التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية ( 2- 3)(1)


بسم الله الرحمن الرحيم

 

وأما ترغيب التفكير الإبداعي في نفوس الطلاب فيتأتى من خلال:

علاقة المدرس والطالب:

لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن المدرس في الجامعة هو آخر مدرس يتعلم على يديه الطالب، وهو يفترق عن المعلم في المدرسة الابتدائية، هذا لأنه أول معلم، وبالتالي فإن أهداف المدرسة تختلف عن أهداف الجامعة باعتبارها المدرسة الأخيرة، ولأنه \" ينظر إلى مؤسسات التعليم الجامعي باعتبارها المراكز الأساسية للبحث العلميº فالمدرسون في هذه المؤسسات يتحملون أمانة العلم تبليغا وتعليما ونشرا، لكن عليهم أن يتحملوا هذه الأمانة إبداعا وإنتاجا\" (3).

ومن هنا كان على الأستاذ في الجامعة أن يتبع جملة من الأمور حتى ينتج طالبا حافظا مستوعبا، يملك أدوات الإبداع لا الحفظ فقط، ويحول الطالب السلبي إلى طالب إيجابي فعال من خلال السؤال أو النقاش، وإشراكه في محور الدرس استثارة له نحو التساؤل المجدي.

ونأخذ هنا مثالا، عند تدريسنا لمادة الفقه المقارن والتي لا يحبها أكثر الطلبة، لماذا؟ لأنها تعتمد أكثر شيئ على حفظ الأدلة الكثيرة والمختلفة بين المذاهب الفقهية، فهذا المذهب يستند على دليل من الحديث النبوي، والمذهب الآخر يفنده بحديث نبوي آخر، ليجد الطالب نفسه في معركة سيوفها هي نصوص الوحي نفسها. وكان الأولى بالمدرس أن يستعمل هذه المادة في بيان أهمية التفكير النقدي، عند النظر في دليل الخصم، بأن ينتقد بدليل أقوى حجة، استعراضا للأدلة القوية، ودحضا للأدلة الواهيةº حتى يمكن الاستفادة حقا من كتب ومفردات الفقه المقارن، ومنه بيان سمو الشريعة الإسلامية وغناها بالآراء الفقهية في المسألة الواحدة، مما يُرفع به الحرج عند تعذر العمل بالحكم الشرعي الأصلي.

ولا يمكن هنا التغافل عن الجانب التربوي لهذه المادة مثلاº إذ يتعلم الطالب من هذه المادة كذلك نبذ التعصب المذهبي والتقليد، وهو خلق عالٍ,، فلا يزود المدرس الطالب بالعلم والمعرفة فقط، بل يزوده كذلك بالأخلاق والخلال الحميدة، والسلوك القويم، فالطالب الجامعي قد وصل في الجامعة لآخر مرحلة من مراحل التربية والتنشئة التي ابتدأت في البيت منذ أن كان رضيعا، فعلى المدرس أن يدرك هذه المسألة ويضعها في الحسبان، من أجل أن يساهم في إعداد الفرد الصالح الفعال أولا، وتكوين الفقيه المجتهد ثانيا، فمن الأمور الواجب اتباعها:

 

أ- طريقة التدريس في كسب انتباه الطالب:

جرت العادة أن يجلس الأستاذ ثابتا على كرسيه متحدثا وشارحا للدرس من أوراق موزعة بين يديه، أو من خلال النظر والتقليب لصفحات كتاب مفتوح أمامهº في الوقت الذي يكون فيه الطالب إما يتثاءب أو يتململ على كرسيه أو يرسم على أوراقه...الخ.

تعد هذه الطريقةُ الطريقةَ التقليديةَ في تدريس العلوم الشرعية وتسمى (طريقة التلقين)، وتعتمد على التلقين والتكرار، وهي وسيلة مهمة وفعالة في الحفظ في السطور والصدور، بحيث يستوعب الطالب الدرس في ذهنه، ولكن إذا طُلب منه إعادة شييء أو استفسره المدرس عن مسألة، فإنه لا يعرف الإجابةº فهي طريقة تشوبها بعض السلبيات مثل: عدم مراعاة الفروق الفردية بين الطلبةº حيث أن أعدادهم كبيرة جدا مما يعسر معه العناية بأفراد الطلبة فردا فردا، كما أنها تخلو من تجاوب الطلبة معها، حيث أنهم يتلقوا فقط، ولم يستثاروا أبدا لسؤال أو حل إشكال.

إضافة إلى ذلك، فإنها طريقة لا تجذب انتباه الطالب في هذا العصر، وهو الذي أصبح فكره مشغولا بأمور خارجة عن الدرس، فليس الدرس هو غايته وهدفه. فلقد أصبح الطلاب يأتون للدرس جبرا، ولأن التعليم إجباري على كل الأفراد، وبالتالي يأتي الطالب وذهنه معلق بمشتهيات وملذات غير الدرس الممل، وهنا وجب الحديث عن أسباب تدني الدافعية للتعلم والدراسة لدى طلابنا، وهو موضوع شائك يحتاج إلى بحث تربوي مستقل.

ومن الضروري هنا أن تتنوع طرق التدريس بعد أن عرفنا أن طريقة التلقين ليست الطريقة المجدية في هذا العصر بالذات، عصر المعلوماتية، وعصر التكنولوجيا، وعصر السرعة في كل شيء، وكان لابد من الاستعانة بطرق أخرى أكثر فاعلية، وأيسر تعاملا مع الطلاب، وهنا أخص بالذكر بعضا من هذه الطرق مثل:

استعمال تقنية المعلومات والتي من شأنها أن تضفي على الدرس حيوية واهتماما متزايدا من قبل الطلاب، كما أنها تيسر على المدرس تجميع المعلومات الكثيرة في مساحات قليلة بطريقة مبسطة جذابة، تجلب انتباه الطالب كل حين. وتكمن أهمية هذه الوسائل كما يقول د/ أحمد محمد زكي (المتخصص في مجال التقنية): \" في استثارة اهتمام التلميذ وإشباع حاجته للتعلم، وتشرك هذه الوسائل جميع حواس المتعلم، مما يؤدي إلى ترسيخ المعلومة وحسن ترتيب واستمرار أفكار التلميذ، وكذلك تنمي قدرة المتعلم على التأمل ودقة الملاحظة واتباع التفكير العلمي... \" (4).

ناهيك على تسهيلها استيعاب الدرس الذي يتيسر فيه الشرح بطريق الصور مثل مناسك الحج، ودروس فقه السيرة، ومناطق الغزوات، التي تسهل دراستها على خرائط معدّة لهذا الغرض، فالطالب في هذا المساق مثلا وهو ينظر في الخريطة إلى طول المسافة بين مكة والمدينة المنورة، طريق هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسهل عليه تصور الدرس وفهمه واستيعابه.

كما يمكن أن تساهم تقنية المعلومات في حساب مقادير الزكوات خاصة الحديثة منها مثل أنصبة الأسهم والسندات وعروض التجارة عموما بطريقة حسابية ميسرة، ومثلها أنصبة الورثة في علم المواريث وغيرها.

طريقة المناقشة: وتحبذ هذه الطريقة أن تمارس مع مجموعات وفرق صغيرة من الطلبة عددهم بين (10-15) فيكون محور الدرس موضوعا للنقاش الدائر بين المدرس والطلبة، وفيها يمكن الاستعانة ببعض الكتب الجانبية المساعدة على استثارة التفكير والسؤال عند الطالب، وهي طريقة تعين كذلك على فهم الموضوع من طرق متعددة وبالتالي تنمية قدرة الطالب على استيعاب الدرس من أحد الطرق الميسرة عنده. وهي طريقة تستعمل في حصص المناقشة.

 

تنويع الأنشطة داخل الفصل:

أي أن المدرس يحاول تغيير جو التدريس إلى طرح سؤال، أو دعوة طالب لمناقشة مسألة، أو الكتابة على السبورة، أو استعمال تخطيط الشجرة. كما يجدر أن يتحلى المدرس بروح الدعابة والمرح أحيانا بإلقاء مزحة يستثير بها صمت وهدوء الطلبة، كما ينبغي كل حين التنبيه على أهم محاور الدرس، والخيط الجامع للدرس حتى لا يضيع الطلاب بين تفريعات الدرس ناسين جوهره.

 

طريقة الوحدات:

والغاية من هذه الطريقة الربط بين معلومات المنهج في المادة الواحدة، أو في مواد مختلفة متعددة، حول هدف نظري واحدº فالزكاة مثلا - إذا درست على منهج المواد المنفصلة- تدرس دراسة جافة ضحلة، تتناول أوقات وجوبها، ومقاديرها، ومصارفها، إلى غير ذلك، ولكنها كوحدة يمكن أن تدرس من اتجاهات أقوى حيوية وأعظم تأثيرا، مثل: الزكاة ومشكلة الفقر، الزكاة والتنظيم الاقتصادي، الزكاة والتعاون، المضاعفات السيئة لمنع الزكاة... الخ (5).

 

ب- التمثيل بحيثيات ومستجدات الواقع المعيش:

حركة المجتمع والواقع الاجتماعي واقع متحرك غير ثابت، فهو أحيانا يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وفي أحيان أخرى يبتعد عنها، لينجرف مع التيارات المستحدثة.

والأستاذ في درسه يدرس المنهج المقرر، واضعا خلفه واقعه الذي يعيش فيهº وهنا تكمن إشكالية التمايز عند الطالب، بين ما يتلقاه في الدرس وبين واقعه، فهما يسيران في اتجاهين متعاكسين، وهنا وجب على المدرس أن يربط مادة درسه بالواقع المعيش، بـ:

* إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام.

* ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.

* معالجة المسائل والتحديات المعاصرة بالنظر الفقهي الشرعي (مجالات الطب والسياسة والمعاملات الاقتصادية، وغيرها).

* الانطلاق من الواقع بتحدياته، ومعالجتها معالجة شرعيةº فهذا المنهج سيساعد الطالب والأستاذ نفسه على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته.

* ويوضح الأستاذ أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحث الطالب على أن يكون عضوا فاعلا.

فلا يمكن عزل الطالب عن واقعه الذي يعيشه، وخاصة أن مقررات الدراسات الشرعية الحالية تعتمد على أمرين اثنين:

- أولهما التأصيل النظري للأحكام الشرعية المستوحى من القرآن والسنة، من دون ربطها بما يسود المجتمع من مخالفات لهذه الأحكام، أو محاولة إدراج صورها الحديثة لتأصيلها شرعيا.

- وثانيهما التمثيل بالأمثلة والفروع الفقهية القديمة، التي يصعب على الطالب فهمها ناهيك عن فهم الدرس والقاعدة المعتمدة، وما يأتي المثال في الأصل إلا لأجل أن ييسر فهم الدرس!.

 

مكامن تجديد الأمثلة بما يناسب العصر:

إضافة لما سبق التطرق إليه لبعض الأمثلة في الفقه المعاصر ومادة الفقه المقارن، فهذه أمثلة أخرى من:

- مادة فقه المعاملات: وخذ لذلك مثالا، فعند شرحي لدرس البيوع المنهي عنها للغرر الواقع فيها نمثّل بـ: \"لا يجوز بيع البعير الشارد والعبد الآبق، والسمك في النهر والطير في السماء، واللبن في الضرع\"، وغيرها كثير كثير من الأمثلة التي لم تتغير منذ قرون طويلة، وقس على ذلك الأمثلة في الدرس الأصولي فهي هي، كما دَرستها أنا في الجامعة وكما أُدرسها الآن للطلبة، وكما سيُدرسها طلبتي في المستقبل لطلبتهم... وهكذا.

وقد يصعب على الأستاذ استحضار أمثلة وتطبيقات جديدة من الواقع لأن الأستاذ نفسه عاجز عن استيعاب ومحاولة مزج التنظير مع التطبيق.

 

- ومن أمثلة التجديد في الدرس الأصولي:

لابد من ربط الدرس الأصولي بالواقع المعيش، في إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام. ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.

إذ سيساعد هذا المنهج على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته، فلا ينغلق الأصوليون على أنفسهم في مباحث تجريدية نظرية هي لعلم الكلام والفلسفة أقرب.

ولا يمكن عزل المنهج الأصولي عن واقعنا الذي نعيشه، فالمباحث الحالية، وهي في ذاتها قديمة، وتعتمد على الأمثلة القديمة التي لم ولا تتغير في أي كتاب أصولي قديم أو حديث، وخذ لذلك أمثلة في درس \" السبب\": القتل العمد سبب لوجوب القصاص، وفي درس \"الإجماع\"، من الإجماعات إعطاء الجدة السدس، وفي درس \" الرخصة والعزيمة\": من أمثلة إباحة ترك الواجب: الفطر في رمضان للمسافر، وغيرها.

ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية لعلم أصول الفقه ومفرداتها، بما جدّ في الواقع من مسائل، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة، ولو أمكن \" تحديث الأمثلة في كل الموضوعات مع ربطها بالتطبيق القضائي المعاصر\" (6).

 

- ومن أمثلة مادة \" القواعد الفقهية\":

مادة القواعد الفقهية والتي تعتبر من أجل العلوم التي أبدع فيها علماؤنا لأهميتها، كما قال الإمام القرافي\" قواعد كلية فقهية كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه... وهي قواعد عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه وشرفه.. \" (7)، فأساسها مبني على عمل الفقهاء على جمع الفروع الفقهية المتناثرة تحت محدد وضابط جامع لها، بغرض إيجاد رابط لفروع كثيرة متشابهة موصولة مع بعض، فقد قال الإمام السيوطي بعد الثناء على الفقهاء: \" ولقد نوعوا هذا الفقه فنونا وأنواعا، وتطاولوا في استنباطه يدا وباعا. وكان من أجل أنواعه: معرفة نظائر الفروع وأشباهها، وضم المفردات إلى أخواتها وأشكالها، ولعمري إن هذا الفن لا يدرك بالتمني، ولا ينال بسوف ولعل ولو أني.. \" (8).

إلا أنه يستشكل على المدرس في هذا العصر البحث عن أمثلة جديدة، فتجده عاجزا عن الإتيان بذلك، لأنه وللأسف غير مطلع على مستجدات العصر التي كثيرا ما تكون مخزنة في الأبحاث الأكاديمية، والمقالات العلمية في المجلات، وعلى شبكة الإنترنيت، والتي تستدعي استقراءً لها كما استقرأ علماؤنا الأجلاء في القديم نوازلهم.

وهنا يجد الأستاذ نفسه بدل أن يشرح القاعدة الفقهية الأم، يشرح الأمثلة المستعصية على أذهان الطلبة، لأنها أمثلة من زمان غير زمانهم، وهنا علامة استفهام كبيرة؟!

فكيف بمادة قُصد من وضع مساقها ومفرداتها وتدريسها للطلبة أن تساعدهم في اكتساب الملكة الفقهية، وهي المقصد الأساسي من وضع هذا العلم، تعمل بعكس هدفها في عدم استيعاب الطالب لأمثلتها ناهيك عن القاعدة الأصل؟

فالمدرسون لا يبذلون الجهد الكافي في البحث والاستقصاء عن تطبيقات عملية لموادهم لأنهم هم أنفسهم حرموا من معرفتها سواء في مرحلة تعليمهم المدرسي أو الجامعي.

لذا فإن مجهوداً إضافياً يعد أمراً ضرورياً ومطلوب من قبل المعلمين لكسر الجمود الموجود في الكتب المدرسية، وليخرجوا التعليم من?الحفظ والاستذكار ?إلى?الإقناع? والتطبيق (9). ?

ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية ومفرداتها بما جدّ في الواقع من مسائل فقهية أو حديثية أو تفسيرية وغيرها، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة. وهو أمر ليس بالعسير إذا ما تكاتفت جهود الباحثين من كل تخصص في الدراسات الشرعية بغرض استقراء المستجدات وأدلتها، والتي كثيرا ما تعتمد على مقاصد الشريعة وقواعد الفقه والتفسير المقاصدي للآيات والأحاديث الشريفة، وهو مما سيساعد على تنمية البحث العلمي وتطوير مناهج تدريس الدراسات الشرعية في جوانب متعددة تعدد الاستقراء المبحوث عنه.

 

ج- تحفيز الطالب على التفكير والبحث العلمي:

بعد أن يتلقى الطالب الدرس ويحفظه استيعابا وفهما، نخطو نحو تدريبه على ملكة السؤال والاستفسار، ليتعمق الفهم بالنقاش وضرب الأمثلة. فلو بقيت المعلومات دون تحليلها أو استنطاقها لتحولت إلى جثة هامدة لا تغني من يحملها في شيء سوى إرهاقه بحملها واسترجاعها، أما التفكير الناقد فإنه يحول هذه المعلومات إلى طاقة خلاقة تسهم في تكوين العقلية العلمية المستنيرة التي يستطيع صاحبها أن يتعامل مع مفردات الواقع ومتطلبات الحياة بمرونة واضحة وبقدرة على التحليل و الاستنتاج و الفهم والاستيعاب تساعده على الحياة الراقية و السلوك المتطور (10).

وهو الأمر المرجو والمقصود من التعليم والتربية عموما، \"ولا شك أن الهدف المتوخى من العملية التدريسيةº لا يتمثل في حشو أذهان الطلبة بالمعلومات، وإن كانت مفيدة، فليس المتوخى أن يتخرج طلاب الفقه أوعية للمعلومات... غير أن الهدف الأهم الذي يجب أن تتجه إليه العملية التدريسية في الفقه، إنما هو بناء الشخصية الفقهية للطالب، وتنمية ملكات الاستنباط والبحث الفقهي عنده، واكسابه القدرة على التفكير العلمي السليم، المبني على منهجية فقهية واضحة، قادرة على المحاورة والمناظرة\" (11).

ولأن التحديات والمتغيرات كثيرة ومعقدة فإن الاحتجاج العقلي من شأنه أن يزيل الغبش عن ذهن الطالب، والمعروف في عرف الدراسات الشرعية أنها دوما تتجه إلى التأصيل النصي من القرآن والسنة فقط، ويأخذ الاحتجاج العقلي مساحة ضيقة، لا يفهمها الطالب بسهولة. فالاستدلال بالحجة العقلية أمر في غاية الأهمية بعد الاستدلال بالنص وتعليم الطلاب ذلك مهم جدا، لأنه \"وفي ظل ازدياد الشبهات العقلية أصبح ضروريا العناية بالحجة العقلية في عرض مقرر العلوم الشرعية بشكل أكثر فعالية\" (12).

ومن أهم الوسائل المساعدة على إدراك الطلاب فن الإبداع إكثار المدرس من السؤال، بحيث تكون الأسئلة الكثيرة المتتابعة المتتالية مدخلا للدرس، وليس بالضرورة أن تتم الإجابة عن كل الأسئلة آنيا وفي أثناء إلقاء الدرس، وهنا وجب تطوير ما أسماه د/ جمال بادي \" أسلوب ضرب الأمثلة\" (13).

فالمهم أننا عَلَّمنا الطلبة طريقة السؤال وطريقة الوصول للمعلومة المطلوبة عن طريق سؤال مباشر أو غير مباشر. ويمكن هنا الاستعانة بما يسميه التربويون \"الابتكار بالاستثارة\"، بحيث تكون مهمة المدرس استثارة الطلاب عن طريق طرح بعض التعليقات القصيرة المثيرة، وذلك من أجل استدعاء الآراء والأفكار الجديدة (14).

وهنا سيكون دور المدرس كالمدرب والمراقب والمستشار أحيانا أخرىº أي أن دوره لا يكمن في صب المعلومات صبا، وإنما يوجه الطلاب نحو المعلومات، ويشرف على توجيههم الوجهة الصحيحة، وتدريبهم على روح التساؤل، وتشجيعهم على ذلك.

 

أي يتم عرض المحتوى على أساس:

* عرض الموضوع على هيئة مشكلة أو تساؤل يثير اهتمام التلاميذ وتفكيرهم لتحقيق أهداف تدريس العلوم.

* إتاحة الفرصة لهم مع المعلم لوضع الفروض المناسبة لحل المشكلة (15).

 

د- تأهيل الطالب عمليا:

يأخذ المدرس في عين الاعتبار أن طالب الدراسات الشرعية مثله مثل طالب في التخصص التقني الذي يدخل المختبرات يوميا، فطالب الدراسات الشرعية وإن كان لا يدخل إلى هذه المختبرات في أيام دراسته فإنه لا محالة داخلها في واقع حياته، على اعتبار أنه سيكون قاضيا شرعيا أو مدرسا أو إماما خطيبا، أو فقيها مجتهدا، أو فردا عاديا في مجتمعه، ولكنه غير عادي بالنظر إلى تخصصه الذي يتطلب منه إلماما بعلوم الشريعة وتفريعاتها، فهو سيُستفسر كل حين عن مسألة فقهية أو فتوى أو معنى حديث، أو معنى آية، وهو هنا في مركز المفتي والمجتهد بين أهله وجيرانه وأفراد بلدته الصغيرة، \"ومن مظاهر القصور والخلل والتقصير الواضح البيّن أن يواجه طالب الشريعة الذي يرى نفسه مختصا في الحديث أو العقيدة أو التفسير بمسائل من الحياة تتصل بالحلال والحرام عمليا، ثم يعتذر عن عدم قدرته على التعامل معها لأنه مختص بالعقيدة مثلا وليس بالفقه\" (16).

وهنا يحضرني مثال مهم وهو أن إحدى زميلاتي وهي خريجة معهد الدعوة والإعلام والتي لم تدرس من مواد الفقه إلا القليل القليل، حدث أن تزوجت إماما وهو الأمر الذي استدعى أن كثيرا من نساء المدينة يزرنها بغرض الاستفتاء والسؤال، فتجد نفسها حائرة لا تعرف ماذا تقول، والسبب أنها خريجة كلية الدعوة والإعلام، ولم تدرس من الفقه وعلومه إلا النزر القليل!

وهنا تظهر الحاجة إلى دراسة فن الترجيح والمناظرات والجدل العلمي، التي حفل بها تاريخنا الإسلامي، فندرب الطلبة على فن المناظرات والاستدلال المقابل للاستدلال المضاد، فإن هذا الفن معناه وجوب استحضار الحكم ودليله بصورة آنية، وذلك يتطلب حفظها وفهمها واستيعاب أهميتها ومكانتها وموضعها بين المسائل المعروضة حتى يتأتى استحضارها وهذا أحد فنون التفكير الإبداعي الذي يتدرب الطلاب عليه في الدرس النظري ثم التطبيقي.

فهذه العلوم تعد أعمالا تحتاج إلى فنون تطبيقية مثل فن الخطابة المتماشي مع الأحداث اليومية، وعلم القضاء الذي يحتاج إلى تطبيق وتمثيل للمحاكم ومجالس القضاء التي تحتاج معرفة فن الترافع ومحاججة الخصم بالحجة والبيان... الخ.

 

----------------------------------------

(1) أصل هذا البحث ورقة بحثية ألقيت في المؤتمر الدولي: (الإسلام والمسلمون في القرن الواحد والعشرين: الصورة والواقع)، كوالالمبور، مركز بوترا للتجارة العالمية، 4-6/8/2004م.

(2) كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.

(3) فتحي حسن ملكاوي، البحث التربوي وتطبيقاته في الدراسات الإسلامية في الجامعات، إسلامية المعرفة، السنة8، العدد 30، خريف 1423هـ/2002م، ص 85.

(4) توظيف تقنية المعلومات في تدريس العلوم الشرعية، ندوة\" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية\"، جامعة ملايا، 7-8/2/2004، ص3.

(5) فتحي حمودة بيومي، التربية والطرق الخاصة بتدريس العلوم الإسلامية، ص 54، نقلا عن د/مروان قدومي، طرق تدريس الفقه الإسلامي، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، تحرير: د/ هايل عبد الحفيظ داود، ط1/ 2000م، الزرقا: جامعة الزرقا الأهلية، ص 197.

(6) ص 10.

(7) القرافي، الفروق، دار المعرفة، ج1/ ص3.

(8) السيوطي، الأشباه والنظائر، دار الفكر، ص2.

(9) أيمن أبو عذية، فليعلموا لماذا يتعلمون: تطبيقات العلوم في الحياة - مادة للطلبة الموهوبين، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين، ص 1.

(10) محمد إسماعيل محمد اللباني، التفكير الناقد ودوره في التعلم الفعال، ص22.

(11) ماجد الجلاد، المفاهيم الإسلامية وأساليب تدريسها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص 424.

(12) جمال بادي، تطوير أساليب تدريس العلوم الشرعية، ندوة\" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية\"، جامعة ملايا، 7-8/2/، ص2.

(13) جمال بادي، مرجع سابق، 2004، ص5.

(14) محمود محمد علي، تنمية مهارات التفكير، ط1/ 2002م، جدة: دار المجتمع للنشر والتوزيع، ص104.

(15) عادل أبو العز أحمد سلامة، عن تصور مستقبلي لمناهـج العلـوم في مرحلـة التعليـم الأساسـي فـي ضـوء متطلبـات العصـر، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 21 تموز 2003م، 19 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّــان ص17.

(16) محمد سعيد حوى، ما الذي نريده من طالب الشريعة فقها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص114.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply