طفل مسلم بين يدي قسيس


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

عبد الله ولد لأبوين، أما أحدهما فمن هذه البلاد، وأما أمه فمسلمة من النمسا.

وُلِد عبد الله في النمسا حيث كانت تقيم أمه هناك، وكانت أسرة أخواله منهم المسلم ومنهم النصراني، ونشأ الصبي يعرف دينه ويعرف ربه، ويعرف كيف يتعامل مع المجتمع من حوله.

ولأن بعض أفراد أسرة خؤولته على النصرانية فكان القس يأتي أحياناً إلى بيت هذه الأسرة فيبّرك عليهم بحسب الطقوس النصرانية، وكان الطفل يشمله التبريك المزعوم إذا كان التبريك عاماً، أما إذا جاء القسيس إلى البيت ليبرك على هذا الغلام المسلم فكان يدفع يده ويرفض أن يضع البركة عليه.

لاحظ ذلك القس وثارت عنده تساؤلات كثيرة: لماذا هذا الطفل لا يقبل البركة؟ وكان يتحين الفرصة ليسأل الغلام عن سر هذا الإعراض.

وفي يوم من الأيام كان الغلام جالسا في الحديقة العامة، وهي قريبة من بيته وقريبة أيضا من الكنيسة؛ فهرع إليه القسيس وجلس إلى جانبه، وسأله لماذا لا تقبل البركة؟ أأنت يهودي؟ قال الغلام بل أنا مسلم.

فقال له القس استمع إلي سأحدثك كأنك رجل كبير وسأعاملك على أنك رجل عاقل.

فقال الطفل له تفضل: فقال له: أنت دينك صحيح فاثبت عليه، ولا يغرك هذا الدين الذي نحن عليه فهو عبارة عن خرافات متوارثة، وإياك أن يغريك خالك النصراني بديانته النصرانية!؛ حيث كان يعلم القس أن هذا الخال متعصب لدينه.

فقال الغلام بكل براءة وصدق: إذا كان ما تقوله حقا فلماذا تصر عليه وتثبت عليه؟.

فقال: أنت ترى أنني رجل كبير في السن، ومن الصعوبة بمكان أن أتخلى عن ديني، بل أعتبر ذلك خيانة لديني.

ثم انصرف عنه وفي ذهن الغلام تساؤلات كثيرة، ثم بدأ يجلس إليه هذا القس كلما وجده جالسا وحده في الحديقة ويعامله معاملة الكبار ويعطيه نصائح بناء على تجربته الشخصية لكيفية النجاح في هذه الحياة.

كبر الغلام، ورجع إلى وطنه إلى هذه البلاد الطيبة، ودرس في جامعة الملك سعود، ودرَّستُه في إحدى الكليات التطبيقية؛ فرأيت عليه آثار الاهتمام بدرسه والعناية بكل شاردة وواردة، يسأل ويستقصي ويتابع.

ثم زارني في مكتبي لما رآني قد أوليته عنايتي فأخبرني خبره، وسألته: أتذكر كم كان عمرك حين جلس إليك القسيس؟ فقال: كان عمري سبع سنين وأربعة أشهر، وما زلت أذكر هذا اليوم.

وعهدي بطالبي المخضرم من أبوين مختلفي الأصول والبلد أنه جاد في دراسته وما زال متواصلاً معي؛ فله مني كل شكر وتقدير.

 

وهنا وقفات مع هذه الحادثة:

الأولى: إن كثيراً من أصحاب الباطل سواء من المنتسبين إلى الإسلام أم من أصحاب الأديان الباطلة، يعلمون الحق ويعاندونه، إما مجاراة لمن حولهم أو مخافة الذم، وقديما قال أبو طالب للرسول -صلى الله عليه وسلم-:

وعرضت ديناً قد عرفت بأنه    من خير أديان البر دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة    لوجدتني سمحاً لذاك مبينا

وهذا دَيْدن كل مستكبر؛ فقد قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.

وأذكر أنني قابلت قساً في مصر، ودار بيني وبينه مناقشة في بعض مسائل دينه، وأجاب عن بعضها بصراحة، وأجاب عن أخرى بحيدة، وتهرب عن قول الحق، وقال عن التثليث: إنه عقيدة فوق الإدراك البشري بل فوق مستوى العقل.

وسألته عن القرآن فقال: أعلم أنه وحي الله المنزل وأنه لم ينقص منه حرف واحد، وسألته عن الحوار بيننا وبينهم فقال: هما مسألتان: الصليب ومحمد، إن قبلنا الصليب فلن نعترف بمحمد، وإن قبلنا محمد تركنا الصليب.

وسبق أن تذاكرتُ أنا ومعالي الشيخ الدكتور عبدالله التركي -الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي- حول الحوار فقال: كنت في أحد مؤتمرات الحوار، وكان من بين النصارى رجلا متمكنا، فلما فرغنا من المؤتمر تناقشت أنا وإياه على حدة، فقال لي: أعلم أن كتابك حق، وأنه وحي الله لم يتغير ولم يبدل.

الثانية: أن الحق إذا خالط القلب يتعذر أن يغادره؛ ولذا رأينا هذا الصبي يتمسك بدينه ويعتصم بربه على الرغم من أن البيئة المحيطة كانت بيئة مختلطة أديانها، بل الأسرة الواحدة تجد فيها أكثر من ديانة.

الثالثة: أن التربية في الصغر على الفضيلة تُكسب صاحبها حصانة تحفظه -بعد الله- من الزيغ والهلاك؛ لذا يذكر هذا الشاب وهو لا يزال يتردد على أخواله في النمسا كيف أنه لا يمكن أن يقع في الرذائل السلوكية والقاذورات المعنوية كالخمر والزنا، بينما يعيب على بعض مَنْ نشأ في بلاد المسلمين من يتردد على بلاد الكفر ليعاقر الفساد ويرتكب المحرمات.

الرابعة: عظمة هذا الدين؛ فعلى الرغم من هذا الكَيْد المتواصل من أعدائه لا يزال باقياً شامخاً عزيزاً؛ لأن الله كتب له البقاء والنصر بعز عزيز أو بذل ذليل كما في الحديث عن تميم الداري قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر).

وكان تميم الداري يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply