بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحَزمُ وَالعَزمُ كانا مِن صَنيعَتِهِ ما كُلّ آلائِهِ يا قَومُ أُحْصِيها
بهذا مدح الشاعر الجاهلي أخاه وملكَه، وانتقى من صفاته تلك الصفتين اللتين بهما ثبَت ملكه وساد قومه، وليس معيبًا أن نذكرَ شيئًا من جاهليةٍ فليس كل أمر الجاهلية مذمومًا وليس كل أمر الجاهلية ممدوحًا،
وقد قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فكثير من أخلاق العرب ما بعد الإسلام جاءت امتدادًا لأخلاقٍ موروثة وصفاتٍ مغروزة في النفوس تأبى الطباع السليمة التخلي عنها؛ لأن بها قوام الحياة وإبراز المعالي، ومن تلك الصفات ما أبرزناه في عنوان مقالنا هذا، ولكننا لا نريد أن نضرب بالقلم في عمق الجاهلية لنستخرج تلك القصص والبطولات التي كانت تفاخر بها العرب ويترنم بها الشعراء، وإنما نريد أن نسلط الضوء قليلاً على ما وقع في الإسلام من هذا ابتداء من حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم الذي خُلق مبرأً من كل عيبٍ خَلقي وخُلُقي فلم يكن حزمه صلى الله عليه وآله وسلم كحزم الجاهليين، الذين كان أحدهم يخلط حزمه بالغطرسة والظلم واستصغار الآخرين واحتقار آرائهم والاستكبار بفروسيته وقوته وشجاعته في تثبيت ملكه وإقامة دولته، ولكنه صلى الله عليه وسلم أتى بتلك الصفة على كمالها ممتثلاً للأمر الرباني في الاستفادة من أفكار الآخرين ومشاركتهم في صنع القرار وإشعارهم بالمسؤولية في إقامة العدل والاشتراك في بناء الحياة (وشاورهم في الأمر) تلك المشاورة تستخلص من العقول لقاحها لتمتزج آراء العقلاء في رأي واحد به صلاح الراعي والرعية، ولا تخلو الأمة من عقلاء يُحْكِمون الرأي ويحسنون المشورة غير أن الفشل ملازم لمن تجاهل مشورتهم واستصغر رأيهم، وكم وقعت الأمة في نكبات وألمّت بها من ملمات ولا يعني ذلك أنه لا عقلاء فيها ولكن ذلك يعني أنه لم يعبأ بنصحهم وإرشادهم، وكم من بلاء نزل بنا يعقبه تندم المعرضين عن نصح الناصحين وكأن قول القائل:
أمرتهمُ أمري بِمنعرَج اللِوى
فلم يستبينوا الرّشدَ إلّا ضُحى الغدِ
قد قيل فينا، ومع ذلك أيضًا لا تخلو الأمة من حازمٍ يستن بأخلاق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويتحلى بالحزم عقب كل مشورة "فإذا عزمت فتوكل على الله".
وفي قصة عمرة الحديبية عبرة لأولي الحزم والمشورة إذ نزل بالمسلمين من الهم والغم ما نزل إزاء تلك الشروط الجائرة التي حصل بها الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين، فعزم عليه الصلاة والسلام على تنفيذ عقود الصلح مذ ولادتها، فردّ أحد المسلمين الفارين إليه من عنجهية قريش فلم يقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم احترامًا لشروط عقد الصلح الجائرة التي خفي مآلها على كثير من الصحابة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلقوا رؤوسهم، ومن ثم العودة دون دخول مكة، فشق ذلك على المسلمين، وحدث منهم تردد في تنفيذ الأمر آملين أن يراجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر ويأخذ بما يرون فيه العزة لهم، لكن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن العزم الحقيقي في اتخاذ قرار تعود مصلحته على المسلمين مآلاً ورأى ما لم يروه من مصالح خفية تترتب على ذلك الصلح، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها بأن يحلق رأسه ويخرج عليهم محلوقًا فأخذ بمشورتها وعزم على تنفيذ أمره لهم فحلق رأسه وخرج فحلق الصحابة أجمعون، وهنا يضرب الكتاب والمفسرون المثل في تفسير قول الله "وشاورهم في الأمر" وفي العزم والحزم على المضي في تنفيذ القرار المتخذ إذ إن في كثير من الأحيان يعد التراجع عن القرار ضعفًا واستكانة يبدأ من خلال ثغراتها زعزعة قوة الدولة وإعطاء المساحة الكافية لفساد المتلاعبين بالقرار.
وكثير من الأحيان تواجه الأمة أحداثًا قد لا تتاح أمامها الفرصة الكافية لمناقشة الأمر ويتطلب منها الحزم الفوري والقرار الشجاع وسد الثغرة بأسرع ما يمكن لتفادي خطرٍ ما أو لكسب معركة ما، كما فعل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بني قريظة حيث نقضوا عهدهم وظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفور رجوع النبي من الأحزاب أمر بغزو بني قريظة وقال "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" وهذا القرار قرار رباني وحازم حيث لم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه لم يضعوا دروعهم وسيوفهم إذا بهم يؤمرون بغزو بني قريظة لنقضهم ميثاقهم وخيانتهم عهودهم، فكان ما كان مما سطره المؤرخون.
ومما يحسن التذكير به مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الردة بعد المصاب الجلل الذي نزل بالمسلمين بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ارتد من ارتد من العرب، ومنع الزكاة آخرون، فكان القرار الحازم من أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال "كيف نقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله" فقال: والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، فقال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق، فكان في تلك القرارات الحازمة نصر الأمة ورفعتها وعزها وكرامتها.
وإن الأمة في هذه الأزمنة تمر بالمنعطفات الخطيرة والحاسمة في مواجهة أعدائها بكل أساليبهم المتطورة عسكريًا وإليكترونيا واقتصاديًا وأخلاقيًا، وما أحوج قادة الأمة إلى القرار الحازم المبني على استقامة المشورة والموازنة بين اتخاذ القرار وقدرات تنفيذه وأساليب فرضه، وهذا لا يختص بأعلى هرم الأمة الإسلامية، بل يتناول كل والٍ على أي إدارة أو مرفق أو وزارة، لابد من قرار مدروسٍ ومحاط بنصح الناصحين يرافقه حزم وقوة في التنفيذ حتى لا تكون القرارات مجرد أحرف على ورق، لا وجود لها في الأمر الواقع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد