المصطلح والدلالة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

قال الفزاري:

غلام رماه الله بالخير يافعا  ***  له سيمِياءٌ لا تشقّ على البصر

وقال الجعدي:

ولهم سيما إذا تبصرهم   *** بيّنت ريبةَ من كان ســأل

السيمياء، والسيماء، والسيما، والسيمة، والسومة، لغةً شيءٌ واحد، وهي العلامـة.

وهي ألفاظ تؤول كلها إلى أصل واحد، يدلّ على أثر ومعلم. والتوسّم التفرس، وفي الكتاب العزيز: "إن في ذلك لآيات للمتوسّمين" (الحجر: 75)، وأيضا: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" (الفتح: 29)، وتوسّم فيه الشيء تخيله. واتّسم الرجل إذا جعل لنفسه سمةً يعرف بها.

فالقول بأن كل أصل لغوي يؤول إلى (وسم) يدل على العلامة، يلتقي مع الدلالة  المعاصرة لعلم السيمياء، الذي يعنى بنظام العلامة، كما حدده العالم السويسري فرديناند دو سوسير، وكما طوره من بعده علماء من أوربا وأمريكا. 

السيمياء، كما يقرر العلماء المعاصرون، علم يهتم بدراسة أنظمة العلامات: اللغات، أنظمة الإشارات، التعليمات، الخ..وهذا التحديد يجعل اللغة جزءا من السيمياء.

(السيمياء، بيار غيرو، ترجمة أنطوان أبي زيد، سلسلةزدني علما، 86، ص.5)

ورغم أن هذا العلم دخل إلينا بلفظه حديثا من الغرب، حيث شاع اللفظ الفرنسي

واللفظ الإنجليزي، (Sémiologie) (Semiotique)

 إلا أننا لا نريد التوغل لا في الجانب اللغوي ولا الاصطلاحي للكلمة، ولا في شعاب علم السيميولوجيا، وأن يكون هناك هذا الالتقاء التوقيفي أو التوفيقي بين الكلمتين العربية والأجنبية، لا فرق لا يلزمنا بالتقيد بغير ما نذرنا أنفسنا له، ولذلك حسبنا هنا الإشارة إلى أن صنيع الجاحظ لم يكن بعيدا عن الدلالة الحديثة للمصطلح وهو يتحدث عن الأنواع الخمسة للبيان، التي جعل منها الإشارة، وإلى أن الدلالة التي تضمنها البيتان المفتح بهما هما من حاق المراد هنا، فنحن لا نريد بسيمياء الأدب الإسلامي إلا ما يشير إليه اللفظ العربي لغة واصطلاحا، بالنظر إلى ما شهده من تطور عبر حوالي ثلاثة عشر قرنا من الزمان، ثم تحديد السمات، أي العلامات، التي تميز هذا الأدب عن غيره من الآداب، فكريا وجماليا، ولا شأن لنا هنا بالمنهج السيميائي لتحليل النص.

 

مدخــل

الصبّ تفضحه الكتابة

 في أواخر شهر شعبان من عام 1419 هـ، اتصلت بي السيدة أسمهان عمور، معدة البرامج الثقافية المعروفة، تقول: إن رمضان على الأبواب، وإنها تريد لبرنامجها محورا مناسبا لفضائل هذا الشهر العظيم، ولما كان البرنامج أدبيا لم أتردّد في القول: "ليكن الأدب الإسلامي محورا له"، وقد رحبت السيدة أسمهان بالفكرة، واتفقنا على أن تكون الحلقة الأولى حواراً معي، ولما أعادت الاتصال لتسجيل الحلقة ذكرت لي أن فلانا (قصاص معروف باتجاهه اليساري) طلب منها أن تسألني وقد علم محور الحلقة عن مفهوم الأدب الإسلامي خاصة، ذلك بأنه يعتقد أنه هو أيضا يكتب أدباً إسلامياً، ولاسيما روايته الأخيرة. وقد سارعت عندها إلى اقتناء روايته التي لم يكن قد مضى على نزولها إلى الأسواق غير فترة وجيزة. 

وقد ذكرتني هذه الحادثة بحدث مماثل وقع لي في إحدى دورات مهرجان الجنادرية، حيث عرفني الأخ الدكتور عبد المالك مرتاض بروائي شهير وعرفه بي، مضيفا أنني صاحب مجلة: (المشكاة). كنت أعرف طبعا هذا الروائي من قديم، ومنذ أهداني صديقي الأستاذ أبو القاسم بن عبد الله مجموعته القصصية الأولى، منذ حوالي ثلاثين سنة، وأعجبت بطريقته الفنية في الكتابة، وتوقعت منذ ذلك التاريخ أن يكون له شأن في الكتابة العربية، وقد كان. ولكنه كان هو أيضا من كتاب اليسار، ولذلك كان من الطبيعي ألا أرتاح إلى تصوراته في معالجة قضاياه الروائية، بالرغم من إعجابي بقدرته الفنية. وقد قال لي يومها في الرياض، حين علم أنني رئيس تحرير المشكاة: "أنا أيضا أكتب الأدب الإسلامي"، ولما لمح ابتسامتي الدالة على التطلع والاستفسار، لا على التعجب والاستنكار، أهداني رواية له، وكتب إهداءه وتوقيعه مشكورا ثم قال: "إنها رواية تعالج فترة من تاريخ الإسلام، وتتحدث عن ثورة القرامطة في العصر العباسي، وموقفهم من العدل الاجتماعي. أليس هذا من الأدب الإسلامي؟" 

لقد صار موضوع القرامطة موضوعا أثيرا لدى الأدباء المحدثين، من الشعراء والروائيين على السواء، ولكن طريقة المعالجة تختلف بينهم، ومعظمهم يميل إلى تمجيد الفعل القرمطي، حتى صاح أحدهم: "وأنا قرمطي، أولئك قالوا بمشاعة الأرض ومشاعة السلاح، ولكنهم لم يقولوا بمشاعة الإنسان، وأنا أيضا مع مشاعة الأرض ومشاعة السلاح، إلا أنني لست مع مشاعة الإنسان". وقليل ما هم من عمل على تجسيد الرؤية الإسلامية للقضية بمعالجة فنية متميزة وبطريقة متوازنة. ولعل أهم هؤلاء الأديب الكبير علي أحمد باكثير في روايته الخالدة: (الثائر الأحمر). مع تحفظ بيّن على بعض المشاهد المثيرة في هذه الرواية. 

أوردت هاتين الحادثتين لأمور، منها:

 1- إن الأدب الإسلامي، مصطلحا وواقعا، كان لا يثير في فترة من الفترات عند قطاع كبير من المتأدبين، ولاسيما المحسوبين على التيار العلماني، غير السخرية حينا والاستنكار ومشاعر الضيق والتبرم أحيانا، كان ذلك منذ ربع قرن أو يزيد، ثم ما لبث الأدب الإسلامي أن صار راسخ القدم في أدبنا المعاصر، وحقيقة ثابتة في واقعنا الأدبي، ولم يعد موقف التجاهل والاستنكار، أو الجحود والإنكار، مقنعا ولا مجديا، وستعرف الكتابات المتشنجة التي تعارض الأدب الإسلامي مصيرا ليس أقله الإهمال. وقد انتقل بعضهم من صف الاستهجان إلى التساؤل إلى القبول إلى التبني. وككل ظاهرة جديدة تبدأ شيئا يثير العجب والتساؤل، ثم ما يلبث أن يألفه الناس ويرتاحوا إليه، كذلك كان حال الأدب الإسلامي المعاصر، إبداعا ونقدا. 

2- كان يُنظر إلى موقف دعاة الأدب الإسلامي، جهلا أو قصدا، على أنه موقف انعزالي طائفي، يريد أن يمحو من الخريطة الأدبية أسماء كبيرة من حقل الأدب العربي، ولعل بعضهم الآن عرف أن معظم تلك الأسماء هي أصلا تدخل ضمن دائرة الأدب الإسلامي نفسه، حتى وإن لم يحمل أصحابها شعار الأدب الإسلامي، وإلا فقل لي بربك كيف تميز، ضمن الرؤية الفنية الإسلامية، بين العمرين: عمر أبي ريشة مثلا وعمر بهاء الدين الأميري؟ 

3- ينمّ ذانك الموقفان عن جهل بحقيقة الأدب الإسلامي من جهة، وعن تحول في الرؤية من جهة أخرى، فبعض من كان ينكر، إلى عهد قريب، على دعاة الأدب الإسلامي دعوتهم، يود لو أن أدبه، أو بعضه على الأقل، يدخل في نطاق الأدب الإسلامي. وليس من باب إفشاء الأسرار إن ذكرت أن بعضه أولئك بعث إلي، من مصر، فضلا عن المغرب، يسأل عن سبيل الالتحاق برابطة الأدب الإسلامية العالمية. 

4 - والحق أنّ هذا هو الصواب، لو تأملوا، فالأدب صورة عن صاحبه كما هو معروف، والأدب الرفيع يعبر دائما عن رؤية صاحبه إلى الوجود، مهما يكن الغرض الذي يتناوله. ولذلك كان من الطبيعي ألا يصدر عن الأديب المسلم النقي الفطرة إلا الأدب الإسلامي، كما أنه لا يصدر عن الوجودي إلا الأدب الوجودي، ولا عن الماركسي إلا الأدب الماركسي، ولا عن النصراني إلا الأدب النصراني. هذا ما تنطق به النصوص ويؤيده الواقع، ودعك من تخرصات المتخرصين وتأويلات المبطلين. فإذا أصاب فطرة المسلم انحراف ما، انعكس ذلك على سلوكه وعلى إبداعه معا، وأخرج للناس أدبا منحرفا عن الفطرة، أي عن الإسلام. 

لم تعد العلاقة بين الأدب والدين، وأكاد أقول بين الأدب والإيديولوجيا، مثار نزاع أو جدل بين الناس، ولا يماري في ذلك إلا من لا يعرف حقيقة الأدب وحقيقة الدين، ولا يعرف تاريخ الآداب الإنسانية وعلاقتها بالدين. وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر الآن أن الآداب نشأت أصلا في أحضان الدين، كيفما كان ذلك الدين؟ وهل يقدر الجاحد أن يجحد أثر الدين في ملاحم اليونان ومآسيها وملاهيها؟ أو أن يفصل بين ملاحم الهند القديمة وبين كتبها المقدسة؟ ولم يكن أدبنا العربي القديم بدعا بين الآداب، وهذه المعلقات، سواء أصح خبر تعليقها على أستار الكعبة أم لم يصح، شاهدة على تلك العلاقة. فإذا أضفت إلى ذلك كله حديث العرب عن القوى الخفية التي توحي إلى الشعراء زخرف القول، من الشياطين والجن، والحديث عن وادي عبقر وما يتصل به، ثم ما حدث للعرب أنفسهم إبان الدعوة الإسلامية الأولى من حيرة الذهن وتشتت الفكر واضطراب الرأي حول ما يصفون به القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه، فلم يهتدوا إلا أن يربطوه بالشعر والسحر والكهانة، ازددت يقينا بما نقول. 

ولا يقولنّ أحد إن ذلك أمر كان وانقضى، فلم يزل للدين حتى اليوم سلطانه على آداب الأمم والشعوب، ولم تستطع الدعاوى الإلحادية بجميع صورها بتر هذه العلاقة أبدا. والأدب الإلحادي في الحقيقة نتيجة الدين، لأنه نتيجة موقف من الدين، وقد انتقل ألبير كامي في دعوته وفلسفته الوجودية الملحدة من القول باللادين،

 إلى القول بمناهضة الدين، la non religion

 والفرق بينهما واضح جلي. ;l’anti-religion

وحسبك أن تلتمس أثر الدين في كبار أدباء العالم لترى ذلك جليا بيّنا. وارجع إن شئت إلى محمد إقبال وطاغور وكوته وبرخيس وأحمد شوقي وميخائل نعيمه وتولستوي وبوشكين ومحمد عاكف ومرال معروف و ت. س. إليوت وبول كلوديل وسواهم تر العجب العجاب من أمر الدين وأثره في آداب العظماء.

ومن هنا كان المنطلق السليم هو البحث عن الأدب الإسلامي في ذلك القدر الأدبي الهائل الذي ينتجه المسلمون، بالعربية، وبغيرها من لغات الشعوب الإسلامية، دون استبعاد أولئك الذين لبسوا، لسبب أو لآخر، لبوس العلمانية بوجوهها المتعددة والمتناقضة في بعض الأحيان، ماداموا لا ينكرون انتماءهم للإسلام ولا يعلنون انسلاخهم عن هويتهم الحضارية، حتى وإن حطبوا في حبل غير حبل المشروع الإسلامي، بل ما دام كثير منهم يغضب إن أنت طعنت في إسلامه تصريحا أو تلميحا، وهو أمر على كل حال لا يجوز صدوره عن مسلم مستنير، إذ كثيرا ما يستيقظ في النفوس نداء الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فتزول تلك الغشاوة السطحية التي التصقت بجلودهم دون قلوبهم، فإذا أدبهم إسلامي الملامح، مستجيب لخصائصه المعنوية والفنية، واقرأ إن شئت من شعر بدر شاكر السياب: (أيوب)، أو أمام باب الله)، أو من شعر محمد الفيتوري: (يوميات حاج إلى بيت الله الحرام)، أو اقرأ حتى قصيدة محمود درويش: (عابرون في كلام عابر)، وإن غضب الغاضبون وتنطع المتنطعون، والمتنطعون هلكى.

لقد خضت تجربة تتمثل في دراسة عدد من النصوص الأدبية، في الشعر والسرد، خارج دائرة ما يسمى دائرة (الإسلاميين)، وهي تسمية ما فتئت أردد أنني لا أرتاح إليها كثيرا، لأنها تسمية تكاد تشق المجتمع نصفين، بالرغم من أن كثيرا ممن لا يصنفون داخل هذه الدائرة يتحركون من داخل دائرة الإسلام، ولكن في إطار اجتهادهم الخاص، ولا أرضى غير التسمية التي رضيها رب العزة - تعالى -لعباده حين قال: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين). (فصلت: 33)

وقد كان نتيجة تلك التجربة أن أخضعت النصوص للدرس والفحص من أجل بحث الملامح الإسلامية فيها، فإذا كثير منها يستجيب استجابة رائعة للغرض الذي رسمته. وقد شجعني على هذه الخطوة اعتقادي الجازم أن كل من ينتمي إلى الإسلام ولو حضاريا، كما هو شأن مارون عبود، فضلا عن الانتماء الديني، لا بد أن يصيبه من أثر القرآن الكريم شيء، إذ القرآن الكريم غلاب، ولـيُغلبنّ مغالبُ الغلّاب، كما قال كعب بن مالك - رضي الله عنه -.

لقد تناولت منذ وقت مبكر، أي منذ حولي ربع قرن من الزمن، عددا من قصص الأديبة الرائدة خناثة بنونة التي جعلت من القضية الفلسطينية محورا لها، فإذا بها تقدم لنا أدبا رفيعا ينطلق في رؤيته للوجود والأشياء والفن من الإسلام في وضوح كاشف. فهل كان من اللازم أن تعلن هذه الأديبة الأصيلة أنها تكتب أدبا إسلاميا حتى نسلّم بأن أدبها أدب إسلامي؟ أم تلك مهمة النقد؟ (1)

 ووقفت عند نص شعري متميز للشاعر الراحل عبد الله راجع، عنوانه: (أعلنت عليكم هذا الحب)(2)، وبيّنتُ وقوف الشاعر في هذه القصيدة ضد كل أنواع الانسلاخ الحضاري، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، برؤية جمالية فائقة تفضح الضحالة الفنية التي تتردى فيها بعض النصوص التي تنشر تحت لافتة الأدب الإسلامي، وهي لحسن الحظ استثناء في باب الأدب الإسلامي وليست قاعدة.

 ثم كانت وقفة أخرى مع ديوان أحمد المجاطي لإبراز ما أسميته الارتباط الحضاري(3) في شعر هذا الشاعر المتميز، الذي لو أتيح له أن يشفع الجودة بالكثرة على مذهب ابن سلام - رحمه الله - لكان له شأن وأي شأن في خريطة الشعر العربي المعاصر، وإنما قصر به قلة ما بأيدي الناس من شعره.

 نعم، ليس كل أدب أولئك إسلامي المنزع، بل ربما كان الأدب الإسلامي عند كثير منهم محدودا، والأدب الإسلامي بمفهومه الجمالي عزيز المنال، وأكاد أقول مع الناقد الرائد محمد قطب إن الأدب الإسلامي في صورته البشرية المثلى شيء لم يوجد بعد في تاريخ الإنسانية، لأننا نطمع دائما إلى مزيد من الارتقاء، ولأن المثال فيه إنما هو، بعد كتاب الله - عز وجل -، جوامع الكلم الصادرة عن المعصوم محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولكن ذلك لا يمنعنا من مواصلة العمل في البحث عن إسلامية الأدب في ذلك التراث الضخم المنتج قديما وحديثا.

 وربما هدتنا القراءة إلى أن نضع أيدينا على ظاهرة قد تبدو للوهلة الأولى مستغربة، وهي أن كثيرا من الأدب الذي أنتجته أمتنا بلغاتها المختلفة - في العصور الحديثة التي تعرضت فيها لابتلاء الاستعمار، هو أدب مصادم لروح الحضارة، ولروح الإسلام، وأدب منحرف عن مبادئ الإسلام، ولكن ينبغي ألا ننسى الظروف العامة التي رافقت ميلاد ذلك الأدب، وهي ظروف مكنت لأنظمة الجور أن تتسلط على الشعوب، وفي ظل تلك الأنظمة شاعت الأفكار المنحرفة والمذاهب المستوردة، وتمكنت من السيطرة على مواقع القرار، وعلى المؤسسات السياسية والثقافية، فزينت الباطل، وضلت كثير من الأقلام التي كان ينتظر منها ويتوقع أن تكون رائدة للأمة، ولكن الأمة بقيت محافظة في مجملها على جوهرها الصافي وضميرها الحي ووجدانها النقي، حتى إذا بدت في الأفق تباشير الصحوة رجع الناس إلى رحاب الله أفواجا، وتفيأت الأقلام ظلال الإيمان، ووقع التحول المعروف عند عدد من أعلام الفكر والأدب أيضا، وهو تحول لم يفهمه بعض المتخندقين داخل الفكر المادي المتشنج المنهار، فراحوا يَسِمون الآيبين إلى الله، بالردة الفكرية والأدبية، وهو سلوك غير مبتدع، فقد سبق الأولون إلى رمي الفئة الأولى من المومنين بشيء من ذلك عندما وسموهم بالصابئة، فكان كل من اهتدى إلى الرشد عندهم صابئا.

 في عام 1988م، قدّمتُ إلى: (ندوة مناهج العلوم الإسلامية وخصوصيات المدرسة المغربية)، التي عقدت بكلية الآداب بوجدة، بحثا عن الشعر المغربي المعاصر والنص القرآني، مبرزا طريقة تعامل الشعراء مع كتاب الله - عز وجل -، فكانوا ثلاثة أصناف: صنف يستفيد من النص القرآني الكريم في حدود بنيته الفنية لخدمة النص الشعري، وصنف يتعامل مع روح القرآن الكريم، ويؤكد بذلك الرؤية الإسلامية، وآخر يمثل تعامله مع النص القرآني الكريم نوعا من العدوان السافر الذي اجترحته كثير من النصوص الشعرية على كتاب الله - تعالى -، عن طريق السخرية الفاضحة أو القلب المعنوي أو اللفظي، مما مثّل جرأة على الله - عز وجل - ما وجدنا لها مثيلا من قبل. وقد حشدت لهذه الظاهرة من النصوص ما جعل الدكتورة بنت الشاطئ - رحمها الله - تعالى -تُضمّن ثناءها على البحث عجباً من تلك الوفرة الوافرة من النصوص المنحرفة.

 ولما تابعت هذا الطريق، في لقاء ثقافي شهدته دار المغرب بباريس، عام 1992، التفت إلي أستاذ كريم من المشاركين تربطني به علاقة منذ سنوات الطلب في الجامعة، وقد كان وما يزال مناضلا في صفوف اليسار، وإن صار الآن أكثر اعتدالا وتوازنا في خطابه، وهو من المنصفين، وقال لي في نوع من التحسر:

 "إتّك بهذا تنكأ جراحا تكاد تندمل.. إن كثيرا من أصحاب هذه النصوص قد أقلعوا عن هذا النهج واتخذوا سبيلا أخرى"، وقد استيقنت أنه كان لي ناصحا، فأعرضت عن نشر البحث وما جرى مجراه، ولاسيما بعدما جمعتني بعد ذلك مناسبة، في ملتقى شعري بفاس، بأحد هؤلاء، وكان من أشد الناس غلوا في تناول الدين والذات الإلهية بسوء، وشاء الله - تعالى -أن نتقاسم معا غرفة واحدة خلال إقامتنا، فإذا به يطلب مني سجادة الصلاة، ويتوجه إلى ربه.. قلت له بعد أن فرغ من صلاته: لك أن تحتفظ بالسجادة، فقبلها وقال: ستظل عندي ذكرى طيبة.

 إن الهزات التي تصيب المجتمعات لا يسلم منها الأفراد، وهل المجتمعات إلا مجموعة أفراد؟ وليس الأدباء والمفكرون في ذلك بدعا بين الناس، وكما أن هؤلاء قد يكونون مبشرين بالتحولات الاجتماعية وممهدين لها بما يكتبون، كذلك هم يتأثرون أيضا بهذه التحولات، ويظهر أثر ذلك التحول فيما يكتبون، وإن كان بدرجات متفاوتة، إلا أنه قلما ينجو أديب أو مفكر من قبضة تلك التحولات.

 ومما لا شك فيه أن التحولات الكبرى المتمثلة في حركات الأديان أو الحركات الثورية الحقيقية هي أبلغ خطرا وأشد أثرا من تلك التحولات الناتجة عن بعض الحركات المحدودة المتمثلة في الانقلابات العسكرية، وإن لبست هذه الحركات لباسا ثوريا، إلا أنه يظل في كل الأحوال لكل فعل اجتماعي أثر ما في الحركات الثقافية بوجه عام، والأدبية بوجه خاص، إلا أن هذه التحولات الثقافية والتغيرات الأدبية ربما احتاجت إلى فترة من الزمان حتى تختمر وتؤتي أكلها. والأدب العربي بعد الإسلام شاهد على ذلك. إنه ليس صحيحا قط ما يقال من أن الإسلام لم يؤثر في الشعراء، فضلا عن القول بأنه أثر تأثيرا سلبيا، فضعُفَ الشعر في صدر الإسلام. إن أثر الإسلام في الشعر بخاصة، وفي الأدب بعامة، ظاهر جلي منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهل يعقل أن يتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنفسه شعراء يذبون عن الدعوة ويبشرون بقيم الإسلام الجديدة لو كان ذلك الشعر ضعيفا، أو كان شعراؤه مفحمين؟ ولكن التغير العميق الذي جعل الأدب يطبع بطابع الإسلام لم ينكشف إلا بعد مجيء الإسلام بفترة، وذلك ما لاحظه ناقد إسلامي فذ، هو ابن خلدون، الذي قرر (أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم... والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوا من الكلام العالي الطبقة) (4).

 ولقد تحدث طه حسين عن التحول الذي أصاب المجتمع المصري عقب حركة ما سمي(الضباط الأحرار)، ويسميه طه حسين في حديثه ثورة، فقال: "ويزعمون أن أدب الثورة لم يوجد بعد مع أن الثورة قد شبت منذ أكثر من عام، كأن الأدب شيء يكفي أن يقال له كن فيكون، أو يقال له تغير فيتغير بعد يوم وليلة. إنما تغير الثورة أول ما تغير نظام الحكم وأوضاع الحياة العامة، وما يحتمل التغيير من الصلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الناس. فأما الطبائع والنفوس والأذواق والعقول فيحتاج تغيرها إلى وقت طويل جدا لا يحصى بالعام وبعض العام، وإنما يحصى بالأعوام الطويلة المتتابعة... إن الأدب يمهد للثورة وينشئها ويشب جذوتها في النفوس بما يلقي في قلوب الناس من الآراء الجديدة، وبما يصور لعقولهم من القيم المستحدثة... ويكفي أن نذكر أن الإسلام لم يغير الشعر العربي الجاهلي تغيرا خطيرا إلا بعد ظهوره بنصف قرن، وأن الثورة العباسية كانت نتيجة الأدب الأموي، ولم تنشئ أدبها العباسي الخالص إلا بعد أكثر من نصف قرن.

وقل مثل ذلك في الثورة الفرنسية.. مهد لها أدب القرن الثامن عشر، ولم تنشئ أدبها إلا في أواسط القرن التاسع عشر. "(5)

 هذا، وبالرغم من أن كثيرا من العلمانيين ما يزالون يحتلون مواقع القرار السياسي والثقافي، إلا أن التحولات الكبرى لا تخضع للقرارات، فالتحولات العميقة التي تشهدها مجتمعاتنا الإسلامية، ومقومات الرٌّجعى البادية في صفوف الأمة، من شأنها أن تصحح الموازين بصورة شاملة، ومن شأنها كذلك أن تجعل الأدب والفكر ينال نصيبه غير منقوص، فيزول ذلك الفصام النكد بين دين المجتمع المسلم وأدبه، كما يقول الدكتور عبده زايد، ويومها لا يملك الأديب المسلم إلا أن ينتج أدبا إسلاميا، إذ ما تزال المقولة القديمة: "الأدب صورة عن صاحبه" مقولة صحيحة في كثير من جوانبها، وإذا كان شوقي يقول: (الصب تفضحه عيونه)، فإنه يمكننا القول، ونحن في مجال الحديث عن الأدب: "الصبّ تفضحه الكتابة".

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply