د صلاح الصاوي: لا يزال بعض العلماء يعيشون زمانهم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نفى المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور صلاح الصاوي الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا - أن تكون الأمة الإسلامية تعيش في حالة \"أزمة\" جراء التقلص في إعداد العلماء الموسوعيين من أصحاب \"الكاريزما\" العالية في أوساط المجتمعات، وقال: إن بالعالم الإسلامي الآن مجموعة كبيرة من العلماء الأكفاء، غير أن الشيخ الصاوي أقرّ بخسارة الأمة لجيل من العلماء يصعب تعويضهم في إشارة إلى الشيخ \"ابن باز\" و\"ابن عثيمين\"، والألباني، والسيد سابق...وغيرهم.

وعدّ الشيخ صلاح الصاوي في حوار له مع (الإسلام اليوم) أن الاعتقاد بخلو عصر من العلماء أمر لا يستقيمº إذ إن الله - تعالى -\"يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر عدولاً تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة\".

ولدى سؤاله عن الغياب الملاحظ لبعض العلماء المعاصرين الكبار قال الصاوي: \"إن الغياب المشاهد للعلماء عن الساحة سببه أنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيّبين وما هم بمغيّبين\".

وشدّد الشيخ صلاح الصاوي على ضرورة المزج بين \"خبرة الخبراء وفقه الفقهاء\" للخروج برأي سديد حول المستجدات والنوازل الحديثة، معتبراً أن قيام مرجعية علمية تضم نخبة من العلماء المعاصرين هو من \"الواجبات\"...

 

هل ترى أن هناك أزمة حقيقية في أوساط العلماء، بسبب تقلص الرموز الكاريزمية، ومحدودية تأثيرهم وغلبة الخوف على صياغة مواقفهم؟

ابتداء: لا يخلو وجه الأرض من قائم لله بحجة، ولا تزال طائفة من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمين على الحق لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله، ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل المبطلين وانتحال الجاهلين، وهؤلاء هم الفرقة الناجية التي لا يخلو منها زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينطفئ سراج الحياة.

ومن ناحية أخرى لا يخفى أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، كما أخبر بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وقد شهدت العقود الأخيرة رحيل كثير من قيادات العمل الإسلامي المعاصر، لقد رحل الشيخ \"ابن باز\" والشيخ \"ابن عثيمين\"، والشيخ الألباني، والشيخ سيد سابق، والشيخ مناع القطان وكثيرون آخرون، ولا شك أن رحيل هؤلاء قد أوجد فراغاً لا يُستهان به، وجيل الكبار يعسر تعويضه، الأمر الذي يشكل ملامح أزمة حقيقية نسأل الله أن يجبر كسر الأمة في رحيل علمائها، وأن يعوّضها عنهم خيراً، ويبقى في النهاية أن هذه الأمة ولود، وأنها كالغيث لا يُدرى أوله خير أم آخره، وأن الله يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر علماء تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة!.

 

وما موقفكم من التجديد الناشئ في مفردات الخطاب العلمي في بعض المسائل والمواقف، كالانتخابات والتحالفات السياسية والتعددية السياسية، وما إلى ذلك مما يتعلق بالحراك السياسي السلمي؟

ابتداء أرجو أن نفرّق بين نوعين من أنواع التغير في الخطاب الدعوي:

أولهما: تغير أصاب بعض الثوابت، وزلزل أصولاً مستقرة قالت الأمة فيها كلمتها، وأغلقت ملفها منذ قرون، وهذا يعكس أزمة حقيقية، بل يمثل كارثة فكرية ودعوية ومنهجية أسأل الله أن يقي الأمة شرها، وأن يرد من ابتلوا بها إلى دينه رداً جميلاً! لقد رأينا في بعض المواقع خاصة في الأوساط الغربية من يجادلون في فرضية الحجاب على سبيل المثال، وأنا هنا لا أقصد الإشارة إلى الخلاف المعروف حول الوجه والكفين، وإنما أقصد تغطية ما سوى الوجه والكفين، وأصبحت هذه القضية الجوهرية تُقدّم على أنها مسألة خلافية في قضية فرعية، وقد رأينا من يجادل في إطلاق كلمة الكفر على من لم يدن بدين الإسلام من غير المسلمين، وقد رأينا من يجادل في حرمة الربا في المجتمعات الغربية، وقد رأينا من يجادل في معالم أساسية في قضية الولاء، ويتحدثون عن الاندماج الكامل في حضارة هذه المجتمعات تحت دعاوى الاستنارة والعقلانية والواقعية... الخ، ومثل هذا الخلل لا سيبل إلى تسويغه، ولا وجه لتخريجه مهما حاول المبطلون واجتهد المستنيرون!.

أما الثاني: فهو تغيّر طرأ على بعض القضايا الاجتهادية التي تُبنى على أساس النظر العرفي أو على أساس النظر المصلحي، ولا يخفى أن الفتوى في مثل هذا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فما بُني من الفتوى على العُرف تغيّر بتغيره، وما بُني منها على الاستصلاح تغيّر بتغيّر وجوه المصلحة وهكذا، وجل ما أشرت إليه من القضايا كان النظر فيها مصلحياً، فليس بغريب تغيّره بتغيّر وجوه هذه المصالح.

هذا.. ويغلب على التجديد الناشئ في الخطاب العلمي المتعلق بهذه المسائل أنه يرجع في الجملة إلى اختلاف العصر والزمان، وليس اختلاف الحجة والبرهان، فقد جدت متغيرات كثيرة في الساحة الدعوية، وتجدّد معها الموقف الفقهي والدعوي تجاه كثير من هذه القضايا، ويبقى بعد ذلك أن النظر في هذه المسائل دقيق وشائك، ففي أزمنة الفتن وغربة الدين يكثر اختلاط المصالح بالمفاسد، فلا تكاد تتمحض مصلحة في كثير من المواقف، بل الاختلاط الذي ينشأ عنه الالتباس والإيهام، فهو بحق مزلة أقدام ومدحضة أفهام، والمعصوم من عصمه الله - عز وجل - ولا يخفى أن مرد الخطأ والصواب في هذه الاجتهادات إلى توفيق الله - عز وجل - للمباشرين لها بحيث ينضبط الأمر في أيديهم على موازين الشريعة ومعاييرها ومقاصدها.

 

هناك من يرى أن الجماهير متقدمة في مبادراتها ووعيها أحياناً- على قياداتها السياسية والفكرية وحتى \"العلمانية\"، فبرأيك لماذا أصبح الوعي خارج العلماء والدعاة أكثر حيوية وفعالية؟

أول ما نقف عنده هو هذا التعميم، فلا يصلح إطلاق القول بأن الوعي خارج العلماء والدعاة أصبح أكثر حيوية وفاعلية، بل لا يزال من العلماء والدعاة من يعيشون زمانهم، ويعرفون أحواله ولكنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيبين وما هم بمغيبين، ولكنهم أهل علم وحلم وبصيرة وتأمّل في العواقب واعتبار بالمآلات! وأرجو ألاّ تكون من ذلك ذريعة -وإن كانت غير مقصودة- إلى مظاهرة العلمانيين في الحض على علماء الشريعة وشن الغارة عليهم، ورميهم بالتهم والمناكر لتسقط حرمتهم ومهابتهم من النفوسº فيسقط بسقوط ذلك ما يحملونه من مواريث النبوة!

 

حق العامي هو تقليد العلماء، وأن يسأل من يثق في أمانته وعلمه، لكن كيف يمكن للعامي أن يضع ثقته في عالم يدين الله بفتواه، وهو لا يملك المعايير والآليات التي على أساسها يقيم هذا العالم؟

الموقف الشرعي في نوازل هذا العصر بل وفي باب الفتيا بصفة عامة إنما يتكون من خلال المزج بين خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، فالفتوى -كما يذكر أهل العلم- \"معرفة الواجب في الواقع\"، فلا بد فيها من المعرفة بكلا الأمرين: الواجب والواقع، أي خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، وأي خلل في أحد هذين الجانبين ينعكس على الفتوى بالخلل والقصور لا محالة، فإذا قصّر المستفتي في عرض نازلته أو طاف به في عرضها على المفتي طائف من الهوى فلا يلومنّ إلا نفسه! لأن المفتي أسير المستفتي، والمفتي إنما يفتي على نحو ما يسمع، كما أن القاضي إنما يقضي على نحو ما يسمع، وقد رأيت بنفسي في كثير من المواقع كيف يكون التأثير على المفتين واستنطاقهم على نحو معين تنسجه أهواء المستفتين، فيكون الغش في عرض النوازل والمبالغة في تصوير الحاجاتº لتصبح من قبيل الضرورات، فكيف يُلام في ذلك علماء الشريعة إذا كان المستفتي عيياً أو صاحب هوى؟!

لقد صُوّر لفضيلة المفتي السابق لمصر أن المحجبات في الغرب يتعرّضن لخطر القتل، وانتهاك الأعراض بسبب الحجاب فهل يجوز لهن الترخص بخلعه؟ فأجاب فضيلته بالإثبات، وطيرت الصحف ذلك كل مطير، وفتوى فضيلته صحيحة لو صحّ تصوير النازلة على النحو الذي صُوّرت به وهو غير صحيح، ثم تبقى لها في هذه الحالة بقية، تتمثل في أن على المرأة المسلمة التي استضعفت عن إقامة فريضة الحجاب أن تهاجر إلى بلد آخر لا تتعرض فيه لمثل هذه الفتنة عند القدرة على ذلك، وآية سورة النساء في الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والذين يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض دليل ظاهر على ذلك.

ومن ناحية أخرى فإن على حملة الشريعة أن يتفطنوا لمثل هذه الأحوال، وأن يكونوا على صلة متجددة بما يطرأ في زمانهم من نوازل ومتغيرات، وألاّ تعجّلهم إلحاحات بعض المستفتين فتخرجهم عن منهج الرويّة والتثبّت، واستجلاء الأمور بدقة تتناسب مع جلال الفتوى وخطورة منزلتها، وأن يذكّروا طالب الفتوى بالله - عز وجل - وأن يعلّموه أن فتوى المفتي لا تُحل حلالاً ولا تحرّم حراماً، بل الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

إنه لا يجمل بفقيه من الفقهاء في واقعنا المعاصر مثلاً- أن يُسأل عن رأيه في شركات التأمين فيفيض في القول في أهمية الأمن وضرورته للمجتمعات، ويفوته النظر إلى ما تتضمنه عقود التأمين من غرر وميسر وربا ونحوه من أسباب فساد العقود.

ومن ناحية أخرى فإن على المستفتي أن يبين الواقع للفقيه حتى تكون فتواه مطابقة لهذا الواقع، وأحسب أن المجامع الفقهية المعاصرة تنحو هذا المنحىº فهي تضم في صفوفها كوكبة من الفقهاء والخبراء، ومن ثم كانت قراراتها أقرب إلى القبول العام من الفتاوى الفردية التي تُنسب إلى هذا العالم أو ذاك.

 

ما مفهوم المرجعية الدينية عند أهل السنة مقارنة بالمراجع الدينية لدى غيرهم؟

العلماء عند أهل السنة ذرائع لمعرفة الحكم الشرعي، وطاعتهم إنما تجب لهم على هذا الاعتبار، فليست لهم طاعة ذاتية ولا طاعة مطلقة، ولا حق لهم في التشريع المطلق بحال، بل يقتصر دورهم على فهم النصوص والاستنباط منها والتخريج عليها والرد إليها، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وهم في النهاية بشر من البشر يخطئون ويصيبون، ولكن عصمة الأئمة عند الشيعة تعطى لأئمتهم مقاماً آخر لا يقرّ به أهل السنة إلا للأنبياء دون غيرهم من الناس، وهذه النقطة من نقاط الخلاف الجوهرية بين السنة والشيعة.

أما الأحبار والرهبان عند النصارى فإنهم يملكون حق التشريع المطلقº فالحلال ما يحلونه والحرام ما يحرمونه، ولو جاءت التوراة والإنجيل بخلاف ذلك، وهذه هي الربوبية التي كانت في بني إسرائيل، والتي نعاها عليهم القرآن الكريم في قول الله - عز وجل -: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً).

 

هل تؤيد قيام مرجعية علمية عامة تضم نخبة علماء الأمة يكون لحكمها صفة الإجماع مجازاً؟

قيام مرجعية علمية تضم نخبة من علماء الأمة أمل كبير وحلم جميل، والسعي إلى إقامته من جملة الواجبات، ويبقى النظر فيما يعترض سبيله عملياً من المعوقات والصعوبات، كالمعوقات السياسية والحزبية والمذهبية والأمنية ونحوه، لا تكفي الأماني وحدها لتحقيق المقاصد النبيلة والجميلة في هذه الدنيا، بل لا بد من النظرة الواقعية التي تتعامل مع المعوقات، وتتلمس السبل إلى تذليلها والتغلب عليها، وعلى كل حال ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه، فإذا لم يمكن تحقيق ذلك على مستوى عموم الأمة، وأمكن تحقيقه على مستوى قطر من أقطارها فلنبدأ بذلك، وأول الغيث قطر ثم ينهمر كما يقولون!

 

المجامع الفقهية والهيئات العلمية هل يكون لقراراتها طابع الإلزام لنطاق الإقليم الذي نشأت فيه؟

أما الإلزام بالمعنى الشرعي الدقيق فلا، لأن ما تصل إليه هذه المجامع -على عراقة بعضها وامتداد رقعة تمثيلها- لا يمثل الإجماع إلا على سبيل المجاز كما تفضلت، ولكنها على كل حال تمثل موقفاً فقهياً ناضجاً ومدروساً ومحققاً ومدققاً يعسر تجاوزه إلا باجتهاد يرقى إلى مستواه، وتتحقق فيه مثل مقوماته وخصائصه. ويبقى أن حق الاجتهاد والمخالفة مكفول لحملة الشريعة ما دام في إطار النظر المعتبر في الأدلة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply