موقف الأمة من الأزمات


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:

فإن الأزمات لا تنفك أن تقع في أهل الإسلام، تحقيقًا لسنة الله - تعالى -في خلقه، الذي قال: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [آل عمران: 681].

ولغياب العلم الشرعي يفقد كثير من الناس توازنهم وتفكيرهم السوي الصحيح، فيتخبطون في تقييم تلك الفتن وفي الحكم عليها وفي مواجهتها حتى يصبح الحليم منهم حيران.

فإذا ما طالعنا الشرع وتعرفنا على السيرة والتاريخ الصحيح لأهل الإسلام، انجلت الحقائق واستبانت السبل، وظهر الحق من الباطل.

فما الذي يجب أن يفعله أبناء الأمة الإسلامية إذا حلت بهم الأزمات، وكثرت حولهم النكبات؟ لنطالع معاً السطور القادمة.

 

أولاً: الالتفاف حول العلماء:

قال الله - تعالى -: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء 83].

ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه.

يقال: استنبط الرجل البئر أي استخرجها من قعورها وحفرها، وأولو الأمر: أهل الفقه والعقل.

والله - تعالى - يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43].

فلا يصلح أن يفتي العامة في أمر الخاصة.

فالعلماء هم خير الناس في زمانهم، وهم المصابيح التي يستضيء بها الناس في الحوالك، فهم ورثة الأنبياء، وحاملوا راية الحق بعدهم، وقد عاب الله - تعالى -على الذين لا يرجعون إليهم إذا سمعوا أخباراً لعامَّة الأمة تسر أو تضرº فيسارعون في إذاعتها ونشرها قبل التحقق من صحتها أو عدمها، دون التحرز من آثار ذلك على الأمة سلباً أو إيجاباًº من زعزعة الصفوف وإثارة الجدل وبث الخوف والهلع أو اليأس والقنوط، أو لربما كان فرحاً زائداً وتفاؤلاً مفرطاً ثم لا يجد الناس إلا السراب بعد ذلك، وقد جعل الله - تعالى -رد الأمر إلى أولي الأمر وأهل الاستنباط منهم رحمة منه وفضلاً، وغير ذلك هو سبيل الشياطين وليس سبيل المؤمنين فقال: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}[النساء]

إن الله - تعالى -رحيم بعباده وفضله عليهم عظيم، يعلم ما يصلحهم ويُسعدهم، والصلاح والسعادة في سؤال أهل العلم من العلماء الربانيين عند نزول البلاء وحدوث الأزمات.

 

ثانيا: الوحدة وعدم التفرق وعدم التنازع

قال الله - تعالى -: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46]

والتنازع: الاختلاف والتفرق في الأمر.

والفشل: الضعف عن جهاد العدو والانكسار له. وقال الله - تعالى -: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10].

وإذا كان الاختلاف حول أمرٍ, ما من القوة بمكان بحيث لا يستطيع كلا الطرفين المتنازعين المختلفين إقناع كل منهما الآخر، لا يكون هذا مدعاة للتدابر والتهاجر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تدابروا» ولا مدعاة للظلم والبغي واتهام النوايا وإساءة الظنون لأن الله - تعالى - يقول: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور: 21]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

 

ثالثاً: التلاحم والتآخي عند الأزمة وتقديم المعونات:

يظهر ذلك من مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار أمام عدو متربص، فكان المهاجر الفقير أخاً للأنصاري يرثه كأخيه من أمه وأبيه، وأروع الأمثلة في ذلك ما كان من سعد بن الربيع الأنصاري وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين وقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فقال سعد لعبد الرحمن: أنا أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك شطر مالي، ولي زوجتان فانظر إلى أيتهما هويت فأطلقها حتى تنتهي عدتها فتتزوجها، وقد زكى الله - تعالى - هذا السلوك العظيم فقال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].

ثم في مقابل هذا الكرم والإيثار نجد قمة القناعة والعفة عند عبد الرحمن بن عوف الذي قال لسعد: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فخرج وتاجر وربح حتى أغناه الله من فضله، إنها بركة التلاحم والتآخي.

وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له». [رواه مسلم]

قال أبو سعيد فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.

وقد ذكر أبو سعيد مناسبة هذا الحديث أنهم كانوا في سفر فجاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً [أي يتعرض لشيء يدفع به حاجته] فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول.

فأين الذين يتسابقون في تخزين البضائع والمأكولات عند بوادر الأزمات من هذا الهدي النبوي الجليل؟

 

رابعاً: ضبط التوحيد وتجديد الإيمان واليقين

قال الله - تعالى -: {ليس لها من دون الله كاشفة} [النجم 58].

وقال: {أمن من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون} [النمل: 26].

وقال: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} [فاطر: 2].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك...».[أحمد والترمذي عن ابن عباس]

وقال - تعالى -: {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} [النساء: 90].

وقال - تعالى -: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} [الفتح: 42].

وذك في الحديبية. [القرطبي]

ففارج الهم وكاشف الغم ومجيب دعوة المضطرين هو الله وحده لا أحد غيره، فاذكروه أيها الناس يذكركم وانصروه ينصركم، ونصره إنما يكون بطاعته والتزام أمره، فإذا لم يراجع الناس دينهم ويلتزموا أمره خذلهم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [آل عمران: 061].

 

خامساً: الدعاء والتضرع والتوسل إلى الله بالعمل الصالح

 

يقول الله - تعالى -: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: 43].

وقال - تعالى -: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [المؤمنون: 76].

وعن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر». [(حسن) صحيح ابن حبان والحاكم]

وقد رأينا تضرع أصحاب الغار لما نزلت الصخرة على فم الغار الذي أووا إليه فجعلوا يتضرعون إلى الله ويتوسلون إليه بصالح أعمالهم التي تقربوا بها إلى الله يبتغون وجهه - تعالى -في وقت قدروا على ألا يفعلوها.

فأجابهم الله وأثابهم وكشف الضر عنهم وأزاح بلاءً لعله لم يكن يدور بخلدهم إزاحته لكن الله - تعالى -إذا استجاب الدعاء فتحت أبواب الرحمة قال - تعالى -: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}[الأعراف: 65]

وقال الله - تعالى -: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} [الأعراف 94 - 95].

قال ابن كثير - رحمه الله -: يقول - تعالى - مخبراً عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم «بالبأساء والضراء» يعني بالبأساء: ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام، والضراء: ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك «لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ» أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله - تعالى -في كشف ما نزل بهم. وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه، ولهذا قال: «ثُمَّ بَدَّلنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ» أي: حولنا الحال من شده إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك فما فعلوا. «حَتَّى عَفَوا» أي: كثروا وكثرت أموالهم «وَقَالُوا قَد مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذنَاهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ» أي: ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما نجع هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا، بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين... إلى أن قال: ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: «فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون، أي أخذناهم بالعقوبة بغتة أي على بغتة وعدم شعور منهم. انظر ابن كثير تفسير سورة الأعراف.

 

سادساً: مراجعة النفس لمعرفة مصدر الخطأ والخطر:

قال الله - تعالى -: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير [آل عمران: 165].

قال الطبري: أًوً حين أصابتكم أيها المؤمنون (مصيبة) وهي القتلى في أُحُد قلتم أنى هذا؟ أي من أي وجه هذا الذي حدث؟ ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الوحي من السماء وعدونا أهل كفر وشرك؟ «قُل» يا أيها النبي للمؤمنين بك من أصحابك «هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم» أي قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم ولا من قِبًل أحد سواكم «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ» أي على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة ونصر وهزيمة وتفضل وانتقام.

ما الذي حدث من الصحابة؟ كما سبق مخالفتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في النزول من أعلى الجبل، وذُكر أنها مخالفته حين أشاروا عليه بالخروج خارج المدينة لملاقاة العدو.

فكانت النتيجة الانكسار بعد النصر، ومقتل 70 من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عمه حمزة - رضي الله عنه - أسد الله.

فكيف إذا كانت المعاصي في الأمة كما نرى في واقعنا الآن؟ اللهم سلم سلم.

 

سابعاً: إعادة النظر فيما نقع فيه من تقصير:

 

وتفريط في جنب الله

المعاصي سبب الفضائح والقبائح والخراب والذل.

وقد رأينا تعرية أبوينا آدم وحواء من كسائهما وظهور سوءاتهما بسبب المعصية.

وقد شرح رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أمثلة من المعاصي التي توجب سخط الله وعقوبته فقال: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». [(صحيح) أحمد وأبو داود عن ابن عمر]

وقوله: «أخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع» حُمِل على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد.

ثم إن القعود لهذه الأعمال وترك الطاعات والأعمال الصالحة يُعَدُ ركوناً إلى الدنيا من شأنه أن يستجلب غضب الله وسخطه ونقمته.

 

ثامناً: الصبر على ما يصيبنا:

قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». [متفق عليه عن أنس]

معناه الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل بكثرة مشقته.

وقال - تعالى -: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31].

أي نظهرها، ولذلك كان الفضيل بن عياض يقول إذا قرأ هذه الآية وهو يبكي: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

 

تاسعاً: الإيمان بالسنة الربانية:

قال - تعالى -: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا} [البقرة: 214].

وقال - تعالى -: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} [البقرة: 155].

وقال - تعالى -: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2].

وقال الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك». [مسلم عن عياض بن حمار]

يعني اختبر قيامك بما كلفت به من تبليغ وجهاد وصبر، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم في إيمانهم وإخلاصهم في طاعته ومن يتخلف وينابذ بالعداوة والكفر ومن ينافق.

فالسنة الربانية أن يُبتلى أهل الإيمان ليعلم الله الصابر والمجاهد من المتقاعس المثبط، وليميز الخبيث من الطيب، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.

 

عاشراً: الإيمان بالقدر:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك». [ابن ماجة عن زيد بن ثابت]

وقال - تعالى -: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30].

وقال - تعالى -: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22 - 32]

فكل ما يحدث في الناس وفي الكون فهو بإذن الله وقدره، وبعلمه وقدرته، لا يطاع إلا بإذنه ولا يعصى إلا بعلمه ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [الأنعام: 95].

ذلك لكيلا لا نلطم الخدود ولا نشق الجيوب ولا ندعو بدعوى الجاهلية.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply