نقاط منهجية في التعامل مع إشكاليتنا الفكرية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كثيراً ما يتم الكلام في الأوساط الإسلامية عن مشروعات نهضةٍ, إسلامية أو صحوةٍ, إسلامية أو حضارةٍ, إسلامية أو غير ذلك من المشاريع، ولكن دون أن يتم تحديد ماهية هذه المشروعات و ما هي الأهداف المطلوب أن تحققها. وسوف نحاول سوياً في هذا الموضوع لمس مجموعة من النقاط لعلها تمثل خريطةً أوليةً يمكن التفكير حولها أو يمكن أن تكون البداية لإثارة مجموعة هامةٍ, من التساؤلات.

 

وأول مسألةٍ, في هذا الباب تتلخص في أننا كأمةٍ, لا ندرك الفارق بين الحضور والوجود، و قد حدد مالك بن نبي رحمة الله عليه أننا أمةٌ موجودةٌ ولكن غير حاضرة، ووجودنا يعني وجود مجتمعٍ, وثقافةٍ, وعلاقاتٍ, وإنتاج.. لكن حضورنا يستلزم - طبقاً لمفهوم الحضارة - شروطاً من أهمها أن نكون أمةً تستطيع أن تحقق مفهوم الشهادة على العالمين، والشهادة تستلزم أن نصيغ نموذجاً بشرياً يجعل جميع من يراه يوقنُ أنه النموذج الأمثل وأن تركه بشكلٍ, متعمدٍ, فيه خسارة للإنسانية، و من ثم نكون شهوداً على العالمين - ليس فقط في يوم القيامة وإنما في الدنيا من خلال تقديم نموذجٍ, حضاري يحدد طبيعة علاقات الإنسان مع الله وعلاقاته مع الإنسان ومع الطبيعة. وبهذا المعنى نقول أننا لسنا إلى هذه اللحظة في هذا الطور لأننا أمة موجودةٌ وجوداً مادياً ولكنها غير حاضرة لأنها غير شاهدة.

 

المسألة الثانية تتعلق بطبيعية بنيتنا العقلية والفكرية التي يظهرُ أنها بنيةٌ عقليةٌ تتكون من جزئيين متناقضين، الجزء الأول أننا أمة عربية ديوانها الشعر والشعر مثّل في تاريخنا ظاهرةً أساسيةً وخلق لدينا عقلية شاعر، فجميعنا شعراء وإن لم نشعر، والشاعرُ غير العالِم، لأن الشاعر لا يخضعُ للحقيقة وإنما يبني الحقيقة، وغالباً ما تكون تلك الحقيقة التي يبنيها حقيقةً متوهمةً متخيلةً طبقاً لما يريد هو، فعناصرها من عقله وموادها من عقله دون أن يلتزم بالواقع في شيء. فنحن دائماً نصيغ الفكرة في صورة الشعر لا نخضع للواقع ولا نستجيب له ولا ندرك أبعاده و محدادته، وإنما نبني صورة متخيلةً بغض النظر عن الواقع ونقول بأنه لابد أن نطوِّعَ الواقع للإسلام ولا نطوع الإسلام للواقع، ومثال هذا الشعار الذي كثيراً ما يُفهم خطأً ويتحدث عن تغيير أنفسنا وتغيير المجتمعات..

 

أما المسألة الثالثة في هذه العقلية فتتمثل في آفة احتكار الحقيقة. ذلك أن جزءاً أساسياً من عقليتنا - سواء كنا أفراد أو جماعات يقوم على احتكار الحقيقة، بحيث نظن في كثيرٍ, من المواقف والمجالات - أننا أمسكنا بالحقيقة وأحطنا بتلابيبها وجعلناها رهن أيدينا، وبالتالي فإن من يخالفنا لا يكون مخالفاً في الرأي وإنما مناقضاً للحقيقة ومنكراً لها. ونستطيع أن نستدل على هذا حتى من الثقافة الشعبية المنتشرة في الجماعات التي تتكلم عن الفرقة الناجية وأن أكثر من سبعين فرقة في النار وفرقة واحدة في الجنة.. كل هذه الأمور أُخذت بمعنى فكري بحيث أصبح كل واحد منا هو الفرقة الناجية وكل واحد فينا هو الذي يملك الحقيقة. على الرغم أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها أو الإمساك بها وإنما كل إنسان يحاول جهده أن يصل إلى بعض من نور الحقيقة وليس إلى غايتها ومنتهاها.

 

ويقودنا البحث في هذه المسائل الثلاثة إلى قضيةٍ, هامة أخرى تتعلق برؤيتنا للقرآن الكريم وبمنهجية فهمنا له. فنحن عندما نعتقدُ امتلاك الحقيقة نعتقدُ - في الوقت نفسه - أنه إذا نصت آيةٌ معينةٌ على نصٍ, معين فإنها تنصٌّ على الحقيقة التي فهمناها. ولا نتعامل مع المسألة بشكلها الأصيل الذي يعلمُ بأن الحقيقة الكاملة موجودةٌ في القرآن، وأن ما وصل إلى عقل الإنسان إنما يمثلُ جزءاً يسيراً منها. والقارئ للكتب المتعلقة بأسباب اختلاف الفقهاء يلحظ هذا جيداً، فأسباب الاختلاف قد تأتي ليس من عدم وصول الأحاديث إلى بعضهم، وإنما من اختلاف قدراتهم العقلية واختلاف التنشئة والتكوين النفسي، ومن ثم يأخذ كل منهم من الحقيقة بنصيب.

 

إن في القرآن الكريم ثلاثة مفاهيم أساسية أولها يتعلق بخاتمية الرسالة، والثاني يتعلق بعالمية الرسالة، والثالث يتعلق بالتزامٍ, وضعه الله - سبحانه - على نفسه ويتمثل في عدم التعذيب حتى إرسال رسول {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. هذه المفاهيم الثلاثة تجعل هذا الكتاب مهيمناً على البشرية في مراحلها المختلفة، وتتجلى إضافةً إلى هذه الأمور - صفة الكَرَمِ فيه من حيث أنه يعطي من أسراره وحِكَمِهِ حتى يكفيَ من يريدُ الأخذ منه، دون أن يُنتقص منه شيء.

 

وانطلاقاً من رؤيتنا لتلك المفاهيم الأساسية، ومن إدراكنا لصفة الكرم في القرآن الكريم، فإننا سنحاول أن ننظر إليه نظرة منهجية شاملة مختلفةً نجد من خلالها أن الخطاب القرآني يأتي على ثلاثة سياقات أو ثلاثة مستوياتٍ, مختلفة.

 

أولاً: سياقٌ تفصيلي، ويتعلق بتفصيل القضايا والجزئيات التي تعرُضُ لها ونجد هذا في الأمور الثابتة التي ستتغير على تغير الزمان والمكان والمجتمعات مثل قواعد الزواج والطلاق والميراث والعبادة وغيرها من الأمور التي لا تتغير فيها الفطرة الإنسانية السليمة..

 

ثانياً: سياقٌ مقاصديٌ، ويأتي عندما يتعلق الأمر بالقضايا المتغيرة على مستوى الإنسان والمجتمع والزمان. كما نرى مثلاً كيف نصَّ القرآن كثيراً على العدل ولكنه لم يحدد كيفية إخراج العدل على المستوى التنفيذي، ونصَّ على الشورى ولم يحدد كيف، ونصَّ على مساواة البشر ولم يحدد كيف تكون طريقة المساواة.. فهذا الخطاب يستلزمُ استعمال العقل وأن نُسقطَ ونُنزلَ هذه المعاني والمقاصد على كل عصرٍ, وكل زمان طبقاً لحاجات العصر ولحاجات الزمان أولاً ولإمكانات المكان ثانياً.

 

ثالثاً: سياقٌ منهجيٌ، يطرح فقط المنهج وهو ما يتعلق فيما أعتقد بالقضايا المتعلقة بالعلوم الطبيعية وبالكون. فهو يدعو فقط إلى منهج التفكر والتدبر (قل سيروا، انظروا، تدبروا، تفكروا).

 

والمشكلة أن عدم إدراك احتواء القرآن على تلك السياقات الثلاثة تجعل كل إنسان يحاول أن يتعامل مع الخطاب القرآني كأنه يحتوي سياقاً واحداً فقط هو في الغالب السياق التفصيلي الأحكامي، ولذلك تراه يحاول أن يعالج جميع قضايا الحياة ومتغيراتها المعقدة والمتداخلة من خلال فهمه لذلك السياق الواحد. فتصبح حتى بعض قضايا الفيزياء والفلك بحاجةٍ, إلى \"أدلةٍ,\" ونصوص لإثباتها أو نفيها. بينما تَطرحُ علينا قراءة القرآن من خلال السياقات الثلاثة مجتمعةً رؤيةً أخرى نحاول معها أن نعود إلى كتابنا كما قال محمد إقبال \"كان أبي يوصيني ويقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنما عليك أنزل\"، وبحيث تدفعنا تلك الرؤية إلى أن نتفاعل معه وكأنه يتنزل كل يوم.

 

ونحن عندما نتحدث عن التفاعل مع القرآن والأخذ عنه فإن مما ينبغي علينا أن نستحضره دائماً حقيقةُ أن العقل الإنساني نسبي وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان نسبيةٌ أيضاً. ولذلك فإن من المؤكد أن ما أنتج من تفاسير في القرون الماضية قد ناسب ظروف تلك القرون، وهذا لا يعني أنه خطأٌ، وإنما يعني أن ما ناسب تلك الظروف المعينة ربما لا يناسب ظروف اليوم.

 

وهذا التحليل يقودنا إلى مجموعةٍ, من الأفكار التي طرحها بعض المفكرين كقوانين نسير وفقها. فعلى سبيل المثال فرَّقَ مالك بن نبي بين \"الصحة\" و\"الصلاحية\". أي أن الكلام قد يكون صحيحاً ولكنه غير صالح، وهذا ينطبق على كل أنواع الفكر الإنساني الذي قد يكون فكراً صحيحاً في زمانه ومكانه ولكنه غير صالح لزمان ومكان آخر.

 

الأمر الثاني هو ضرورة التفرقة بين \"الأفكار المميتة\" و\"الأفكار الميتة\" فقد نأتي من تراثنا بأفكار إما أن تكون ميتة ونحاول أن نستخدمها، أو أن تكون أفكاراً سامة وقاتلة مثل إعادة اجترار القضايا المتعلقة بالخلاف بين الفرق في هذا الزمن، فهذه قضايا مميتة وليست بميتة.

 

وأخيراً هناك قضية جغرافية الكلمة التي تحدث عنها علي شريعتي، حيث أن كل كلمةٍ, تُقال لها إطارٌ خاص وبيئةٌ جغرافية معينةٌ تتعلق بها.

 

نخلص من هذا كله إلى أننا نعيش في هذا العصر أمام تحدٍ, معينٍ, علينا أن نجيب بسببه على ثلاثة أسئلة متعلقةٍ, ببعضها: السؤال الأول أن نحدد من نحنُ، والسؤال الثاني أن نحدد ماذا نملك، والسؤال الثالث أن نحدد ماذا نأخذ وماذا ندع سواء من الفكر الإسلامي السابق أو من الفكر الإنساني.

 

و لاشك أن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة لا يمكن أن تتم إلا بأن نمتلك المنهج الذي نحدد به من نحن، فهذا السؤال البسيط في الحقيقة هو سؤالٌ معضل: من نحن؟ هل نحن أمةٌ إسلاميةٌ تعيش في عهد عمر بن الخطاب أم هل نحن أمة إسلامية تعيش في القرن الواحد والعشرين؟ وما معنى الإسلام؟ وهل تحوَّلَ الإسلام الذي هو صفةٌ تُطلق على منهجٍ, مُتَّبعٍ, لدينا إلى اسمٍ, لعنصريةٍ, أو قوميةٍ, أو مجموعةٍ, بشرية معينة؟ وماذا نعني حين تترد كلمة الإسلام في أذهاننا و في أقوالنا؟

 

لقد وصف الله - سبحانه وتعالى- على الأنبياء السابقين بأنهم مسلمون، فالإسلام إذاً صفةٌ تُكتسبُ وليست اسماً يُطلق على جماعة. وبما أنه صفةٌ، فإننا لسنا ممتلكين لهذا الاسم وإنما نُوصف به. وفي هذا الإطار يجب أن نحدد أيضاً ما هو زماننا وما هو مكاننا وما هي هويتنا وما هي ذاتنا وما هو الجوهر الذي يُحدِّدُ وجودنا كمسلمين وبدونه نفقد هذا الوجود، وما هي العناصر الأخرى التي تمثل المكملات. وهذا يتطلب أن نحدد فيما إذا كان تراثنا وكانت قيمنا التي جئنا به من الماضي جزءاً من ديننا أم أنها عادات، حتى فيما يتعلق بتسيير شؤون الحياة اليومية مما يطلق عليه البعض سنناً وهي لم تكن إلا عادات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كلبس الجلباب أو غيره، فهذه كانت عادات سائدة في المجتمع ولم تأتِ مع إنشاء الإسلام، وإنما أَقرّ بها الإسلام وقبلها.

 

ونحن إذا تحركنا في داخل العالم الإسلامي وأخذنا فقط مسألة الزي (اللباس) فإننا سنجد التنوع في الزي الواحد، وسنجد المحافظة على القيم الإسلامية في اللباس مع تعدد وتنوع الأنماط والأشكال سواء للمرأة أو للرجل، ولم يكن الأمر إطلاقاً محصوراً في نمطٍ, موحد.

 

 وختاماً فإننا نستطيع أن نقول أنه للإجابة على تلك الأسئلة الثلاثة لابد أن نحدد قضيتين أساسيتين: أولاً: ما هي القيم التي ينبغي أن ننطلق منها والتي يمكن أن نقول بثقةٍ, ويقين أنها قيمنا الأساسية. ثانيا: ما هي المقاصد التي ينبغي أن نسعى إليها سواء كانت المقاصد التي أوضحها الشاطبي (مقاصد الشريعة) أو مقاصد المكلفين (والتي هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) أو هي المقاصد التي يمكن استنباطها من القرآن (مثل مقصد التوحيد والتزكية والعمران أي توحيد الله - سبحانه وتعالى- وتزكية الإنسان وعمران الكون).

 

والواضح أن كل هذه القضايا تحتاج إلى مزيدٍ, من النقاش، وتحتاج إلى إعمالِ العقول وإلى نوعٍ, من الاحتكاك الفكري الذي يقوم على مبدأ أساسيٍ, نكررهُ ويتمثل في أن الحقيقة لا تُمتلك لأي شخص أو لأي فئة أو لأي حزب، وما الهدف من هذا العرض المختصر إلا استثارة الجهود بغية تحصيل مزيدٍ, من المعرفة التي قيل أنها ليست سوى شرارة تنبجس من تلاقح الأفكار.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply