كيف يواجِه المسلمون المستقبل؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد

فيقول الحق - تبارك و تعالى -:

{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ* وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال:24-25).

وإنه ليُسعدني- أيها الأحبة- أن ألتقي بكم عبر هذه الكلمات، لقاءً إيمانيًّا، نجدِّد فيه العهد مع الله- عز وجل -، والولاء لرسوله- صلى الله عليه وسلم -، ونؤكِّد فيه عزمنا الصادق القويّ، على متابعة السير في طريق الإسلام، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن... {وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,} (فصلت:34-35).

 

إنَّ الداعيةَ مكلَّفٌ بإصلاح كلِّ عمل، وعملِ كلِّ صالح، وهو إنسان ناشط دؤوب، لا ينقطع له عمل، في بيته، أو في الشارع، أو في عمله، أو في المسجد، أو في الحقل والمصنع..، يواصل العمل على شتَّى الساحات، ورغم أن الكفاح كدحٌ مضنٍ,، لكنه لا يُحجِم عن البذل والتضحية والعطاءº لأنه حريص على رضا الله، والفوز بثوابه وأجره.. {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: من الآية36).

وتصبح الخاصية الأولى للأمة العاملة لبلوغ أهدافها، الملتزمة بالمضيّ على درب السلف الصالح من روَّادها ودعاة الخير فيها...، أنَّها غيورة على الحقيقة، لا تطيق تشويهها، أو إغفالها، أو طمس معالمهاº ومن أجل ذلك فهِي لا تسكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أجل هذا كانت الخاصية الأولى في الدولة الإسلامية أن تُرِي الأمم الأخرى آفاق الخير الذي تدعو إليه، وأجواءَ الحرية التي تتحرك فيها، وأجواءَ الأمن والطمأنينة التي تعيشها، ومستويات العلم الذي تسخِّره للخير والنفع على مستوى البشر، وأنماطَ الأخلاق والقيم التي تحكم السلوكيات والسياسات، وتضبط التصرفات والعلاقات ونماذج الكرامة والعزة التي ترفض الضيم، وتتصدى للظلم، وتقهر الظلام، وتقيم العدل والمساواة والإنصاف.

 

إنَّ أول ما أصاب النفس البشرية من عطب هو توهّمها أنَّ الصالحات لا تعدو رسوم العبادة المروية، فإذا أحرز المرء نصيبًا منها، وأراد المزيد كرر الصلاة، وكرر القراءة، وهو لا يعرف صالحات غير ذلك، ولا يدري أن ميدان الصالحات يستوعب حركات وسكنات وأنفاس الإنسان، ويحولها إلى قوى تدعم الخيرº لأن الصلاح تغيير نفسي شامل يفرض على صاحبه حب الكمال والرغبة في الإحسان، وهو يعيش في الدنيا من خلال فهم صحيح وإدراك سديدº ليكون كما وصفه الله سبحانه.. {وَمَن يُسلِم وَجهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (لقمان:22).

 

وإنَّ مستقبل العالم العربي والإسلامي مرهون بمدى قدرة المسلمين على العودة إلى منهج الله، وأن يكون الإسلام محور حياتهم، ومصدر عزتهم، وأن يكون نشيدهم الدائم- حكومات وشعوبًا- الإسلام عزٌّنا، الإسلام حياتُنا، وإن مهمة وغاية الدعاة إلى الله- الذين يفقَهون ويعرفون دعوتهم حق المعرفة وينهضون بواجب هذه الدعوة حق النهوض- هي عبادة الله وطاعته.. والعمل في سبيل التمكين لدينه وإعزاز شريعته، وهداية البشر إلى الحق، وإرشادهم إلى هذا الخير، وإنارة العالم كلّه بشمس الإسلام.

 

وقد فصّل الله- سبحانه - هذه المهمَّة والغاية في قرآنه الكريم في سورة الحج بقوله- وهو أصدق القائلين-: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ* وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ, مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ* فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولَى وَنِعمَ النَّصِيرُ} (الحج: 77-78).

 

وفرض على الجميع- اليوم وغدًا- عدم الرضا بهذا الاستعمار والاحتلال والهيمنة، وكلٌّ أمر يخالف أصلاً شرعيًا لابد من تحديه والوقوف أمامه، إنَّ التحدي للواقع هو الحقل الذي تنبت فيه البذرة، وسوف تتحول إلى نبتة، والنبتة تتحول إلى شجرة تقوَى وتزدهر، وتنضج وتثمر، إذا وجدت من يسهر على رعايتها، والعناية بها، يقول الحق- سبحانه- لسيد الخلق- صلى الله عليه وسلم -: {فَاصبِر إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقُّ وَلا يَستَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (الروم:60).

 

لقد حدد الله للأمة أهدافها وسبلها لبلوغ هذه الأهداف في قوله: {الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41)، ولن تعرف الأمة العزَّةَ والكرامة، والحرية والأمن والطمأنينة، ولن تكون لها الريادة والشهادة على الآخرين إلاَّ يوم أن تضع هذه الأهداف وهذه الوسائل نصب العين، وملء القلب، دون أن يشغلها شاغل عن الأعداءº لبلوغ الأهداف، مع الالتزام بالمضيّ في هذه السبل.

 

إن عمل الخير، والدعوة إلى الخير سمةُ الأمة الظاهرة، ومكانتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشُهرتها التي ملأت الآفاق على مدى عصور، وإجابتُها حين تُسأل عن منهجها ووظيفتها وغايتها.. {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوا مَاذَا أَنزَلَ رَبٌّكُم قَالُوا خَيراً لِلَّذِينَ أَحسَنُوا فِي هَذِهِ الدٌّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دَارُ المُتَّقِينَ} (النحل:30)، وما يُنتظَر من أُمَّة تحمل رسالة السماء، وتتبنَّى ذلك الحق إلاَّ أن تكون حارسةً للشرف، مترفِّعةً عن الدنايا، متواصيةً بالرحمة، منظورًا إليها محليًا وعالميًا بأنها سنَدُ المظلوم، وجارُ الضَّعيف.

 

ومن أشدّ وأخطر ما تعاني منه الكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم- وأصبح يهدد مستقبلها- مظاهر الظلم، وغياب القانون، وفقدان العدل، والاستبداد السياسي، فمِن أهم المطالب للأمة كلها، توفير الحريات، وحفظ الحقوق، وصيانة كرامة الإنسان، وتوفير الأمن والأمانº لأن فقدان هذه الجوانب يسبب شللاً للإنسان، فاليد المرتعشة لا تستطيع أن تبني أو تعمّر أو تحارب، إلاَّ وهي آمنة مطمئنة، وهذه الجوانب من أهم المطالب الشرعية، ومن أهم ما قامت عليه رسالة الإسلام- القيم النبيلة، والمثل الأخلاقية-، فإذا غابت أو اهتزَّت حدثت نكسةٌ للإنسان، وهذا ما حدث فعلاً.

 

ويجب أن توقن حكومات العالم العربي والإسلامي والشعوب العربية والإسلامية أن خطر الصهيونية لا يقف أبدًا عند سلب جزء من بلاد الإسلام، وإنما يهدد الوجود العربي الإسلامي، من أوله إلى آخره، فهو سرطان خبيث، ولن نقف أمامه إلا بالعقيدة، والإيمان بحقنا، والجهاد في سبيل الله، ورفضه رفضًا تامًا، والاستعلاء على هذا الباطل، المعتدي على الأمة، المحتل لأغلى بقعة فيها، ورحم الله من قال:\"أقيموا دولة الإسلام في صدوركم تقُم على أرضكم\"، ومواجهة التضليل الإعلامي الموجَّه والمدروس، الذي أصبح يشكّل عقول المسلمين، ويحاول الوصول إلى أهدافه الخبيثة... من محاولات تخدير الأمة، وإلهاء الشباب، وصرفهم عن التفكير في واقعهم أو مستقبلهم، وللأسف الشديد فقد أصبح البعض يقبَل المبررات التي يخدعه بها الأعداء، والبعض يستسلم لها في صمت.

 

هناك وسيلة أخرى من وسائل التضليل الإعلامي يجب الحذر منها، وهي المساعدة على الابتعاد عمليًا عن مواطن الأحداث، فلا يكترث البعض بما يحدث، ولا يهمه ما يفعله الوحوش المفترسة التي تمتص دماء إخوانه وأهله، وتراه يقضي حياته لاهيًا عابثًا في دنيا التفاهات والشرور والفساد، دنيا الغناء والرقص، والجري وراء حوادث مفتعلة تافهة، بينما تُمسح القرى، ويقتل أهلها تحت الأنقاض، ويُشرَّد من بقي من أهلها، إن هذا النوع من الناس قد أصبح غريبًا تمكٌّن منه اللهو، حتى نسيَ صور الأشلاء الممزقة، والقتلى، وأصوات الاستغاثات، ونظرات اليتامى، وبكاء الأرامل، فأين هم من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:\"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر\".

 

يقول الإمام\"البنا\"- رحمه الله - مذكرًا بما يجب على المسلم إذا رأى أحوال المسلمين وما ينزل بهم-:\"صدقوني يا إخواني، لقد ذاب قلبي أسفًا، وتقطعت نفسي حسرات، مما يتوالى من النكبات على المسلمين، وأردت أن أحتجَّ، فسألت نفسي: لمن؟ فأخذت أقلِّب الفكر، وأستعرض الأمم البعيدة... فلم أجد فيها رحيمًا، والقريبة... فإذا هي مكبَّلة بقيود ثقيلة، لا تستطيع معها حِراكًا\".

 

إن وحدة الأمة العربية والإسلامية في الصفّ والهدف والغاية مطلبٌ ضرورى للأمة، وهي واجب حتميُّ، يفرضه الإسلام، وهو سلاح للأمة، ورصيد عظيم، لن تتمكن الأمة من مواجهة الأخطار إلاَّ به، وقد أمرنا الحق- تبارك و- تعالى - بالوحدة فقال: {وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، ونهانا عن التفرق، فقال - سبحانه -: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105)، كما نهانا وحذَّرنا من التنازع والشقاق والاختلاف فقال- جل جلاله-: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: من الآية46).

 

يجب على المسلمين أن يكونوا قادرين على مواجهة الأباطيل، ويجب عليهم الصمود أمام كل المحاولات التي تعمل جهارًا ونهارًا على صهرهم في الغرب وأخلاقياته وحضارته المادية، وشهواته ونزواته، مهما ضحَّوا وتحمَّلوا في سبيل ذلك، ويجب أن يعملوا على تقديم رسالة الإسلام بصفائها ونقائها، ويُبرزوا أعظم صور الحرية والعدل والسماحة والأخلاق، إنَّ العالم اليوم في أشدِّ الحاجة إلى المنهج الرباني الخالد، والشريعة الإسلامية السمحة.

 

لقد مُنع الأنبياء والدعاة- من قبل- من أداء الرسالة، فلم يتوقَّفوا ولم يتراجعوا، بل مضَوا على الطريق نحو الغاية، وهو طريق طويل وشاقّ.. يتحملون الكذب والتكذيب، والتعويق والتعذيب.. {وَلَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُم نَصرُنَا} (الأنعام: من الآية34)، مضَوا على الطريق يَبنون ولا يَهدمون، يُحسنون ولا يُسيئون، معتمدين سبيل وأسلوب التربية الصحيح، والتبصير والإشراف على الدنيا من مستوى الإباء والنزاهة والتجرد، لا يُزاحمون عليها، ولا يَطمعون فيها، فرِضا الربٌّ وحده هو مطمعهم، وهو- سبحانه- الذي يتخيَّر لهم زمان ومكان النَّصر، يعملون ولا يبخلون ولا يقصرون، ويأخذون بكل الأسباب، ولا يتعجلون الثمرةº فهي من شأن الله وحده.. {فَسَتَذكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُم وَأُفَوِّضُ أَمرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} (غافر:44).

وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply