في ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قاصدًا العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية، وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان، ولم يتخلف من أهل الحديبية إلا من استُشهد في خيبر أو مات قبل عمرة القضاء.
وقد اتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مر الموكب النبوي بمنازل قوم من الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظرًا لم يألفوه من قبل، حيث المسلمون بزي واحد من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده، في مظهر بهي لم تشهد المنطقة له مثيلاً
أولاً: الحيطة والحذر من غدر قريش:
اصطحب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه السلاح الكامل، ولم يقتصر على السيوف تحسبًا لكل طارئ قد يقع، خاصة أن المشركين في الغالب لا يحافظون على عهد قطعوه، ولا عقد عقدوه
وما إن وصل خبر مسير النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه هذا العدد الضخم، وهذه الأسلحة المتنوعة، وفي مقدمة القافلة مائتا فارس بقيادة محمد بن مسلمة حتى أرسلت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكرز بن حفص في نفر من قريش، ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوه في بطن يأجج بمر الظهران فقالوا له: يا محمد والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر، تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ندخلها إلا كذلك» ثم رجع مكرز مسرعًا بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمدًا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم .
ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلاح خارج الحرم قريبًا منه تحسبًا لكل طارئ، وأبقى عنده مائتي فارس بقيادة محمد بن مسلمة يحرسونه، وينتظرون أمر الرسول ليتحركوا في أي جهة وينفذوا أي أمر، ويقاتلوا متى دعت الضرورة لذلك
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمن غدر مشركي قريش وخيانتهم، فقد تسول لهم أنفسهم أن ينصبوا كمينًا أو أكثر للمسلمين ويشنوا عليهم هجومًا مباغتًاº ولذلك احتاط وأخذ الحذر ووفى بعهده ووعده لقريش، وعلم الأمة لكي تحذر من أعدائها وفي بقاء كوكبة من الصحابة في حراسة الأسلحة والعتاد لكي يراقبوا الموقف بدقة وتحفز معنى من معاني العبادة في هذا الدين.
ثانيًا: دخول مكة والطواف والسعي:
ومن بطن يأجج تابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيره نحو مكة على راحلته القصواء، فدخلها من الثنية التي تطلعه على الحجون، والمسلمون حوله متوشحون سيوفهم محدقون به كل جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيء، وأصواتهم تعج بالتلبية لله العلي الكبير .
هذه التلبية الجماعية التي تعج أصوات المسلمين بها، والتي لم تنقطع منذ أن أحرموا واستمرت حتى دخلوا مكة، فقد كان للتلبية مغزى ومعنى، فهي تعلن التوحيد وترفع شعاره، وتعني إبطال الشرك وإسقاط رايته، وتعلن الحمد والثناء على الله الذي مكنهم من أداء هذا النسك ..فهذه بعض معاني تلبية المسلم بقوله: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وكان عبد الله بن رواحة آخذًا بزمام راحلته وهو يرتجز بشعره:
خلوا بني الكفار عن سبيله *** خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله *** أعرف حق الله في قبوله
ضربًا يزيل الهم عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله(11)
وكان مظهرًا دعويًّا مؤثرًا عندما بدأ الموكب النبوي الكريم يقترب من بيوت مكة المكرمة، وأبنيتها شاقًّا طريقه باتجاه الكعبة المشرفة، وهم في مظهرهم المهيب، وأصواتهم تشق عنان السماء بالتلبية، فقد ذكرت معظم كتب السير والمغازي أن قسمًا من أهالي مكة خرج إلى رءوس الجبال لينظر إلى المسلمين من الأماكن العالية، والقسم الأكبر وقف عند دار الندوة المجاورة للكعبة الشريفة آنذاك، ليشاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام أثناء دخولهم مكة المكرمة، وبيت الله الحرام .
وكان المشركون قد أطلقوا شائعة ضد المسلمين مفادها أنهم وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين ، لكي يرى المشركون قوتهم، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت الحرام واضطبع بردائه فأخرج عضده اليمنى وشرع في الطواف، وأصحابه يتابعونه ويقتدون به. ولما رأى المشركون ذلك قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا .
وقد قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الطريقة التي فعلها عند دخوله المسجد الحرام وهي الاضطباع والهرولة، ورفع الأصوات بالتلبية، أن يرهب قريشًا، وأن يظهر لها قوة المسلمين وعزيمتهم وتمسكهم بدينهم، ومناعة جبهتهم، وقد أثر هذا الأسلوب في نفوس المشركين ، وبهذا الأسلوب النبوي الكريم أغاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - المشركين وكايدهم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتقرب إلى الله بمكايدتهم وإغاظتهم، ففي غزوة أحد أذن - صلى الله عليه وسلم - لأبي دجانة أن يمشي متبخترًا أمام المشركين لإظهار عزة المؤمنº ولأن ذلك يغيظ المشركين، وزيادة في إغاظتهم كان يلبس العصابة الحمراء دون أن ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وفي غزوة الحديبية ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهدي جمل أبي جهل الذي غنمه في بدر، ليراه المشركون فيزدادوا غيظًا حين يذكرون مصارع قتلاهم وذل أسراهم، وها هو ذا - صلى الله عليه وسلم - يأمر المسلمين في عمرة القضاء بإظهار التجلد والهرولة لإغاظتهم ومكايدتهم ورد كيدهم في نحورهم ، وقد ذكر ابن القيم: (بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكيد المشركين بكل ما يستطيع) .
فهذه حرب نفسية شنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المشركين وقد أتت أكلها، ولقد أقام الرسول في مكة ثلاثة أيام، ومعه المسلمون يرفعون راية التوحيد، ويطوفون بالبيت العتيق، ويرفعون الأذان ويقيمون الصلاة ويصلي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس في جماعة، وكان بلال بن رباح بصوته الندي يرفع الأذان من على ظهر الكعبة، فكان وقعه على المشركين كالصاعقة .
ولم ينس - صلى الله عليه وسلم - مجموعة الحراسة التي كانت تحرس الأسلحة والعتاد بأن يرسل من يقوم بمهمتهم ممن طاف وسعى مكانهم، ويأتي هؤلاء ليؤدوا النسك، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع نفوس يدرك حقيقة شوقها لبيت الله الحرام، وما جاءت للمرة الثانية وقطعت هذه المسافة الشاسعة إلا لتنال هذا الشرف، وتبل هذا الظمأ، فتطوف مع الطائفين وتسعى مع الساعين، فعمل - صلى الله عليه وسلم - على مراعاة النفوس، وساعدها ولبى مطالبها من أجل إصلاحها والرقي بها، إنه من منهج النبوة في التربية .
ثالثًا: زواجه من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث:
كانت ميمونة، أخت أم الفضل، زوجة العباس بن عبد المطلب فتاة في السادسة والعشرين، قد جعلت أمر زواجها بعد وفاة زوجها أبو رهم بن عبد العزى إلى أختها أم الفضل، فجعلته أم الفضل إلى زوجها العباس، فزوجها العباس من ابن أخيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصدقها عنه أربعمائة درهم ، وهي خالة عبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، ولما انقضت الثلاثة أيام، التي نص عليها عهد الحديبية، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ من زواجه من ميمونة وسيلة لزيادة التفاهم بينه وبين قريش، فجاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، موفدين من نفر من قريش فقالوا: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن إسحاق: «وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟ ».
قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا .
فخرج، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها في بسرف (موضع قرب التنعيم) فبنى بها هناك ، وهي آخر من تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وآخر من مات من نسائه بعده، وأنها ماتت ودفنت بسرف، فمكان عرسها هو مكان دفنها، فرضي الله عنها وأرضاها .
وفي زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بميمونة مسألة فقهية اختلف الفقهاء فيها وهي هل تزوج - صلى الله عليه وسلم - بميمونة وهو محرم (عقد نكاحها عليها فقط) أو عقد عليها بعد التحلل؟ ، وقد أجاد الفقهاء في تفصيلها.
رابعًا: التحاق بنت حمزة بن عبد المطلب بركب المسلمين:
لقد تغيرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيرًا عظيمًا، فعادت البنت -التي كان يتعير بها أشراف العرب، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل فرارًا من العار، وزهدًا في البنات- حبيبة يتنافس في تربيتها المسلمون، وكانوا سواسية، لا يرجع بعضهم على بعض إلا بفضل أو حق ، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج من مكة، تبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة - رضي الله عنها -: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر.
قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خَلقِي وخُلُقِي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال علي لزيد: ألا تتزوج بنت حمزة، قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة .
وفي هذه القصة دروس وعبر وأحكام وفوائد منها:
1- الخالة بمنزلة الأم.
2- الخالة تقدم على غيرها في الحضانة إذا لم يوجد الأبوان.
3- تزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ووصفه له بقوله: أشبهت خَلقي وخُلُقي.
4- منقبة علي: تأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنت مني وأنا منك، والمعنى أنت مني وأنا منك في النسب والصهر والسابقة والمحبة.
5- منقبة زيد بن حارثة: يقول له الرسول: أنت أخونا ومولاناº لأنه كان أخًا لحمزة بن عبد المطلب، فقد آخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وهو باجتهاده يريد أن يكون عليه ما على الأخ الشقيق من واجبات، والواجب هنا يكون وليًّا على بنت حمزة - رضي الله عنه -.
6- الخالة تقدم على العمة في الحضانة: لقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجة جعفر بالحضانة وعمتها صفية بنت عبد المطلب حية موجودة.
7- زواج المرأة لا يسقط حقها في الحضانة: فقد حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحضانة لخالة بنت حمزة وهي متزوجة من جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
8- لا بد من موافقة الزوج على حضانة زوجته لابنة أختهاº لأن الزوجة محتسبة لمصلحته ومنفعته، والحضانة قد تفوت هذه المصلحة جزئيًا، فلا بد من استئذانه، ونلاحظ هنا أن جعفر بن أبي طالب قد طالب بحضانة بنت عمه حمزة لخالتها وهي زوجة له، فدل على رضاه بذلك.
9- إن الطفل إذا رضع مع عمه يصبح أخًا له في الرضاعة، وتصبح بناته كلها بنات أخيه في الرضاعة، فيحرم عليه نكاحهن .
خامسًا: أثر عمرة القضاء على الجزيرة وإسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة:
لقد كان تأثير هذه العمرة على قريش وعلى عرب الجزيرة تأثيرًا بالغًا، فقد حملت في مضمونها مهمة دعوية عظيمة، ولقد تأثر أهل مكة من هذه العمرة السلمية.
يقول اللواء محمود شيت خطاب: (أثرت عمرة القضاء في هذه الفترة على معنويات قريش تأثيرًا كبيرًا، فقد وقف الكثير من قريش عند دار الندوة بمكة، كما عسكر آخرون فوق الهضاب المحيطة بها ليشهدوا دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة»، ثم استلم الركن وأخذ يهرول وأصحابه معه، فلم يكد يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة، حتى وقف خالد ابن الوليد يقول في جمع من قريش: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق كل ذي لب أن يتبعه، وسمع أبو سفيان بما كان من قول خالد بن الوليد، فبعث في طلبه، وسأله عن صحة ما سمع، فأكد له خالد صحته، فاندفع أبو سفيان إلى خالد في غضبه، فحجز عنه عكرمة وكان حاضرًا، وقال: مهلاً يا أبا سفيان، فوالله خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه، أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم. وأسلم من بعد خالد بن الوليد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة نفسها عثمان بن طلحة، بل وظهر الإسلام في كل بيت من قريش سرًّا وعلانيةº وبهذه النتيجة الطيبة يمكننا القول بأن عمرة القضاء هذه قد فتحت أبواب قلوب أهل مكة قبل أن يفتح المسلمون أبواب مكة نفسها) .
ويقول الأستاذ عباس العقاد: (... وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة العقل والخلق مثلان متكافئان يحتذى بهما) .
1- إسلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
ونترك عمرو بن العاص يحدثنا عن إسلامه، حيث قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش، كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا، وإني قد رأيت أمرًا، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم ، فجمعنا له أدمًا كثيرًا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو دخلت على النجاشي، وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني أجزأت عنها ، حيث قتلت رسول محمد، قال: فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا صديقي، أهديت إليَّ من بلادك شيئًا؟ قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت إليك أدمًا كثيرًا، قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله قال: قلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت على أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدًا إلى رسول الله لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم ، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدم خالد بن الوليد، فأسلم، وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» قال: فبايعته ثم انصرفت . وفي رواية قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «ما لك يا عمرو؟ » قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟ » قلت: أن يُغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ » .
2- إسلام خالد بن الوليد - رضي الله عنه -:
وهذا خالد بن الوليد يحدثنا عن قصة إسلامه فيقول: (.. لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني مُوضع في غير شيء وأن محمدًا سيظهر، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمنًا منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا -وكانت فيه خيرة- فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعًا وقلت: الرجل ممنوع، وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشًا بالحديبية ودافعته قريش بالروح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمدًا، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية، فأقيم مع عجم تابعًا، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابًا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعَقلُك عَقلُك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به؟ فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة.
قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام وسرني مقالة رسول الله، قال خالد: وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جديبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا.. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر، قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك، فلما أجمعت للخروج إلى رسول الله قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأس ، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرف محمد على العرب، فأبى أشد الإباء، وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبدًا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وترًا، قد قتل أبوه وأخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، فلقيت عثمان بن طلحة، قلت: فاطوِ ما ذكرت من قُتل من آبائه فكرهت أذكِّره، ثم قلت: وما عليَّ وإني راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر، لو صب عليه ذنوب من ماء لخرج، قال: وقلت له نحو ما قلت لصاحبيه، فأسرع في الإجابة، وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بضح مناخة، قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه، قال: فأدلجنا سحرًا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، قال: مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: وذلك الذي أقدمني.
قال: فاصطحبنا جميعًا حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأُخبر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير» قلت: يا رسول الله قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يجب ما كان قبله» قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: «اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك» قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان فبايعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يوم أسلمت يعدل بى أحد من أصحابه فيما حزبه .
وفي إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - دروس ولطائف وعبر منها:
أ- غضبة النجاشي تدل على صدق إيمانه وحبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحبه للمسلمين، وصدق النجاشي كان له أثر في إيمان عمرو بن العاص، ودخوله في الإسلام، وبذلك نال النجاشي أجرًا عظيمًا حيث جذب إلى الإسلام رجلاً من عظماء قريش .
ب- كان إسلام عمرو بن العاص نصرًا كبيرًا للإسلام، والمسلمين فلقد سخر عقله الكبير ودهاءه العظيم لصالح دعوة الإسلام، وخسر الكفار بإسلامه خسارة كبيرةº لأنهم كانوا يعدونه لعظائم الأمور التي تحتاج إلى دهاء ومقدرة على التأثير وخاصة فيما يتعلق بعدائهم مع المسلمين .
ج- أدرك خالد بن الوليد أن العاقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمل قوله: لقد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر ، وفي هذا عبرة لكل الذين يحاربون الإسلام .
د- الاهتمام بالبشر طريق من طرق التأثير عليهم، وكسبهم إلى الصف المؤمن ولذلك قال رسول الله للوليد بن الوليد: ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له ولقدمناه على غيره ، فكانت لهذه الكلمات البليغة أعظم الأثر في تحول قلب خالد وتوجهه نحو الإسلام، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليمًا في مخاطبة النفوس والتأثير عليها، فلقد أدرك مواهب خالد في القيادة والزعامة فوعد بتمكينه من ذلك وتقديمه على غيره في هذا المضمار، ومدح - صلى الله عليه وسلم - سداد رأيه ورجاحة عقله، ونضج فكره، فانتزع - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمات كل الجوانب التي تجعل خالدًا يظل على الشرك الذي لم يكن مقتنعًا به إلا بمقدار ما حصل له فيه من قيادة وتصدر، فلما كان ما هيأه له المشركون سيحصل له إذا دخل في الإسلام، واطمأن بأنه لو أسلم لن يكون في آخر القائمة، ولن يكون مهملا، شجعه ذلك على التغلب على وساوس إبليس، ورجح ما اطمأنت إليه نفسه من الميل إلى الإسلام فعزم على الدخول فيه. لقد كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد قوة للإسلام وضعفًا للشرك، وكتب الله على أيديهما صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين الجهادي أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الدهور وكر العصور، توالي الأزمان .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد