب أسىً وحزناً على أولئك الفتيات الزهراوات، اللواتي طاشت بهنَّ الأهواء، وأسلمنَ أنفسهنَّ بكلِّ غفلةٍ, وبلاهةٍ, لكل ناعق؟!
إنّ الحياء شعبة من شعب الإيمان، وعنوان من عناوين العفة والفضيلة، تقوم قواعده على أُسسٍ, راسخةٍ, من التقى، وأصولٍ, متينةٍ, من الصلاح، ولهذا قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((الحياءُ كله خير)) رواه مسلم[7]. بل عظّم النبي-صلى الله عليه وسلم- من شأنه فقال: ((إن لكلِّ دينٍ, خلقاً، وخلق الإسلام الحياء))[8].
ويُتأكّد ذلك في حقِّ المرأة، فسِترها رمز حيائها، وحجابُها دليلُ كرامتها. وإذا اختلّ حياءُ المرأة تزلزلت أقدامها، وعصفت بها الفتن، وأصبحت سلعةً رخيصةً تباع بأبخس الأثمان، ويعبثُ بها دهاقنة الفساد، وأئمة الهوى، (وليس لمن سُلِبَ الحياءَ صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور فهو يُقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى)[9].
وقديماً قال الشاعر:
فـلا والله ما في العيـشِ خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخـيرٍ, ويبقى العودُ ما بقي اللحاءُ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
1. متفق عليه.
2. مفتاح دار السعادة ص 277.
3. رواه أحمد ج6/ 202 برقم 25701
4. رواه البخاري ج5/ 2002 برقم 4626
5. رواه أحمد في المسند (6/151).
6. مقال في مجلة البيان بقلم الشيخ أحمد الصويان عدد (138) ص 164.
7. ج1/64 برقم 37
8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (1/1399)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
9. أدب الدنيا والدين، ص 241.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد