المسؤولية في العمل الإسلامي .. بين التهافت والمبالغة في الاعتذار


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

آفتان في العمل الإسلامي، إن لم ينتبه لأمرهما، وتستنفر الطاقات لعلاجهما، قد تنتقلان مع مرور الزمن من حالات فردية معزولة إلى ظاهرة يستشري ضررها، ويعم خطرها ليأتي على بعض مقاصد العمل بالنفي أو التعطيل أو التشويه أو الإضعاف.إنهما آفتي: التهافت على المسؤولية أو المبالغة في الاعتذار عنها، وأكثر ما تبرز الأولى في العمل السياسي والنقابي، والثانية في الحركة التي تخصصت في قضايا التربية والدعوة والتكوين.

 

وإذا كانت الآفة الأولى قد عرفت شيئا من التحرك لمحاصرتها بأدبيات التذكير بعظم شأن المسؤولية عند الله - عز وجل -، وبأنها إن أخذت بغير حقها أو كان التعمد بالإخلال بمقتضياتها، تكون يوم القيامة خزيا وندامة، وبأن المكلف بها يعان، ومن تشوف إليها قد يترك وجهده، والتذكير أيضا بتهذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاء يطلبها بمثل ما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: \" دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: (إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه).

 

فإن آفة الاعتذار عن تحمل المسؤولية داخل الحركة الدعوية والتربوية، لم تلق بعد نفس العناية والاهتمام، وهي آخذة في التوسع والانتشار، حتى قال بعضهم في مثل ما يسود في حركة التوحيد والإصلاح: يوشك أن تصبح جماعة المعتذرين، فمن خالط جموعها العامة المخصصة لتجديد القيادة فيها سواء في مستوياتها العليا أو الدنيا، بقدر ما يفرح بأجواء الشورى والشفافية فيها، يخشى على مستقبلها بانسحاب الأقوياء واعتذارهم ليفسحوا المجال لغيرهم، بما يهدد بضعف الأداء ونقص الفاعلية. وقد يتلبس الاعتذار بمعاني الزهد أو التواضع أو الإشفاق من ثقل المهام وصعوبتها مع ظواهر الليونة التنظيمية وضعف الالتزام بالطاعة والانضباط في المنشط والمكره، أو دعاوى التفرغ لما يظهر للمرشح أنه أولى، أو لأسباب صحية أو أسرية أو غيرها..

 

والحال أن المسألة بحاجة إلى روية وعمق تفكير، للنظر في الوجه الآخر لمثل هذه المسؤوليات، حتى تبقى فقط العوائق الموضوعية التي قد تضر فعلا بتلك المسؤولية.

 

فبخصوص الزهد ميز النبي - صلى الله عليه وسلم - بين من جاء يطلب مسؤولية الولاية على الناس بما فيها شؤونهم الدنيوية، كما في حديث أبي موسى الأشعري، وبين من جاء يطلب إمامة الصلاة في الشأن الديني المباشر، فهذا عثمان بن أبي العاص كما صح في السنن، جاء يقول: (يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتدي بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على آذانه أجرا). ووصف الله دعاء المتقين بقوله: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}، فطلبوا أن يكونوا رؤوسا في التقوى يقتدي بهم الناس، والحال أن مسؤوليات الحركة ينتدب إليها ويختار وينتخب مسؤولوها ولا يطلبها أحد.

وكما يقول الشيخ فهد بن سلمان العودة في محاضرة نفيسة له حول \"الحيل النفسية\" وهو يعلق على الآية السابقة: \" لا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده، واجعلنا للمتقين إماما، ثم يُطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة أو إصلاح أو قيادة أو توجيه أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول: لا أستطيع …لا أستطيع. لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت: {واجعلنا للمتقين إماما} ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين\".

 

ويرى البعض الورع فقط في الترك أي ترك المسؤولية، وهذا وإن كان صالحا ومطلوبا أحيانا وخصوصا في أمر تخالطه الشبهات، فإنه في قضايا الدعوة غير مناسب التعلل به، فمثله: كمن يرى ثغرة في الصف الأول للصلاة فيؤثر بالتقدم غيره، والحال كما هو معروف عند الفقهاء من القاعدة الجليلة في مثل هذه المواطن \"لا إيثار في القربات\" فهي محل المبادرة وحتى المنافسة ابتغاء الأجر والثواب. فالورع أحيانا في فعل الشيء، لا في الاعتذار عنه، وخصوصا ما يشتبه أن يكون واجبا عليك كشؤون الدعوة والقيام بمهمة الإصلاح وقيادة من انتدب نفسه لذلك.

 

ولا تستحضر فقط الخوف والإشفاق من التقصير في القيام بالمهام وإنما أن تستحضر معه مقدار الأجر والثواب والعدد الهائل من الحسنات التي تحصلها من ثمار عمل وحركة إخوانك بما يكون لك من تحفيزهم وتوجيههم وإدارة شؤونهم من غير أن ينقص من أجورهم وحسناتهم شيئا. ففي حديث أبي هريرة كما في صحيح مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) وجاء في حديث جرير بن عبد الله البجلي: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) وعموما فالدال على الخير كفاعله.

 

وقد يختلط الأمر أيضا على المعتذر عن المسؤولية فيتصور أنه ليس بوسعه القيام بها، ويعتذر بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، والحال أن الوسع وسعان: وسع صادقº وهو الوسع الذي وهبه الله للإنسان، والذي سيحاسبه عليه. ووسع دون ذلك، وهو الذي ربما يدعيه الإنسان لنفسهº ليسوغ تقصيره ورغبته في الخلود إلى الراحة والانشغال فقط بهمومه وقضاياه بدل هموم الأمة وشؤون الدعوة.

 

فالمؤمن يعوذ بالله من العجز، ومن الفرار من الزحف، بل يقتحم الصفوف الأمامية، لينال ما قدر له من أجر مقارعة الفساد والعلمنة والخرافة والغلو وجميع أشكال الانحراف عن الصراط السوي.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply