الحسنات يذهبن السيئات


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة، وكتب عنده في الملأ الأعلى أن رحمته سبقت غضبه وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وأثنى عليه بقوله فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك {آل عمران: 159} وبعد.

يقول - تعالى - في سورة هود: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين {هود: 14}، وفي اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان باب في قوله - تعالى -: إن الحسنات يذهبن السيئات حديث عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قُبلَةً فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فأنزل الله - عز وجل -: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات فقال الرجل: يا رسول اللهº ألي هذا؟ قال: \"لجميع أمتي كُلِهم\"(1).

وفي رواية أخرى لهما وهي عن أنس قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقم فيَّ كتاب الله قال: \"أليس قد صليت معنا؟ \" قال نعم. قال: \"فإن الله قد غفر لك ذنبك\" أو قال: \"حدَّكَ\" قال النووي: هذا تصريح بأن الحسنات تكفر السيئات، واختلفوا في المراد بالحسنات هنا فنقل الثعلبي أن أكثر المفسرين على أنها الصلوات الخمس وقال مجاهد هي قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقًا، وتعليقا على رواية أنس يقول النووي أيضًا هذا الحد معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر، لأنها كفرتها الصلاة، ولو كانت كبيرة أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة(2).

ويقول ابن حجر في الفتح كتاب التفسير: المرجئة قالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة صغيرة كانت أو كبيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح \"إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر\" فقال طائفة إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا، وقال آخرون: إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا منها وتحط الصغائر.

ويقول ابن كثير في تفسيرها: إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة واستدل بما في الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلها ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من توضأ نحو وُضُوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه\" واستدل أيضًا بحديث رواه الإمام أحمد عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: \"يا معاذ أتبع السيئة الحسنةَ تمحها وخالق الناس بخلق حسن\" وفي رواية أخرى عنه أيضًا قال أبو ذر يا رسول الله أوصني قال \"إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها قال قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال هي أفضل الحسنات\"(3) ففي رواية الشيخين السابقتين الصلاة من الحسنات المذهبة للسيئات وفي رواية أبي ذر ذكرت إحداهما الحسنة مطلقًا تمحو السيئة والأخرى ذكرت أن الذكر وتوحيد الله من أفضل الحسنات المذهبة للسيئات، وقد أوردت السنة أيضًا أعمالا صالحات قررها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرى أمر بها فمن الأعمال الصالحات المذهبة للسيئات والتي قررها النبي - صلى الله عليه وسلم - وما رواه الشيخان من رواية أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"بينما كلبٌ يُطِيفُ برَكيَّةٍ, كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقَتهُ فغُفِرَ لها به\"(4) ومعنى يُطِيفُ: أي يدور حولها، الركية: البئر ذات الماء، البغي: أي الزانية، فالشاهد من الحديث أن سقاية البهائم لها فضل وهذه الزانية من بني إسرائيل حصلت من سقاية الكلب الذي كاد يقتله العطش حسناتٍ, أذهبت سيئاتها فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"فغفر لها به\" وصورة أخرى قررها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي عند البخاري من حديث ابن عمر وهو حديث الغار والنفر الثلاثة الذين دخلوه وانطبقت عليهم الصخرة واتفقوا على أنه لا نجاة لهم إلا بالتوسل إلى الله بعمل صالح صدق الله فيه فقال أحدهم \"اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إليَّ وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتُها حتى قدرتُ فأتيتها بها فدفعتُها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفُضَّ الخاتم إلا بحقه، فقُمتُ وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا\"(5) فهذا رجل كف نفسه عن الحرام مع القدرة عليه وترك المعصية والمال الذي أعطاه لابنة عمه وكل هذا من الحسنات التي قُبلت عند الله فلما توسل بهذا العمل الصالح إلى الله قبل الله توسله، وتوبته جبت ما قبلها وفرج الله عنهم ما هم فيه وثبت له ولأصحابه كرامة الصالحين، ومن الصالحات التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تفعل عقب السيئة ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة \"أتى رجل فقال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيتُ وإن والديَّ يبكيان قال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما\"(6) ويقول الشوكاني في نيل الأوطار فيه دليل على أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية أما إذا تعين الجهاد فلا إذن، ونقول والشاهد من الحديث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الصحابي أن يذهب سيئة إبكاء الوالدين بأن يفعل الحسنة الزائدة على برهما وهي أن يضحكهما كما أبكاهما وإن كان ذلك بتخلفه عن الجهاد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنفيذا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ارجع إليهما.

 

صور من حياة السلف في فعل الحسنات الماحية

وأوردت السنة أيضًا صورًا مجملة من الأعمال الصالحات الماحية السيئات، وتجد هذه الصور فيما رواه البخاري كتاب الشروط من صحيحه عن المسور بن مخرمة ومروان والشاهد منه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد تمام الصلح المعروف بصلح الحديبية وما فيه من شروط قاسية على المسلمين في ظاهرها ولكنها الفتح المبين في باطنها فقال عمر: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال بلى قلت فلم نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا إذًا؟ قال: \"إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري\". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: \"بلىº فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ \" قلتُ: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال: فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبيَّ الله حقًا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنيه في ديننا إذًا؟ قال أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق، قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به، قال عمر فعملت لذلك أعمالا\" ويقول ابن حجر: والمراد الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء، وقد ورد عنه التصريح بمراده بقوله (أعمالا) ففي رواية ابن اسحق \"وكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به\" وعند الواقدي من رواية ابن عباس \"قال عمر لقد أعتقت بسبب ذلك رقابًا وصمت دهرًا\"(7). وكل الذي حدث من عمر رضي الله عنه ليس شكًا في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ردًا للصلح الذي أبرمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه كما يقول ابن حجر أيضًا: هو توقف منه ليقف على الحكمة في قصة الصلح وتنكشف عنه الشبهة، وليس اعتراضًا من عمر رضي الله عنه الذي يشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله، فكيف حال الذين يشهدون ذلك بألسنتهم؟ ثم يقول: أن سنته والتمسك بها صورة من صور الرجوع إلى الوراء وعدم مسايرة العصر؟ أو يردون أحاديث من أصح أحاديثه بحجة أنها لا تتفق والنظافة والذوق العام كحديث وقوع الذباب في الطعام.

مما سبق يتبين لك أيها المسلم أن الحسنات المذهبة للسيئات متعددة ومتنوعة، كذلك السيئات التي تكفر محل خلاف بين أهل العلم هل هي الصغائر أم الكبائر لما في قوله - تعالى -: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم {النساء: 31}.

قال الشوكاني في تفسيره: اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها، فأما في تحقيق معناها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، روى هذا عن الإسفراييني الجويني والقشيري وغيرهم، قالوا: المراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سببًا لتكفير السيئات هي الشرك واستدلوا على ما قالوه بقوله - تعالى -: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {النساء: 48} قالوا هذه الآية مقيدة لقوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه....

وسئل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، وعنه أيضًا هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، وعنه أيضًا كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد(8).

وإذا كانت الحسنات تذهب السيئات فإن السيئات كذلك تحبط الصالحات كما في قوله - تعالى - يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى... {البقرة: 264}، يقول ابن كثير: الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقى ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى. وكقوله - تعالى -: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا {الفرقان: 23} ويقول ابن كثير: لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص وإما المتابعة لشرع الله فكل عمل لا يكون خالصًا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل.

وكقوله - تعالى -:.. لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين {الزمر: 65}، ولما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد\" فالطاعة التي ليس عليها دليل في كيفية ولا عدد ولا زمان ولا مكان في الكتاب والسنة مردودة وباطلة غير معتد بها، فالبدعة سيئة ذهبت بثواب الطاعة.

ولما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"قال الله - تعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه\"(9).

وعنه أيضًا: \"سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار\".

نسأل الله الإخلاص في السر والعلن والصدق في القول والعمل وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

________________________

الهوامش:

(1) اللؤلؤ والمرجان برقم 1758.

(2) اللؤلؤ والمرجان ص613.

(3) ابن كثير ج2 ص443، 445 بتصرف.

(4) اللؤلؤ والمرجان رقم 1448.

(5) فتح الباري برقم 3465.

(6) نيل الأوطار ج7 ص219.

(7) فتح الباري ج5 ص408، 409.

(8) فتح القدير ج1 ص457، 458 بتصرف.

(9) مختصر مسلم رقم 2089.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply