الثقة بالنفس


 

 

الثقة بالنفس أمر يكثر الحديث عنه بين الناس عامة والمهتمين بالنفس البشرية خاصة .ولا نستطيع هنا أن نتناول هذا الموضوع على أهميته بالتفصيل ولكن سوف نشير إشارات لعلها تبرز أهم صفاتها لتجسد لنا بذلك مفهوما يسهل معه التعرف على هذه النقطة النفسية التي تهم الجميع ، ولعلي أبدأ هنا بالتعريف بأشكال الثقة بالنفس وأصناف الناس فيها ثم أعرج إلى أهم مكوناتها وصفاتها .
والثقة بالنفس نوعان مثلها مثل كثير من الخصائص النفسية

إذ هناك : نوع فطري وهو أمر يولد مع الإنسان وتكون خاصية الثقة بالنفس مستقرة في تركيبته الشخصية مع أول يوم يهبط فيه إلى هذه الدنيا .
والنوع الثاني هو: نوع مكتسب بمعنى أن الإنسان يكتسب خاصية الثقة بالنفس أثناء نموه المبكر ونتيجة لتعامل والديه والمحيطين به في مختلف السلوكيات التربوية والذهنية التي يمر بها أثناء فترة التنشئة . وعلى هذا فيمكن تقسيم الناس هنا وفي مدى ثقتهم بأنفسهم إلى أربعة أصناف هي كالتالي :
الصنف الأول : وهم الذين لديهم خاصية الثقة بالنفس بالفطرة بمعنى أنهم ولدوا وهي مجبولة في شخصياتهم وفي نفس الوقت وجدوا في محيط جيد من الناحية التربوية من خلال الأسرة والمدرسة والجيرة وغيرها حيث قامت هذه المؤسسات بالدور المطلوب وسعت إلى تنمية هذه الخاصية لدى الطفل بالتشجيع وفتح المجال أمامه بدون كوابح محبطة ومهلكة لكل عمل ناجح يقوم به . هذا الصنف أو هذا النوع من الأطفال تكون الثقة بالنفس لديهم في أبهى صورها وأجل صفاتها ولذلك فإن النجاح غالبا بإذن الله ما يكون حليفا لهم سواء في حياتهم المعيشية أو في ممارساتهم وتعاملاتهم مع الآخرين ... لا بل إنهم غالبا ما يتميزون بصفة القيادة والسعي نحو معالي الأمور والابتعاد عن سفا سفها ولا يرضون لأنفسهم إلا بالمنازل العالية في إدارتهم لجميع شئون حياتهم .
الصنف الثاني : وهم الذين ولدوا وفيهم جبلة وخاصية الثقة بالنفس ، بمعنى أنها مفطورة في نفسيا تهم ، فهم هنا مثل الصنف الأول ، لكن المشكلة لديهم أن المجتمع المحيط بهم على مختلف مؤسساته بدءا بالوالدين والأسرة والمدرسة والجيرة والأصدقاء وغيرها ونهاية بالمجتمع الكبير الذي يوجدون فيه . هذا المجتمع المحيط بهؤلاء الأطفال أو الأشخاص قد يكون سببا في قتل أو على الأقل بتهميش هذه الخاصية لديهم من خلال المرور بالعديد من التجارب الحياتية التي يواجهون من خلالها التحطيم والاستهزاء والسخرية وكذلك قلة أو انعدام التشجيع والتحفيز لهم فيما يمكن أن يكونوا مبدعين في عمله . مثل هذه البيئة يمكن أن تكون سببا رئيسا في انعدام الثقة لدى الإنسان فينشأ مهزوزا مترددا حتى في اتخاذ أبسط القرارات لديه وهذه نتيجة مباشرة لتلك التربية التي مر بها .
الصنف الثالث : وهم الأشخاص الذين ولدوا ولم توجد لديهم فطريا خاصية الثقة بالنفس ولكنهم ولحسن حظهم نشئوا في جو متميز في تعاملاته معهم وملاحظ لهم ويهتم في تنمية شتى الخصائص النفسية الجيدة لديهم، فلديهم والدان يحرصان على تنمية شعور الثقة بالنفس ، يتقبلان منهم الأخطاء ويوجهانها لديهم، حريصان على ملاحظة مسلكهم في طريقة أدائهم لسلوكهم مع أنفسهم ومع الآخرين ، والخصائص الجيدة لديهم يحاولان تنميتها أما السيئة فيسعيان إلى تهذيبها فيهم حتى يتم التخلص منها . ويساهم هذا النوع من البيئة المحيطة بالطفل بشكل كبير جدا على زرع الثقة بالنفس وغيرها من الخصائص النفسية الجيدة ، حتى وإن كان الطفل قد ولد وهي غير موجودة في تركيبته العقلية والنفسية من الناحية الفطرية .
الصنف الرابع والأخير : وهم أولئك الذين لم توجد لديهم غريزة الثقة بالنفس فطريا بمعنى أنهم ولدوا وتنقصهم هذه الخصلة ولكن المشكلة الأكبر لديهم أنهم نشئوا في مجتمع كما المجتمع لدى الأشخاص من الصنف الثاني ، بمعنى أن الجو المحيط والبيئة التي يعيشون في كنفها بيئة ومحيط لا يعلم كيف يتعامل مع شخصيات وأطفال من مثل حالتهم ، إن انعدام الوالدين والمربين الحاذقين الذين يمكن أن يستشعروا ويكتشفوا مكامن الخلل لدى مثل هؤلاء الأطفال يميت فرص النجاح في إمكانية زرع الخصائص النفسية الجيدة لديهم فينشئون وهم آخر الركب في مسيرة الحياة ومع المحيطين بهم ، كثيرة مشاكلهم النفسية والاضطرابات الحياتية لديهم . هم من فشل إلى فشل آخر، غير راضين عن حالهم في أغلب الأحوال ، لا يحبون الاندماج مع الناس بل العزلة هي مكانهم المفضل ، تقل نسبة نجاحاتهم في حياتهم العملية فيما بعد بشكل كبير ، وقد يتطلب الأمر في بعض الأحوال إلى التعامل مع الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين إن لزم الأمر .
ومن منطلق التصنيف السابق لأنواع الناس وخصائصهم النفسية ندرك هنا مدى أهمية التنشئة التربوية والعناية الأسرية المطلوبة في تعاملها مع أطفالها . فلا يعني وجود الثقة بالنفس مفطورة لدى الإنسان أن الأمر كذلك وأنها لا يمكن أن تقل أو تنعدم بسبب نوعية التنشئة التي عاشها ذلك الإنسان في مرحلة الطفولة .
أيضا لا يعني انعدامها فطريا في مكمن النفس البشرية أنه لا أمل في زرعها في هذه النفس فيما بعد من خلال التربية السلوكية والتنشئة الأسرية .. لا بل هذا ممكن جدا ولكنه يتطلب كما ذكرنا جوا ومحيطا يدرك تماما مدى أهمية وإمكانية زرعها وإيجاد بذرتها لدى الطفل ومن ثم رعايتها حتى ينشأ وتصبح ناضجة ونامية مع نموه .
أمر آخر يتعلق بموضوع الثقة بالنفس ويجهله كثير من الناس حينما يتناولون مثل هذا الموضوع . هذا الأمر هو أن الثقة بالنفس هي منزلة رقيقة تقع بين منازل مختلفة في النفس البشرية والإفراط في الثقة بالنفس يمكن أن ينقلها من منزلتها إلى منزلة الغرور والكبر فتنتقل هذه الخاصية من أمر محمود إلى أمر مكروه ومذموم وللأسف فإن الكثير من الناس وبالتحديد أولئك الذين توجد لديهم ثقة مفرطة بأنفسهم يفشلون في ضبط هذا الفارق الرقيق والدقيق في نفس الوقت بين هذه المنازل فتجده يتكبر ويغتر وهو يظن أنما ذلك هو عين الثقة بالنفس .
وفي الناحية المقابلة وفي سبيل الإفراط في الهروب من هذا المنزلق نجد كثيرا من الناس وبدافع الرغبة في عدم الولوج إلى منزلة الكبر والغرور يبالغ في التواضع إلى حد منزلة الذل أو حتى ممارسة التواضع الكاذب وهو في الحقيقة عملية هروب وقلة في الثقة بالنفس تجعله يتكئ على خاصية التواضع وهي منه بريئة بل ضعف في الشخصية وانعدام في الثقة بالنفس أدى به ذلك إلى ممارسة هذا النوع من السلوكيات لأن التواضع الكاذب لم يكن أبدا حلا لضعف الثقة بالنفس .. لا بل الحل هو المكاشفة الصريحة مع النفس ومعرفة مكامن الخلل ومن ثم السعي الحثيث إلى التعامل معها لانتشالها مما هي قابعة فيه .
ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى تساؤل قد يطرحه بعض الناس وهو هل الثقة بالنفس شيء كلي أم هو متجزئ؟ بمعنى هل الإنسان الواثق من نفسه هو كذلك في جميع أموره وشئون حياته أو هو كذلك في بعضها وليس في كلها ؟ وكذلك عديم الثقة بنفسه هل تلازمه هذه الخصلة في جميع شئون حياته أم هي فقط عند ممارسته نوعا من التصرفات والسلوكيات ؟ وللإجابة على هذا التساؤل يجب أن نعود إلى الأصناف الأربعة من الناس السالفة الذكر وعلى ذلك فإن الواثق من نفسه هو غالبا على هذه الحال في جميع شؤونه إلا أن هذه الخصلة تختلف في قوتها وكمال هيئتها بحسب الظروف والمواقف التي يواجهها الإنسان ، فقد يجد الإنسان الواثق من نفسه تزعزعا واهتزازا في شخصيته لم يعهده منها ولكنه وبسبب موقف وتجربة كان قد مر بها أثناء الفترات الأولى من التنشئة جعل خللا لديه في أعماق نفسه ينفجر حالما يمر بموقف مشابه لذلك الموقف فتخور قواه وتهتز ثقته بنفسه نتيجة لذلك فيكون السبب هنا في الحقيقة ليس الضعف في الشخصية بقدر ما هو أثر ذلك الأمر البالغ الذي تركته تلك التجربة الطفولية السابقة .
وفي مقابل هذا النوع من الناس قد نجد إنسانا يغلب عليه انعدام الثقة بالنفس ولكنه في موقف معين نراه تبدو عليه أمارات الواثق المطمئن ولو تأملنا الأمر مليا لربما وجدنا ذلك الشخص قد مر بتجربة مماثلة سابقة وكانت آثارها طيبة جدا في نفسه من ذلك الوقت وكان قد أسترّ بها كثيرا ولذلك تركت هذه الحادثة في نفسيته ذلك الانطباع الجميل فأصبح يشعر بالسعادة والاغتباط والثقة بالنفس عند كل حادثة مشابهة حيث ينتقل معها من عالم العديم الثقة بالنفس ليتحول أثناء القيام بها وممارستها إلى إنسان مختلف تماما من الناحية النفسية .
ولذلك نكرر مرة أخرى ونحن نجد الأهمية الكبيرة التي تمثلها لنا في حياتنا وشخصياتنا و تركيبتنا النفسية تلك البيئة المحيطة بنا من أسرة ومدرسة وجيرة وغيرها من المؤسسات التربوية ضرورة التنبه إلى مدى مساهمتها في استقرار نفسياتنا وتنمية خصائصنا النفسية الجميلة .
حسنا ... وها نحن تكلمنا عن الثقة بالنفس وأصناف الناس فيها فإنه .. يتسنّى لنا الآن أن نسأل سؤالاً وهو كيف لنا أن نعرف الثقة بالنفس نفسها ؟ ما علاماتها ؟ وما أشكالها ؟ والسؤال أيضاً مطروح للنقيض من ذلك بمعنى كيفية معرفة انعدام الثقة وما أماراتها ؟ وهذه تساؤلات مهمة جداً وضرورية في نفس الوقت لأنها تسمح لنا وتساعدنا على تقييم ذواتنا لتصبح بذلك كالميزان لنا يمكن أن نعرض عليه صفاتنا وسلوكياتنا لنعرف درجة ثقتنا بأنفسنا .
وهنا يمكن أن نصف الواثق من نفسه اختصاراً بعدد من الصفات الجيدة كالإقدام وعدم التردد والقدرة على اتخاذ القرار وتحمل مسؤولية ذلك والاعتداد بالرأي وربما يصل الأمر بعض الأحيان إلى التصلب فيه ، لا يخاف من النقد ، ليس لديه حساسية زائدة تحسب للدقيق جداً من الأمور بل هم أهل هيبة للناس من غيرهم فلا يخشون المكاشفة والمصارحة في الأمور .
أما عديموا الثقة بالنفس فإن عملية اتخذ القرار هي من أصعب الأمور لديهم ، ليس عجزاً في حقيقة ذلك وإنما في الدرجة الأولى خوفاً من النقد وخوفاً من الآخرين وخوفاً من الوقوع في الخطأ ولذلك نجدهم دائماً ما يحرصون على إسناد مثل هذه الأمور إلى الآخرين ليكونوا في مأمن من تبعات ذلك وما يمكن أن تجرهم إليه . نجدهم دائماً ما يحاولون العيش في الظل وفي كنف أناس آخرين وليس في المواجهة أو في المقدمة .
هم حساسون بدرجة مفرطة ربما تمنعهم من القيام بالكثير من الأمور . الواحد منهم يحتاج إلى مدة زمنية طويلة ليتجاوز خطأ أو مشكلة تكون قد مرت به ، ويبقى أثرها عالقاً في نفسيته مدة ليست قصيرة .
التردد وضعف الشخصية واضحة في سلوكياتهم ، روح الانهزامية أسبق إليهم من الإقدام والصبر والتجلد على مواجهة الآخرين ، لا يستطيعون في بعض الأحيان المكاشفة مع الآخرين ، نفسيا تهم كثيراً ما تكون كتابا مغلفا وموصدا لا يعرف مكنونه غيرهم بعكس الصنف الأول الذين هم عبارة عن كتابٍ, مفتوح حيث ثقتهم بأنفسهم تحول بينهم والخوف من الآخرين .
هذه بعض من الصفات لكلا الصنفين لدينا وإن كنا ندرك أن الناس متفاوتون في درجاتهم فقد لا تجتمع الخصال الحسنة جميعها في الواثق بنفسه كما أنه يمكن أن لا تجتمع الخصال السيئة جميعها في عديم الثقة بالنفس وأصابع اليد كما يقال ليست متساوية بل فيها التفاوت وكذلك النفسيات البشرية ففيها من جمع المولى له أحسن الصفات وأجودها وأكملها ومنهم من جرّده منها ولله في خلقه شؤون وحكم عز وجل .
أما كيف ننمي الثقة بالنفس لدينا فهذا موضوع يمكن أن نتعرض إليه مستقبلاً إن شاء الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply