هل نجعل قانونا يعاقب الآباء على ضرب الأبناء؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في عصرنا تتعدد المنظمات الدولية والإقليمية التي تهتم بحقوق الطفل، وفي هذا الإطار تثور نقاشات واسعة في الدول الغربية عن وضع قانون يحرم على الآباء ضرب الأبناء، وقد وضع هذا القانون فعلاً في بريطانيا التي يُعاقب فيها الأب بالسجن إذا اعتدى على ابنه بالضرب، وفي بلادنا قاد المجلس العربي للطفولة المناقشات في الاتجاه إلى وضع مثل هذا القانون.

ومن المعلوم أنه في كل دول العالم، يُعاقَب على الإيذاء البدني للأطفال وإن كان من الأبوين، إذا بلغ هذا الإيذاء مبلغاً شاذاً يؤدي بالطفل إلى عاهات أو تشوهات، أو إصابات ظاهرة، وهذا العقاب لا يقع بحكم قانون خاص، ولكن الوالد المؤذي يؤخذ ببنود قانون العقوبات عموماً، وأحياناً ما نسمع عن آباء أُخذوا فعلاً بهذا القانون.

والجديد الآن هو أن القانون المُراد وضعه سيمنع الضرب مطلقاً، ويحظر على الأبوين عقاب الأبناء مهما كانت الأسباب والدوافع وراء هذا العقاب.

فهل نسير وراء الدول الغربية في إرساء مثل هذا القانون؟

وهل يتوافق ذلك مع الشريعة الإسلامية؟

وهل يحقق مصلحة اجتماعية؟

 

قيم الغرب الأنانية والقسوة على الأبناء:

تسود المجتمعات الغربية نزعة فردية تعظم الفرد وحرياته على حساب المجتمع، وتضعف سلطان الدين على الأفراد، وتجعل غاية الحياة اللذة والمتعة، فلا مراعاة لقيم سامية ولا لأهداف نبيلة إلا بقدر ما يراها الغربي محققة لأهوائه وشهواته، ولذلك يُعرض الغربيون عن الزواج حتى يتمتعوا بحرية مطلقة من كل قيد، ويعيشون عيشة لاهية لا مسؤوليات فيها، فإذا تزوج بعضهم فإنهم لا يميلون إلى التضحية من أجل الأبناء، ويقل صبرهم مع المشكلات الأسرية التي لا مفرَّ منها.

ومن هنا نرى ظواهر كثيرة تسيء للأطفال في المجتمعات الغربية، منها:

1.    نصف الأسر تقريباً تتعرض للطلاق، ويضطر الطفل للعيش مع زوجة الأب، أو زوج الأم، مما يعرضه للقسوة والضرب في كثير من الأحيان.

2.    كثرة أولاد النغول الذين تخلى عنهم آباؤهم وتبنَّاهم غيرهم، وكثرة المؤسسات التي أنشأتها الدولة لرعاية الأطفال الذين تخلى عنهم أهلوهم، وتعرضهم للقسوة تبعاً لذلك.

3.    تقسو الأم على ابنها غير الشرعي ـ الذي لم ترغب في وجوده ـ قسوة هائلة.

4.    انهماك المرأة في العمل المضني خارج البيت يضغط على أعصابها فتسيء لأبنائها.

5.    كثرة الخادمات والمربيات، حيث تخرج المرأة للعمل بنسبة كبيرة تاركة ابنها بين يدي خادمة تعامله بقسوة.

ويعترف مفكرو الغرب بأن هناك أزمة في علاقة الآباء بالأبناء في بلدانهم، فالآباء لم يعودوا واثقين بحقوقهم على أبنائهم، والأبناء لم يعودوا شاعرين بأن عليهم واجب احترام والديهم، وفضيلة الطاعة التي لم يكن يعتريها الشك صارت وبحق موضة قديمة، وهكذا انقلبت سلطة الوالدية، فصارت هيَّابة قلقة محفوفة بالشكوك، وفقدت المسرات القديمة البسيطة(1).

 

الشريعة الإسلامية وعلاقة الآباء بالأبناء:

الشريعة الإسلامية ضد المذهب الفردي، الذي يقدس الفرد وحريته على حساب الجماعة ومصلحتها، وأحكام هذه الشريعة أقرب إلى المذهب الاجتماعي، إذ هي تراعي الصالح العالم، وتوفق بينه وبين حقوق الفرد، فهي تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة ورفع الظلم والضرر.

ولا يصح أن يقدس القانون حرية الفرد إلى حد أن يضحي من أجلها بمصلحة الجماعة، ولا أن يجعل للطفل الصغير الذي لم يكتمل نموه سلطة توازي سلطة أبيه الذي خرج من صلبه وكفله ويتولاه بكل رعاية، بل الصحيح أن يوفق القانون بين الأفراد الذين تتشاكس إرادتهم وتتخالف مصالحهم، ويسرع القوي فيهم إلى حق هضم الضعيف، ونيله بالأذى والضرر.

ومن قيمنا الأصيلة التي أرستها الشريعة الإسلامية: عناية الآباء بالأبناء، ورعايتهم رعاية فائقة حتى إن كثيراً من الآباء يتخلى عن راحته، ويضحِّي بوقته وجهده وماله ليوفر لأبنائه المستقبل الزاهر السعيد، فالأب يكد ويسعى جاهداً ليوفر لأبنائه أسباب الثقافة والتعليم ما لم يتوافر له نفسه، ويجد في ذلك تعبيراً عن معاني الأبوة الصادقة، وواجباً دينياً نحو أبنائه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته... الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها...)(2).

ومن سمات الأسرة المسلمة احترام الصغير للكبير، وتوقير الأبناء لآبائهم وأمهاتهم لقول الله -تعالى-: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكُر لي ولوالديك إليَّ المصير)لقمان: 14، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا)(3)، ويمكن لمس أثر ذلك فيما يبديه الأبناء نحو آبائهم وأجدادهم من احترام وتقدير بالغ، ويبرز هذا الاحترام والتوقير حين تقعد الشيخوخة الآباء عن العمل، حيث يتعاون الأبناء عن رضى وطيب خاطر لإعالة الآباء والأجداد، وفاء لجميلهم، واعترافاً بفضلهم.

 

علاقة فطرية وليست تعاقدية:

ليس كل شيء في المجتمع يُحكم بالقاعدة القانونية، وإنما هناك أيضاً القواعد الأخلاقية، والقواعد الدينية، وقواعد العادات والمجاملات، ولكل منها مجالها، ومن يخرج على هذه القواعد يقابله المجتمع بالإنكار والاستهجان، وقد يتعرض للعذاب الأخروي· أما من يخالف القاعدة القانونية، فإن السلطة العامة توقع عليه الجزاء المادي الحسي المنصوص عليه، والعرف أحياناً أقوى من القانون، ويعد بديلاً له، لذلك فإن الشريعة الإسلامية تعتد في مصادر أحكامها بالأعراف الصحيحة، وتجعل المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً في إقراره ونفاذه.

والناس يتعاملون في أمور كثيرة، مكتفين بما بينهم من عرف، ولا يمكن أن يتسع قانون ليشمل كل دقائق الحياة، والعرف هو الذي يكمل نصوص القانون، وكل عرف في مجتمعنا إذا لم يخالف الشرع، فهو صحيح معتبر.

ومن هنا نؤكد على أن علاقة الأبوة والأمومة بالبنوّة هي علاقة فطرية طبيعية يؤكدها الشرع والعرف، وليست علاقة تعاقدية ينفذها سلطان القانون ويظللها ببنوده الصارمة، فالله -سبحانه- فرض على الأبناء الإحسان إلى الآباء كما في قوله -تعالى-: (وبالوالدين إحساناً)النساء: 63، كما فرض على الآباء الإحسان إلى الأبناء لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كنَّ له ستراً من النار)(4).

ومن الخير أن تظل العلاقة بين الآباء والأبناء أخلاقية دينية وليست تعاقدية قانونية، لأن في هذا تأكيداً للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالعلاقة التعاقدية القانونية تفرض حقوقاً تقابلها واجبات، أما القاعدة الخلقية الشرعية فهي تفرض واجبات دون أن تقابلها حقوق، فالأب يعطي ابنه حقوقاً متتالية كالنفقة والتأديب والرعاية، دون أن ينتظر من الابن واجبات، اللهم إلا واجب الطاعة، والشرع هو الذي فرض على الابن طاعة أبيه، وأن يكون طوع يمينه، ملك له كالرقيق، وأن يكون ماله أيضاً ملك لأبيه، وذلك لعظم حق الأب عليه.

إن الولد كسب أبيه، لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للابن الذي شكا تصرف أبيه في ماله: (أنت ومالك لأبيك)(5).

وقال عبد الله بن عمر: كان تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيتُ، فأتى عمر النبي-صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: طلقها(6).

وعن أبي الدرداء  -رضي الله عنه- أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة، وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)(7).

وقال النابغة:

مهلاً فداءً لك الأقوام كلهم  * * * وما أثمر من مال ومن ولد

 

إن حب الأمومة قائمة على التضحية وإنكار الذات، وهو بذلك أنقى أنواع الحب، لأنه عطاء لا ينتظر المقابل، وكذلك حب الأبوة يرتفع عن الأغراض في القيام بواجب يعتقد الأب أنه مسئول عنه أمام ربه، حين يتجشم المشاق لتوفير الغذاء والكساء والرعاية لأبنائه.

ولما كان الطفل ينشأ عاجزاً عن رعاية نفسه، فقد جعل الشرع للأبوين عليه ولاية تربية وتأديب، فيجب له النفقة والتعليم والتهذيب عليهما، ولا يحتاج الأمر إلى إكراه الأبوين لأداء هذا الحق لأن الله -سبحانه- جعل في قلب الأم ينبوع حنان لا ينضب لصغيرها، فهي تحملت آلام الحمل والولادة عن رضى ليخرج إلى الحياة، كما أن الله -تعالى- وضع في قلب الأب عاطفة قوية لابنه تدفعه ليكد ويكدح كي يوفر له الراحة والهناءة، وكلا الأبوين يجد في الصغير محوراً يجمعهما معاً، ويوحِّد عواطفهما، ويعطي لأسرتهما معنى البقاء وغاية الاستمرار.

إن العوامل التي تدفع للرحمة بالأبناء كثيرة -وليس من بينها القانون- أولها الدين، وثانيها الغريزة التي فطر الله الأبوين عليها، وثالثها النظام الاجتماعي والعرف، ورابعها نشأة كل من الأب والأم في أسرة محبة متماسكة، يتعلم منها في باكورة حياته كيف يكون الحب كاملاً وغير أناني.

 

تأديب الأبناء واجب على الآباء:

أوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء تهذيب الأبناء، وجعلت للأب الولاية العامة على أبنائه، وهي ولاية إنفاق وتأديب وإصلاح وإرشاد وتوجيه، وحمل على ما فيه مصلحتهم، كما في قوله -سبحانه-: (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة)التحريم: 6، قال علي بن أبي طالب في تفسير هذه الآية: (علموهم وأدبوهم)، وقال الحسن البصري: (مروهم بطاعة الله، وعلموهم الخير)(8).

وقال عبد الله بن عمر: (أدِّب ابنك، فإنك مسئول عنه: ماذا أدبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسئول عن برك وطواعيته لك).

وقال الحكيم العربي: (لاعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اجعل الحبل على غاربه).

وفي كل دين ومجتمع وجنس وبلد وقانون، مبدأ عقاب المخطئ متقرر، صغيراً كان أو كبيراً، والكبار حين يخطئون، فمن المفترض أن يعاقبوا على قدر ما ارتكبوا من أخطاء، وكل خطأ له عقابه المقرر، فلماذا يكون الطفل استثناء من ذلك؟

إن شخصية الطفل تتشكل في الأشهر الأولى من حياته، وهو في السنتين الأوليين من حياته يتعلم أن يصبح خاضعاً للنظام أو غير خاضع له على الإطلاق، وعلى ذلك ينشأ كما قال شاعرنا:

وينشأ ناشئ الفتيان منا * * * على ما كان عوَّده أبوه

والعقاب عند الخطأ هو أسلوب تربوي سليم يفيد في ضبط سلوك الطفل، فالطفل في أول أيام حياته يجب حمله على أسلوب الحياة الصحيح في إطار القواعد الاجتماعية المتقررة، حيث يكون الألم في انتظاره في آخر المطاف إذا لم يستجب  لدواعي النظام، تماماً كما يعاقب الكبار حين يخالفون قواعد النظام العام والآداب، وليس ذلك من القسوة، بل إنه من الرحمة كما يقول شاعرنا الحكيم:

فقسا ليزدجروا، ومن يك راحماً * * *  فليقسُ أحياناً على من يرحمُ

ويقول الحكيم الألماني كانت: كل ذنب يجب أن يتبعه عقاب، وهذا العقاب على ثلاثة أقسام: الأول العقاب الأدبي، كأن تعامله معاملة جافة نوعاً ما، كأن تنظر إليه نظر احتقار إذا كذب· الثاني العقاب الطبيعي السلبي، كأن تمنع عنه ما يطلبه ويحبه، وهذا أيضاً ينحو نحو العقاب الأدبي· الثالث العقاب بما يؤلمه، ولكن في هذا وحده يجب الاحتراس من أن نستذله فيعيش عبداً أمد الحياة(9).

ومن هذا العقاب الضرب كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)(10).

وولاية الآباء على الأبناء تجعل الضرب يأتي في سياق التأديب لمن عصى ولم ينتصح، ومن جانَبَ الهداية والصواب، وخالفَ الأوامر التي لا شك في نفعها وفائدتها في الدنيا والآخرة، وليس أهم من تحقيق العبودية لله - تعالى -التي هي مقصد خلق الإنسان، ولا يكون تحقيق لها إلا بالمحافظة على الصلاة، فالضرب لمن أساء وخالف وعصى وظلم، وهذا الضرب ليس ضرب انتقام وتشف، لكنه ضرب تأديب وتمرين كما قال الإمام ابن القيم(11).

ولا يكون هذا الضرب إلا بعد أمر ونهي، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، ووعظ وهجر، كما لا يكون إلا في سن تسمح بذلك وهي العاشرة، وفيها يتحقق للطفل ثلاثة أمور: أحدها مرور فترة كافية يتكرر فيها النصح على مسمعه وهي ثلاث سنوات، من السابعة حتى العاشرة، لأن الطفل لا يستوعب الأوامر سريعاً وينسى كثيراً، وثانيها تمييز الطفل بين الخير والشر بنموه العقلي، وثالثها نمو الطفل الجسمي والانفعالي فيتحمل الضرب، ويتفهم الدوافع إليه، حتى تكون أوبته إلى الحق قريبة، ولا تتشوه نفسيته·

وهذا التأديب الذي جعله الشرع حقاً للابن، وأوجب على الأب القيام به، إذا قام به الأب كان محموداً لا مذموماً، وإذا فرط الأب في تأديب ابنه فقد ضيَّعه، ولم يقم بما كفله الشرع الحكيم.

وهذا التأديب لا يعني إباحة القسوة والتعذيب، فالإسلام وضع القاعدة الشرعية بحرمة تعذيب كل ذي روح وليس الإنسان فقط، ينطبق هذا على البهائم والطير، وحتى الحيوانات التي أباح الشرع ذبحها وأكل لحمها، أمر بالإحسان في ذبحها، وحتى الحيوانات والحشرات التي شرع قتلها، أمرنا بالإحسان في قتلها، كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله -تعالى- كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)(12).

فالضرب المباح هو ضرب غير مبرِّح، ولا يكسر عظماً ولا سناً، ولا يترك أثراً، ولا تستخدم فيه آلة حادة ولا عصا غليظة، ولا يضرب فيها الوجه، ولا يصحب بالسب واللعن والتقبيح·

 

العقاب ليس هو العلاج:

لا يعني السماح بالعقاب البدني المحدود للأطفال أننا نرى أن الضرب هو العلاج، ولكنا نراه مجرد تنبيه للطفل المتمرد على خطئه وسوء سلوكه بعد أن ننصحه مرات فلم ينتصح، وليس كل الأولاد كذلك، فإذا تنبه الولد، بعد أن رأى من نذر الغضب ما يرده إلى الصواب، كان هناك عمل كثير يسير على المنهج التالي:

أولاً: من الواجب على الوالدين أن يتذكرا أيامهما الباكرة، حين كانا في هذه السن الصغيرة، وأن يتسامحا في حكمهما على الأخطاء التي يقع فيها أبناؤهما، فهما وقعا غالباً في هذه الأخطاء من قبل أو فيما هو مثلها، ويجب ألا نحكم على الأطفال مثلما نحكم على الكبار، فالطفل كائن ضعيف متقلب الأطوار قد يستولي عليه العناد، ولكنه سريع الأوبة، وكثيراً ما لا يتعمد الخطأ الذي يصدر عنه، بل يكون رد فعل لاستفزاز من الكبار.

ويحدث أحياناً أن يكون هذا التسامح عسيراً على الوالين، في حين يكون الأجداد أقدر على فهم الجيل الناشئ، لأن أعمارهم المتقدمة جعلتهم أقل تشدداً، فصارت عقولهم أكثر تحرراً وتقبلاً للأعذار، لذلك ينبغي أن نعطي الأجداد دوراً أكبر في تربية الأبناء.

وهذا التسامح يعني العفو عما ارتكب من أخطاء بغية بلوغ الوفاق المشترك، وفي العفو عن الطفل لابد من توافر صفات في الكبار مثل: استعادة الهدوء والتعقل حتى يتفهموا كيفية وقوع الطفل في الخطأ، والنظر في الملابسات التي وقعت فيها الأخطاء، وألا نتعالى على الأطفال تعالياً غير مقبول، وألا ننتظر من الطفل اعترافاً مهيناً وتأسفاً مذلاً، وإنما المطلوب هو أن نأخذ بيد الطفل ببراعة وسلاسة لكي يقدم اعترافاً مبسطاً، ونكتفي منه بذلك.

وللعفو لابد أن يتحلى الكبار بالثقة، والنظر بتفاؤل إلى المستقبل، ومعرفة أن العقبة التي تتغلب عليها بالود تؤدي إلى تدعيم حب كان علينا أن نحميه لا أن نهدمه، وأن نساوي بين الأطفال، ونسدي إليهم النصح في غير إسراف، وإن أبعد النصائح أثراً هو ضرب المثل الصالح والقدوة الطيبة.

ثانياً: بذل كل جهد ممكن لإسعاد الطفل، والطفولة السعيدة هي التي يشرف عليها أبوان يحبان أطفالهما حباً مترفقاً حنوناً، فيظهران عواطفهما لأبنائهما، ويحنوان عليهما حنواً ينبع من محبة صادقة، تترسخ لدى الأطفال في الكلمات الطيبة واللمسات الحانية والاحتضان الوثيق، حتى يدرك الصغير إدراكاً لا خفاء فيه، أن الأبوين يكنان له حباً عميقاً مخلصاً لا تزلزله ضربة أو ضربات يتلقاها منهما على أطرافه.

ومن الضروري في الوقت نفسه، وضع قواعد للأطفال للعمل والسلوك قليلة العدد، تتناسب مع سنهم ويمكنهم مراعاتها، وإلزامهم بها إلزاماً من قبل الوالدين، وهذه القواعد تعني نظاماً دقيقاً للحياة يعتاده الصغار وينشأون عليه.

ثالثاً: طاعة عن حرية واختيار ترفع الطفل، خير من إذعان وقسر يحطه، فالطاعة الصادرة عن حرية واختيار ترفع طبع الطفل وتسمو بخلقه وتنمي شخصيته، والإذعان الناشئ عن القهر والإكراه يسفله، وعادة ما تقول الأم أو معلم المدرسة عن الطفل العنيد العاصي للأوامر: (إنني سأذلله)، والحقيقة هي أن العنف الذي نمارسه على أطفالنا على طريقتنا العربية في التربية ينشئ أطفالاً مذللين خانعين، أو أطفالاً معاندين متمردين.

والصواب أن نقنع الطفل بمضرة الأشياء القبيحة بالبرهان على ضررها بما فيها من صفات ذاتية، وأن نخاطب عقله ووجدانه لكي يسير على مقتضى القوانين التي تجري عليها شؤون الكون المعنوية وحوادثه المادية، وهذا منهج قرآني، كما في نصائح لقمان لابنه ومنها قوله له: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. ولا تصعِّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان: 17 ـ 19.

رابعاً: أن نربي الأطفال تربية استقلالية لا تتوقف على العقاب البدني المؤلم، ولكن تبيّن قيمة الفضائل في حياتنا ومنافعها، وأن نعمد إلى الإيلام الأدبي، فنقدمه على الإيلام البدني، فإذا أخذ الولد يعاند على كبر، وجب علينا أن نقمع عناده بما يؤلمه إيلاماً أدبياً، كأن نمنع عنه ما كنا نمتعه به من قبل من المسرات، كالحرمان من المصروف، أو من النزهة، أو من طعام يحبه.

وبدلاً من الضرب والعقاب القاسي نبيِّن للطفل منافع الطاعة والصدق والأمانة والاستفادة والتعاون، وما فيها من فائدة له وللآخرين في الدنيا والآخرة، مستعينين في ذلك بنصوص الكتاب والسنَّة، ونعلمه أن اتباعهما سبب لرضا الرب وثقة الناس، مما يبعث في نفس الطفل الفضائل، ويدفعه إلى الحق والخير، دون توقف على عقاب بدني مؤلم.

 

القانون ليس حلاً:

ظاهرة كثرة القوانين في المجتمعات الحديثة تدل على وجود خطأ في المجتمع، فبدلاً من أن يتعامل الناس بالحسنى والعفو، يتعاملون ببنود القانون· ومن شأن هذا القانون أن يؤدي إلى تمرد كثير من الأطفال، وخروجهم عن طاعة الوالدين، وجنوحهم إلى الشقاق والشر، وسقوط هيبة الأبوين تماماً، وإذا لم يحترم الطفل والديه فلن يحترم أحداً آخر.

وصور الضرب في واقعنا ليس الضرب وحده، بل هناك ما هو أشد مما يمكن أن يفعله الأب الراغب في تفادي مثل هذه المواد القانونية، إذا وضعت وصار الأمر إلى احتيال على القانون بين طرفين كل منهما يريد أخذ الآخر ببنوده.

ومن المؤكد أن القانون لن يحمي الأطفال، لأنه لا يتدخل إلا بعد وقوع المصيبة، وبعد دعوى قضائية، فالقانون لا يصون ولكنه يعاقب المسيء فقط، ويحاول أن يمنع استمرار الخطأ، والعلاج لابد أن يكون أكبر من ذلك بوضع إجراءات وقائية.

والمشكلة فيما أرى ليست في الضرب، ولكن في الأب الطاغية والأم المتسلطة، وفي عدم التوافق الزوجي الذي ينعكس على علاقتهما بالأبناء، وإن التجبر وإكراه الأبناء على ما لا يحبون مما لا فائدة فيه أعظم إيلاماً وإفساداً لهم من الضرب المبرِّح، فالأب الطاغية يمحو شخصيات أولاده، فينشأون ضعفاء مهزوزين، لا ثقة لهم بأنفسهم، وتعتقد البنت التي تنشأ في هذه البيئة أن الزوج نوع من العبودية، والأم المتسلطة التي تكثر (الشخط والنتر والنقر) تفقد أطفالها بهجة الحياة، وقد تجعلهم يتمنون الموت للخلاص مما يعانون من شقاء.

وأقول: كان الأولى بهؤلاء أن يفكروا في وضع قوانين لمحاربة ما تحرمه الأخلاق وقواعد الدين، مثل الربا، والزنا، والسكر والعري، فمع أن المجتمعات الإنسانية القويمة تستهجن مثل هذه الأمور، إلا أن القوانين تبيحها، وهذا من أكبر التناقض، وهي أمور تعود فعلاً بخطرها على الأفراد والمجتمعات.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

1.    الوصول إلى السعادة: برتراند رسل، ترجمة: د·نظمي لوقا، كتاب الهلال عدد 32، رمضان 1397، ص 153.

2.    متفق عليه.

3.     رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

4.     متفق عليه.

5.    رواه ابن ماجه والطبراني والبزار.

6.    رواه أبو داود والترمذي.

7.    رواه الترمذي وغيره.

8.    تحفة المودود بأحكام المولود: ابن قيم الجوزية ، مكتبة دار البيان، دمشق، 1416هـ، ص136، 175.

9.    كتاب التربية: كانت، ترجمة: طنطاوي جوهري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1355هـ، ص 56.

10.                       رواه أبوداود وغيره بإسناد حسن.

11.                       رواه مسلم.           

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply