الإيجابية... في حضرة القضاء!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

اليوم أعزائي القراء، سأنقلكم إلى مشهد مؤثر في حضرة قاض نجيب إيجابي ذكي حكيم في إحدى محاكم المملكة العربية السعودية -كثر الله من أمثاله- ولنرَ معاً كيف اصطاد ثلاثة عصافير بشبكة "تفكيره الإبداعي"، إذ لم تكن الوظيفة يوماً مانعة الإنسان من التألق، وليس لها أن تحد من تحليقه في سماء الإيجابية، ومثلما أنّ الأرض فجاج مختلفة والسماء أبراج متنوعة، فإنّ الناس قدرات ومواهب متفاوتة، فبعض الأفراد قد يدخل إدارة أو مؤسسة أو مدينة أو دولة فيغيرها للأحسن؛ ويصنع من الفوضى نظاماً، ومن التفرق اجتماعاً، ومن الفشل نجاحاً بحسن التدبير والتخطيط والتفكير والمتابعة والتحفيز.

في يوم الأربعاء الماضي 1436/1/19هـ حين حضر رجل سيرلانكي بوذي الديانة إلى القضاء، كان رهن الاعتقال بسبب حادث مروري نتج عنه وفاة شاب عمره 21 ربيعاً، وبعد الاطلاع على المعاملة، وما لدى صاحب الحق الخاص، وجد القاضي أن الخطأ على الوافد بشكل كامل ١٠٠٪ بموجب تقرير المرور، وصاحب الحق الخاص يطالبه بدفع قيمة الدية: "ثلاثمائة ألف ريال".

يقول القاضي: سألت السيرلانكي عن ذلك، فقال: صحيح ما ذكره صاحب الحق الخاص، ولكن ما يطالبني به لا أستطيع دفعه، فإني لا أملك من الدنيا شيئاً، وليس أحد من جماعتي قادرا على مساعدتي بشيء، وبعرض ذلك على صاحب الحق الخاص، قال: أطلب أن يدبّر لنا الدية ويدفعها لنا وإلا يبقى في السجن حتى يدفع، عندها؛ ضاقت على الوافد أنفاسه، ثم قال قولا محتواه: أتيت من بلادي لأجل عيش أولادي الفقراء هناك، ولا حيلة لي بدفع شيء من هذا المبلغ الذي يطالبني به، ولم يستطع الكلام بعد ذلك!

يقول القاضي: كانت لحظات صمت في قاعة المحكمة، ثم طلبت من صاحب الحق الخاص أن يتحدث وقلت له: ما تقول؟ فقال: لا أقول إلاّ ما قلت لكم! فقلت له: عندي قول أحبُّ أن تسمعه مني ولعلك تفكر فيه، فقال: نسمع! فعرضت عليه فضل العفو ورغبته فيه وبينت له ما أعد الله لمن عفا، وأنَّه لا مصلحة من طول سجن هذا الرجل الذي تدل حاله على أنه لا يملك من الدنيا شيئاً، فقال: أعطني فرصة للتفكير ومشاورة والدته بذلك.. وانفضت الجلسة.

في يوم أمس الخميس حضر الطرفان، والجميع يترقب الخبر وما لدى صاحب الحق الخاص، ولما دخل كانت البشرى تعم المكان حين قال: إننا متنازلون لوجه الله تعالى عن مطالبتنا بالدية، ولعل الله أن يهديه للإسلام إذا عرف سماحة الإسلام ورحمته، فحمدنا الله وشكرناه وبشرناه بما أعد الله لأهل العفو، ثم طلبت المترجم ليقوم بإفهام الجاني بذلك، فلما علِم بالعفو علا وجهه الذهول ولم يكد يصدق، ونهض يصافح ويشكر صاحب الحق الخاص، وبعدما بَّينت له بالترجمة ما هو الأمر الذي جعل والد الشاب المتوفى يعفو هذا العفو، تعجب ثانية، فطلبت من المترجم أن يوضح له- في لحظة انتظارهم وقت تدوين العفو- بأن هذا العفو مما رغب فيه الإسلام وحضَّ عليه، فأخبرني الداعية أن هذا السيرلانكي شديد التعصب لديانته البوذية، ومنذ فترة ونحن نحاول به بلا جدوى ومع هذا لم نيأس منه، فقلت: هدايته بيد الله إذا أذِن الله بها تمت، وإذا أراد الله بعبده خيراً ساقه لأمر ربما يكرهه ابتداء ثم تكون عاقبته خيراً.

بعد نصف ساعة دخل علي الطرفان والمترجم وهم يبشِّرون أن الرجل يرغب أن يسلم وأنه عزم على ذلك، فكانت الفرحة بذلك هي أعظم لغة تسود المكان، وتم الاجتماع ثالثة بهم، وبعد حوار بواسطة المترجم تبين لي معرفته بأركان الإسلام، وأن رغبة شديدة نزلت على قلبه للدخول في الإسلام، وانه قرأ سابقاً عن الإسلام ولكن لم تنشرح نفسه إلا هذه اللحظة، فقلت له: تريد ان تنطق الشهادتين الآن؟ فقال: نعم، فأنطقته الشهادتين، فلما نطقها وأتم التشهد، كبر الحاضرون في مشهد مؤثر، وقام صاحب الحق فأخرج مبلغاً من المال ليعطيه المسلم الجديد!!

وبعد!

بتفكير القاضي الإيجابي، وحسن الحوار، وطريقة الإقناع، والعدل والرحمة، حقق هذا القاضي نجاحات متعددة، نجح في رحمة الفقير المخطئ، والإقناع مع تحقيق الرضا من أهل الميت، وإسلام السريلانكي، ونيل أهل الميت مرتبة العفو، بل والإحسان وتحقيق العدل.

ربما البعض يتعامل في إدارته أو قضائه بطريقة (معاملة) يجب إنهاؤها، لكن الأجمل هو أن تعطي قطعة من روحك للعمل، تمزجه بالإخلاص، وتزهره بالتفاعل، فلله در هذا القاضي الذي نظر للقضية ليس للفدية فقط، بل تعدى ذلك ليحقق مع المتخاصمين أعلى مراتب الخير والإحسان، وليرتفع بالمتخاصمين إلى مقام العفو والإحسان والهداية، هنا إيجابية تُرجمت إلى أفعال ومواقف، قبل أن تكون كلاماً وتنظيراً.. وإلى لقاء قادم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply