تحقيق دعوى ردة عبيد الله بن جحش


  

بسم الله الرحمن الرحيم

اشتهر في كتب السيرة أن عبيد الله بن جحش قد تنصّر في أرض الحبشة، وكان قد هاجر إليها مع زوجه أم حبيبة - رضي الله عنها -º فهل ثبتت ردّته بسند صحيح؟

 

قال ابن إسحاق - رحمه الله - في ذكر بعض من اعتزل عبادة قريش للأصنام، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان ابن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: «تعلمون والله! ما قومكم على شيء.لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف بــهº لا يسـمع ولا يبـصر، ولا يضـــرّ ولا ينفع؟! التمسوا لأنفسكمº فإنكم والله! ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين أبيهم إبراهيم، فأما ورقة بن نوفـل فاستحـكم في النصـرانيــة... وأمـا عبيـد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصّر وفارق الإسلام، حتى هلك هناك نصرانياً».

 

ثم قال ابن إسحاق: «فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: كان عبيد الله بن جحـش ـ حين تنصَّر ـ يمر بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم هنالك من أرض الحبشة، فيقول: فقّحنا وصأصأتمº أي أبصرنا، وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد»(1).

 

وشيخ ابن إسحاق هنا محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، مات سنة بضع عشرة ومائة، من الطبقة السادسة، وهي طبقة لم يثبت لأحد منها لقاء أحد من الصحابة، فالخبر مرسل.

 

ثم ذكره ـ ابن إسحاق ـ في قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة فقال: «حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة قال: «خرج عبيد الله بن جحش مع المسلمين مسلماً، فلما قدم أرض الحبشة تنصَّر، قال: فكان إذا مر بالمسلمين... »(1)، وذكر نحو ما سبق. وهذا سند صحيح لكنه مرسل، وهو أصحّ ما ورد في تنصٌّر عبيد الله بن جحش.

 

وذكره أيضاً في تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبـة - رضي الله عنها - فقال: «ثم تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد زينب، أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قبله عند عبد الله [عبيد الله] بن جحش.. فمات عنها بأرض الحبشة، وقد تنصر بعد إسلامه»(2)، والخبر هنا بدون إسناد.

 

وروى القصة ابن سعد في (الطبقات) فقال: «أخبرنا محمد ابن عمر حدثنا عبد الله بن عمرو بن زهير عن إسماعيل بن عمرو بن سـعيد بن العاص قال: قالت أم حبيـبة: رأيت في النـوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها، ففزعت، فقلت: تغيرت والله حاله! فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة! إني نظرت في الدين فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية. فقلت: والله! ما خير لك. وأخبرتُه بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها، وأكبّ على الخمر حتى مات»(3)، ورواه أيضاً في ذكر عدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عند ذكر أم حبيبة - رضي الله عنها -: «وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عبيد الله بن جحش، وكان قد أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم ارتد، وتنصّر، فمات هناك على النصرانية»(4)، وشيخ ابن سعد في الخبرين هو الواقدي، وهو متروك على سعة علمه.

 

ورواه الحاكم في «المستدرك» عن الزهري مرسلاً، وفيه: «ثم افتتن وتنصّر فمات وهو نصراني، وأثبت الله الإسلام لأم حبيبة، وأبت أن تتنصّر»(5)، ورواه موصولاً من طريق الواقدي، وفيه رؤيا أم حبيبة(6)، كرواية ابن سعد. «ومراسيل الزهري ضعيفة»(7)، قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: «قال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شرّ من مرسل غيرهº لأنه حافظ، وكل ما قَدرَ أن يُسمّي سَمّى، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه. قلت (الذهبي): مراسيل الزهري كالمعضلº لأنه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولما عجز عن وصله، ومن عدّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير ونحوهما، فإنه لم يدر ما يقول، نعم كمرسل قتادة ونحوه»(8).

 

وروى الخبر الطبري في تاريخه، في: «ذكر الخبر عن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » عن هشام بن محمد مرسلاً، وفيه عند ذكر أم حبيبة: «فتنصّر زوجها، وحاولها أن تتابعه فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية»(9)، والخبر فضلاً عن إرسالهº فإنه عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو رافضي متروك، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدِّث عنه»(10). ونقله ابن الأثير في تاريخه(11) عن ابن الكلبي أيضاً.

 

ورواه البيهقي في «الدلائل» من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: «ومن بني أسد بن خزيمة: عبيد الله بن جحش، مات بأرض الحبشة نصرانياً، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة، فخلف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنكحه إياها عثمان بن عفان بأرض الحبشة»(12)، والخبر فيه علتان: الإرسال، وضعف ابن لهيعة. والمتن هنا فيه غرابة. قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «وأما قول عروة إن عثمان زوّجها منه فغريبº لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة، وصحبته زوجته رقية»(13).

 

وعبيد الله بن جحش لم يترجم له ابن عبد البر في «الاستيعاب»، ولا ابن الأثير في «أُسد الغابة»، ولا ابن حجر في «الإصابة»، وفي ترجمة أخيه عبد الله - رضي الله عنه - في «الإصابة» لم يذكر ابن حجر شيئاً، أما ابن عبد البر فقد قال في «الاستيعاب» في ترجمة عبد الله: «وكان هو وأخوه أبو أحمد عبد بن جحش من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين، وأخوهما عبيد الله بن جحش تنصّر بأرض الحبشة، ومات بها نصرانياً، وبانت منه امرأته أم حبيبة»(14)، وكذا ذكر ابن الأثير في ترجمة عبد الله.

 

وفي ترجمة أم حبيبة - رضي الله عنها - في «الإصابة» قال ابن حجر: «ولما تنصر زوجها عبيد الله، وارتد عن الإسلام فارقها، فأخرج ابن سعد من طريق إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي قال... »(1)، وذكر القصة التي رواها ابن سعد عن الواقدي، وسبقت.

 

وفي ترجمتها في «التهذيب» لم يذكــر الحافـظ تنـصّر عبيد الله بل قال: «هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش هناك، ومات، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي هناك، سنة ست، وقيل سنة سبع»(2)، وقال الذهبي في «السير» في ترجمة أم حبيبة - رضي الله عنها -: «ابن سعد: أخبرنا الواقدي: أخبرنا.. »، وذكر رؤياها - رضي الله عنها - وردّة زوجها، ثم قال (الذهبي): «وهي منكرة»(3). ولم يبيّن - رحمه الله - وجه النكارة.

 

ومما يرجّح أن خبر ردته غير صحيح: أن الروايات الصحيحة في نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة - رضي الله عنها - لم تذكر شيئاً من ذلكº فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح من طريق الزهري عن عروة عن أم حبيبة - رضي الله عنها -: «أنها كانت تحت عبيد الله ابن جحش، وكان أتى النجاشي فمات، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة، زوّجها إياه النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف»(4)، ورواه أيضاً أبو داود(5)، والنسائي(6).

 

مما سبق يتبين ـ والله أعلم ـ أن قصة ردة عبيد الله بن جحش لم تثبت، لعدة أدلةº منها:

1 - أنها لم تُروَ بسند صحيح متصل، فالموصول من طريق الواقدي. والمرسل جاء عن عروة بن الزبير، ولا يمكن أن نحتج بالمرسل (عند من يرى الاحتجاج به) في مسألة كهذهº فيها الحكم على أحد السابقين الأولين - رضي الله عنهم - بالردة.

 

2 - أن الروايات الصحيحة في زواجه - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة لم تذكر ردة زوجها السابق، كما في الرواية السابقة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي.

 

3 - أنه يبعد أن يرتد أحد السابقين الأولين للإسلام عن دينه، وهو ممن هاجر فراراً بدينه مع زوجه، إلى أرض بعيدة غريبة. خاصة أن عبيد الله بن جحش ممن هجر ما عليه قريش من عبادة الأصنام، والتماسه مع ورقة وغيره الحنيفية ـ كما في رواية ابن إسحاق (بدون سند) الواردة أول هذا البحث ـ وفي رواية ابن سعد (عن الواقدي) أنه كان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام. ومعلوم أن البشارة ببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت معروفة عند أهل الكتاب من يهود، ونصارىº فكيف يُتصور من رجل يترقب الدين الجديد أن يعتنقه ثم يرتد عنه لدين منسوخ؟! كما أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة كان في سنة ست، وقيل سبع، وردة عبيد الله المزعومة قبل ذلك بمدة، وهي مرحلة كان الإسلام قد علا فيها وظهر حتى خارج الجزيرة العربية، بل أصبح هناك من يُظهر الإسلام ويُبطن الكفرº كحال المنافقين.

 

4 - في حوار هرقل مع أبي سفيان وكان إذ ذاك مشركاً أنه سأله ـ ضمن سؤالاته ـ: «هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجاب أبو سفيان: لا». ولو كان عبيد الله قد تنصّر لوجدها أبو سفيان فرصة للنيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، كما فعل لما سُئل: «فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها؟ قال: ولم تمكنِّي كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة»(7)، ولا يمكن القول بأن أبا سفيان لم يعلم بردّة عبيد الله ـ لو صحت ـ لأنه والد زوجه أم حبيبة.

 

وبعدº فالمسألة متعلقة بأحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ومن السابقين الأولين، فإن صحّ السند بخبر ردّته فلا كلام، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. أمَا والسند لم يثبتº فإن نصوص الشريعة حافلة بالذبّ عن عِرض المسلمº فكيف إذا كان هذا المسلم صحابياً بل ومن السابقين؟! والله أعلم.

 

---------------------------------

(1) الروض الأنف، (2 / 347).

(1) الروض الأنف، (6 / 538).        

(2) سيرة ابن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله، ص 241.

(3) طبقات ابن سعد، (8/ 97).        

(4) (8/ 218).

(5) المستدرك، (4/ 21).         

(6) (4/ 22).

(7) قاله الحافظ في «التلخيص الحبير» (4 / 111).     

(8) سير أعلام النبلاء، (5 / 338 ـ 339).

(9) تاريخ الطبري، (2 / 213).        

(10) لسان الميزان، (6 / 196).

(11) الكامل في التاريخ، (2/ 210).         

(12) دلائل النبوة، (3 / 460).

(13) البداية والنهاية، (4/ 143).        

(14) الاستيعاب (بهامش الإصابة، 2 / 263).

(1) الإصابة، (4 / 299).  

(2) (12/ 419).

(3) سير أعلام النبلاء، (2 / 221).  

(4) الفتح الرباني، (16 / 170).

(5) كتاب النكاح، باب الصداق (رقم 2093)، عون المعبود، (6 / 137).

(6) كتاب النكاح، القسط في الأصدقة، (6 / 119)، وصححه الألباني، صحيح النسائي، (2 / 705).

(7) فتح الباري، كتاب بدء الوحي (1/ 42).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

فائدة

-

صالح بن محمد الهميلي

16:58:27 2020-02-13

الحمد لله رب العالمين وبعد هذا الرجل قدم إلى ربه وهو أعلم بحاله وأسأل الله أن يكون قد ثبت على دينه وجزى الله المحقق خير الجزاء على هذه المراجعة التأريخية