حق الصغير في التنشئة الصالحة ( 2 – 2 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

(سبق في الجزء الأول من المقال أن تعرض الكاتب لأهمية الاهتمام بتربية النشء وحقهم في تربية متقنة وبدأ ببيان الواجب تجاه هذه التنشئة الصالحة من تعويدهم على العبادات و الالتزام بالشعائر التعبدية, كما تحدث عن القدوة وأثرها في تعبد الصغار وساق من الأدلة وآثار السلف الصالحين نماذج من ذلك، وفي هذا الجزء يكمل الكاتب حديثه حول التربية بالحب وأثرها وتقويم سلوك الصغير وما يتعلق بذلك).

 

التربية بالحب:

ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:

تقبيل الصغير واحتضانه وشمه:

من مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها, وقد جاء في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: من لا يرحم لا يرحم\"(1).

 

من مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها

وقال بريدة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا فجاء الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه وقال: صدق الله: \"إِنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ\" (التغابن: من الآية15) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما(2).

 

ومن ذلك الدعاء للصغير:

وهذا هو هدي الأنبياء والصالحين فعباد الرحمن يقولون: \"رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعيُنٍ,\" (الفرقان: من الآية74)، ويدعو لهم بصلاح العقيدة: \"وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ\" (إبراهيم: من الآية35) ويدعو لهم بأن يكونوا مقيمين للصلاة: \"رَبِّ اجعَلنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي\" (إبراهيم: من الآية40).

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: \"ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: \"اللهم علمه الكتاب\" وفي رواية: \"اللهم علمه الحكمة\" وفي أخرى: \"اللهم فقهه في الدين\"(3).

وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأخذني ويقعدني على فخذه ويقعد الحسن على الأخرى ثم يضمنا ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما(4). وفي رواية: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)(5).

أما الدعاء عليهم فقد ورد النهي عنه في حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم\" (6).

وجاء رجل إلى ابن المبارك يشكو عقوق ابنه فسأله إن كان قد دعا عليه أم لا، فأجاب: بأنه قد دعا عليه، فقال له حينئذ: أنت أفسدته(7).

 

ومن ذلك ممازحتهم وتفريحهم:

فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمازح الصغار فقد قال لأحدهم: (يا ذا الأذنين)(8)، ومج - صلى الله عليه وسلم- الماء في وجه محمود بن الربيع وهو ابن خمس سنين(9). وقال لأحدهم: \"يا أبا عمير ما فعل النغير\"(10).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا بركة مع بركة) ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان(11).

ومر ابن عمر - رضي الله عنهما-  في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين(12).

وعن أنس - رضي الله عنه- قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم\"(13).

وعن يعقوب بن سرجس - مولى أم سلمة أنه أتي به وهو صغير إلى أم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسحت رأسه وبركت عليه. وهكذا فعل أبو هريرة مع فاطمة بنت سعد(14).

 

السماح لهم باللعب فهو ربيع الصغار:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- \"أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره فلما جلس وضع واحدا على فخذه والآخر على فخذه الأخرى...\"(15) وعن ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هاذين)(16).

وعن عبد الله بن الحارث - رضي الله عنه - قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يصف عبد الله وعبيد الله من بني العباس- ثم يقول: من سبق إلي كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم(17).

وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان من أفكه الناس مع صبي(18).

ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: \"والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل ويهجر الجد في ذلك الوقت\"(19).

وعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت ومعه عبد الله ابنه فنهاهم فقال الحسن: دعهم فإن اللعب ربيعهم(20).

وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب(21).

وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان وتضربان بالدف عند عائشة - رضي الله عنها - في العيد من أيام منى(22).

كما ورد عنها - رضي الله عنها- أنه كان لها فرس له جناحان(23).

ويجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور إذ لم يكن فيه أذى لها، ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخ لأنس: \"يا أبا عمير ما فعل النغير\"(24).

 

التوسعة عليهم عند اليسار:

وهذا داخل في عمومات النصوص التي منها: \"خيركم خيركم لأهله\" وحديث: \"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده\"، ومن أولى ما يدخل في ذلك التوسعة على الأولاد باللبس الحسن والطعام الحسن بل وتطييبهم بأنفس الطيب، قالت أم أبي محمد التمار: ربما حملنا أولاد أيوب فعبق لنا من ريحهم ريح المسك أو الطيب(25).

 

حقوق الصغار في أبواب الآداب:

من ذلك تشميت الصغير إذا عطس، ومن حق الصغير أن يسلم عليه فعن أنس - رضي الله عنه- قال: \"كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر على صبيان فسلم عليهم\"(26).

ومن ذلك أن يُستأذن عليه عند الدخول فقد قال جابر - رضي الله عنه- : \"يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزا وأخيه وأخته وأبيه\"(27).

ولا يقدم عليهم في حقهم إلا بإذنهم فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: \"أتأذن لي أن أعطي هؤلاء، فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أؤثر بنصيبي منك أحدا، فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده\"(28).

ومن ذلك أنه لا يجوز أن يكذب عليهم فعن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال: \"أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطيك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا، فقال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة\"(29)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له)(30).

 

حفظ نظر الصغير بتعليمه الاستئذان في أوقات الراحة:

قال تعالى: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ, مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَورَاتٍ, لَكُم... \" (النور: من الآية58)، يقول أنس - رضي الله عنه- : \"كنت خادماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أدخل بغير استئذان فجئت يوما فقال: كما أنت يا بني فإنه قد حدث بعد أمر، لا تدخلن إلا بإذن\"(31). وقد ذكر ابن قدامة أن الطفل يؤمر بالاستئذان في سن التمييز(32).

 

تقويم سلوك الصغار:

قد يظن ظان أن أسرع طريقة للتقويم الضرب وهو مخالف للهدي النبوي كما أن الدراسات الحديثة أثبتت أن استخدام الوسائل الأخرى أكثر تقويما للسلوك. ولنتأمل في هذه القصة التي رواها أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى طعام كان قد دعي إليه مع بعض أصحابه فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذه فطفق الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاحكه حتى أخذه(33). فهذه وسيلة سهلة توصل إلى المقصود.

ومن الأساليب أيضا العتاب الرقيق فقد قال أنس بن مالك - رضي الله عنه- : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله(34).

 

والضرب وسيلة تقويم وقبلها وسائل، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت(35).

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت في أدب اليتيم: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط(36). أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدب ويضرب ضربا خفيفا(37).

وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يكتب للأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث فإنها مخافة للغلام(38). يعني لا يجمع ثلاث ضربات. وسئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه(39).

وتأمل أيها القارئ هذا الموقف من الأحنف حينما غاضب معاوية - رضي الله عنه- ابنه يزيدا فقال له الأحنف بن قيس: هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول إلى كل جليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوك فأعطهم يمحضوك ودهم، ويلطفون جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا لا تعطيهم إلا نزرا فيملوا حياتك ويكرهوا قربك. فكان ذلك سببا لتراضيهما(40).

 

الإنكار عليهم:

جاءت النصوص بالأمر بالإنكار على الصغار إن ارتكبوا محرما فعن عمر بن أبي سلمة قال: كنت في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: \"يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك\"(41).

روى سعيد بن جبير أنه كان مع عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الطريق فإذا صبيان يرمون دجاجة فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ فتفرقوا، فقال: إن رسول الله - صلى عليه وسلم - لعن من مثل بالحيوان(42).

 

اختيار أصحابهم:

قال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد- وذهب بي معه فقال له: يا أبا عبد الله، هذا ابني، فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق وجنبه أقرانه(43).

قال الغزالي: ويحفظ الصبي من الصبيان الذين عُوِّدوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة(44).

 

-------------------------------------------------------

(1) رواه البخاري (5997) ومسلم(2318).

(2) رواه أبو داود كما في العون 3/458، والترمذي كما في التحفة 10/278، وابن ماجه 2/1190 وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول9/33.

(3) رواه البخاري في كتاب العلم 17، وكتاب المناقب 138، وكتاب الوضوء 10.

(4) أخرجه البخاري 8/10.

(5) رواه البخاري 1/29.

(6) رواه مسلم (3009).

(7) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد.

(8) رواه أبو داود(5002).

(9) رواه البخاري 1/29.

(10) رواه البخاري 8/55.

(11) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362).

(12) رواه البخاري في الأدب المفرد(1303).

(13) رواه النسائي وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع/ 4947 والصحيحة/1278.

(14) رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب العيال 1/411، 1/414.

(15) أخرجه أحمد 2/513.

(16) رواه ابن حبان كما في الموارد2233، والطبراني في الكبير3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلا 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه 8/434 وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال/71..

(17) رواه أحمد 1/214 وقال في المجمع 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقرونا، والبخاري تعليقا، وبقية رجاله ثقات..

(18) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.

(19) الآداب الشرعية 3/228.

(20) وابن أبي الدنيا في العيال 2/791.

(21) رواه البخاري في الأدب المفرد (1297و ابن أبي الدنيا في العيال 2/798.

(22) رواه مسلم 2/608.

(23) رواه أبو داود(4932).

(24) رواه البخاري(6129) ومسلم(2150).

(25) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/561.

(26) رواه الترمذي 4/1602 (2837) وقال الترمذي: حديث صحيح.

(27) رواه البخاري في الأدب المفرد (1066).

(28) رواه البخاري 5/2130 (5297) ومسلم 3/1604 (2030).

(29) رواه أحمد 3/447 وأبو داود 4/298 (4991)

(30) رواه الحاكم 1/127.

(31) رواه البخاري في الأدب المفرد 2/271.

(32) المغني 9/496.

(33) رواه أحمد 4/172.

(34) رواه أبو داود(4473).

(35) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/494 وحسنه الألباني في صحيح الجامع.

(36) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 2/832.

(37) الآداب الشرعية 1/477.

(38) ابن أبي الدنيا في العيال 1/531.

(39) الآداب الشرعية 1/477.

(40) ابن أبي الدنيا في العيال 1/308.

(41) رواه مسلم 3/1599 (2022).

(42) رواه الدارمي 2/84.

(43) رواه الخلال في الحث على التجارة /29.

(44) الإحياء 3/70.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply