الثقافة السلبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

افعل...لا تفعل...

هي اختزال لما يريد كل مثقِّف واعٍ, إيصاله للمتلقي، سواء أكان ذلك بصيغة مباشرة أو لا..

وسواء أكان ذلك المُثَقِّف(1) إعلاماً موجهاً، أو جهازاً رسمياً، أو عالماً، أو أديباً، أو معلماً، أو أباً، أو أماً...

الكل يقول لك افعل أو لا تفعل... وإلا فإنه يهذي.

سواء سمّينا ذلك وصاية، أو نصحية، أو موعظة، أو قصة، أو قصيدة، أو درساً، أو خطبة، أو رواية، أو فيلماً، أو أغنية...

لكن في عالمنا العربي هل تفوّقت: افعل أم لا تفعل؟

بحكم الطريقة التي نعيشها في الحكم والتربية فإن (لا تفعل) تتربع على العرش الثقافي...

ففي البيت تعلم الأشياء التي لا تفعلها.. وتعلم أحياناً الأشياء التي تفعلها... وفي المدرسة تعلم الأشياء التي لا تفعلها.. لكنك تعلم كثيراً الأشياء التي تفعلها ولكن بصيغة لا تقل وقل... حتى عندما تقدم استقالتك أو تقاعدك، يختمها مديرك الموقر بـ: لا مانع من قبول استقالة المذكور.

وهذا أثّر تبعاً على أسلوبنا الدعوي والوعظي، فغلب عليه التحذير من ترك الصلاة، والسفور، والأغاني، والكذب... لا المبادرة إلى الصلاة، والحشمة، وسماع القرآن، والصدق... حتى أصبحت الاستقامة تقاس بقدر الامنتاع عن المعاصي، فالمستقيم لا يحلق اللحية، ولا يسبل، ولا يترك الصلاة، ولا يسمع الأغاني، ولا.. وليس المستقيم من يحافظ على النوافل، أو يكثر من الصدقة، أو.. (2)

لكن أليس المؤدى واحداً؟

الحقيقة إنه في أحيان كثيرة المؤدى واحد... لكن ليس ذلك دائماً، كما أن ذلك يربي الناس على الامنتاع لا المبادرة، وعلى السلبية لا الإيجابية.

حتى غدت تصرفات الأخيار تدور أكثرها في مدار الكف لا الفعل.

حتى الأفعال تنطلق من منطلق الكف.. فنحن نريد إعلاماً إسلامياً لكي لا يذهب الناس إلى الإعلام الهابط.. ونريد اقتصاداً إسلامياً لكي لا يرابي المسلم.. ونريد تربية ناجحة لكي لا ينحرف النشء.

وكثيراً ما نغفل عن الإعلام الموجِّه، والاقتصاد البنّاء، والتربية المنتجة..

خذ مثلاً الجهود التي قامت لمواجهة البنوك.. كانت جهوداً عظيمة ولا شك.. لكن كانت موجهة إلى كيفية تخلص الناس من الربا.. وعندما نسأل لماذا حرم الله الربا؟ تكون الإجابة: الربا جشع وظلم.. واستغلال لحاجة الفقير.. يحصر الأموال في أيدي أفراد قلائل في المجتمع.. لا يساعد على تنمية المجتمعات.. يربي التاجر على الكسل.. يؤدي إلى التضخم...

ترك الناس الربا وفتحنا بنوكاً إسلامية وكتبنا أهدافاً عامة للبنوك كان من أجملها وأكثرها بريقاً: التنمية..

... لكن هل سارت تلك البنوك كما كان المنظرون يرجون؟

هل كانت اللجان الشرعية تدفع تلك البنوك إلى التنمية؟

أم كانت تقول لها: لا ترابي.. حتى إن بعض تلك اللجان ركزت جهدها على تغيير ألفاظ العقود الربوية إلى إسلامية! والعمل هو العمل.. (لكنها درهم بدرهم وبينها شعيرة).. ولا عجب فالمنتصر هو (لا تفعل).

إذن لا بد أن نلغي الثقافة السلبية، ونحل محلها الثقافة الإيجابية.

نعم هكذا نادى جمع من علماء العلوم الإنسانية، فألفاظنا لا بد أن تكون بصيغ إيجابية لا نافية سلبية...

... لكني لا أظن أن الله أراد منا ذلك.. فمن أول فعل تدخل فيه الإسلام تتعلم الموازنة بين افعل ولا تفعل (لا إله إلا الله) نفي وإثبات... تخلية وتحلية..

والقرآن والسنة مليئان بالنواهي كما أنهما مليئان بالأوامر.. لا تشرك بالله.. لا تقربوا الزنا.. كما أن القرآن والسنة مليئة بالترغيب، والترهيب.

في حالات كثيرة أجدى سلاح لا تفعل، وأثمرت الثقافة السلبية، فامتناع الناس عن البنوك الربوية كان البوابة الكبرى للبنوك الإسلامية، ومقاطعة البضائع الدنماركية كانت أجدى كثيراً من الحلول الإيجابية المطروحة..

((لا نريد)) أن نلغي (لا تفعل)... لكننا ((نريد)) الجمع بينهما.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

----------------------------------------

(1) لا يلزم أن يكون المثقِّف (اسم فاعل) مثقَّفاً.

(2) انظر بحثاً ماتعاً عند ابن تيمية (مجموع الفتاوى 20/85ـ159) في تفضيل جنس فعل الأوامر على جنس ترك النواهي، وأن ترك الواجب أعظم من فعل المعصية فإبليس ترك واجباً بينما آدم فعل معصية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply