شذرات من سيرة شيخي ووالدي العلامة عبدالكريم بن محمد اللاحم رحمه الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في أواخر عام 1395هـ كنت أتردد على أساتذتي في المعهد العلمي بمكة؛ ألتمس منهم التوجيه والنصح لي بالجامعة التي سألتحق بها، والتخصص الذي سأدرس فيه، وكلهم نصحني بالالتحاق بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وإن كانوا تفاوتوا في ترشيح التخصص الذي ينبغي أن يكون مجال دراستي؛ فبعضهم نصحنى بكلية اللغة العربية، والأكثر نصحني بكلية الشريعة.

في مقابلتي للقبول بكلية الشريعة قابلني شاب لَبِقٌ لا يزال حينئذ طالباً في الجامعة هو الطالب عبد الله الشريف الذي أصبحت وإياه بعد ذلك زميلين في قسم السنة، ونصحني بالالتحاق بكلية أصول الدين وكانت في ذلك العام قد انفصلت عن كلية الشريعة بعد أن كانت قسماً فيها، ونهض بمهمة إنشائها شيخنا الشيخ عبد الكريم اللاحم رحمه الله بعد أن أظهر تفوقاً إدارياً بارزاً في وكالة كلية الشريعة، ولكنني أبيت إلا كلية الشريعة فهي الكلية التي أنهضني حبها من الحجاز، ودعاني لترك ما سواها مع تعرضي بسبب ذلك للغربة والبعد عن الوالدة وكنت أصغر أبنائها وكانت تشفق علي من الغربة، فدرست في كلية الشريعة سنتين ثم التحقت بكلية أصول الدين في السنتين الأخيرتين لأسباب ليس المقام مقام عرضها.

من ذلك الوقت بدأت علاقتي بالشيخ الجليل؛ فدرسنا عليه مقرر الفرائض، وكنت أرقب في نظراته إليَّ وتعامله معي نوعاً من التقدير البارز، والمحبة الصادقة، والحرص على تفوقي. لقد كان بحق فقيهاً فرضياً، لا تقف في وجهه مسألة، ولا يحتاج إلى طول تأمل، بل أكثر المسائل لا يحتاج في قسمتها إلى كتابة، وإنما يجريها على تفكيره فيحلها تامة بذكر أصلها وأنصباء الورثة بالأرقام كأنه آلة حاسبة، فلما فرغت من الكلية رشحت معيداً فيها وأجزم أن ذلك بسببه رحمه الله.

بعد تخرجي من الكلية بسنة فوجئت بأحد الأصدقاء يعرض عليَّ أن أصاهر الشيخ، وأنه لا يمانع من القبول لو تقدمت إليه، لقد كان لذلك أثر عظيم في نفسي؛ فلم يسبق لي أن تحدثت إلى الشيخ في هذا الموضوع مباشرة أو بواسطة، ثم إنني من منطقة بعيدة فأنا من الحجاز والشيخ من القصيم، والشيخ رجل معروف، وسيتسابق الناس إلى مصاهرته، فليس بحاجة إلى أن يعرض ما عنده على أحد، وابنته هي كبرى بناته ولما تكمل الثانوية بعد، فليس هو في عجلة من أمره ليلتمس من يصاهره؛ ولكنه النبل والشهامة؛ فما كان مني أن أتردد في الإقبال على ذلك، فتقدمت وتم ما أراده الله من مصاهرة الشيخ، فأكرمني الله بزوجة أعدّها من خيرة النساء ذات دين متين، وخلق فاضل، وحسب عريض، وعقل وافر كثيراً ما استنرت به فيما يلم بي من الأحوال، وهي مع ذلك نديّة الكف لا تقعد عن فعل خير تستطيعه، ولا تدّخر مما في يدها شيئاً، قد آثرت آخرتها على دنياها، فاللهمّ تقبّل عملها وأكرمها في الدارين.

وقد ظفرت بالتيسير في أمر الزواج حتى إنني قدرت على ذلك مع كوني قريب عهد بالتخرج وليس لي موارد مالية سوى وظيفة الإعادة. ولا عجب فقد كان من خلق الشيخ رحمه الله التيسير وترك التكلف؛ فهو رجل يكره البهرج، ويمقت المغالاة، وتؤذيه مظاهر السرف والتبذير التي توجد في المجتمع، مع حرصه على السنة في ولائم النكاح بعيداً عن المبالغات أو الاختصار الذي يحرم الناس فرح المناسبة.

كان الشيخ رحمه الله عَلَماً في الإدارة فإذا وَلِيَ عملاً صرف همته إليه، فلم يعد يزاحمه في الاهتمام به غيره، فيعطيه كل وقته، ويصرف إليه جلّ إبداعاته، في عمل دؤوب وصبر جميل، ولست أجد وصفاً لحاله في عمله الإداري أبلغ من وصف شيخي الدكتور أحمد معبد عبد الكريم الذي عبّر عن ذلك بعد أن أقسم لي على هذا الوصف ثلاثا فقال: "لم أر أحداً يمارس العمل الإداري بروح التعبد لله والنفع للمسلمين مثل الشيخين الشيخ عبد الكريم اللاحم والشيخ عبد العزيز الرومي".

ثم حكى لي الشيخ في هذا الباب حكايات تدل على هذا الوصف الذي قاله، ومن تلك الحكايات:

أن الأساتذة المتعاقدين حينما يَقدَمون للتدريس يحتاجون إلى استئجار بيت ليستقروا فيه، و مستحقاتهم التي يستعينون بها على تهيئة الاستقرار تحتاج إلى بعض الوقت؛ لاستكمال الجوانب الإدارية حتى يتم الصرف، لكن الشيخ يتصل بهؤلاء الضيوف الكرام في الليلة الثانية من قدومهم، ويصرف لهم سلفة من عنده يستطيعون بها الاستئجار وقد تصل إلى ثلاثين ألفاً، وهنا يتمنَّع بعضهم خشية أن يثقل على الشيخ وكان رده حينئذ: "هذه كليَّتي وأنا أسلّفها، وسآخذ بعد ذلك البديل". قال الشيخ أحمد: "لم أسمع هذا منه، فهو لا يتحدث بمثل هذا، وإنما سمعته من أكثر من واحد منهم دون علم الشيخ رحمه الله". ما أعظم هذا النبل وما أنبل هذه الشهامة!!

كان الشيخ يقود الكلية بروح الأب الذي يضع يده في يد أبنائه، فترى الجميع يداً واحدة قد أشربهم تفانيه في العمل، وروحه في التضحية، وحرصه على التجويد؛ فأورث ذلك أخوّة صادقة، وتعاوناً مثمراً. وهو في هذا لا يستنكف عن المشاركة لهم في وقت الدوام وغيره، وقد يذهب ليشتري لهم الطعام لانشغالهم بالعمل، وقد حكى لي شيخنا الشيخ أحمد معبد: أنه حين نقل أثاث الكلية من المبنى القديم إلى المبنى الجديد كان يبقى مع العاملين إلى الليل، بل يشاركهم في الليل، وقد بات عدة ليال في الكلية ولم يذهب للبيت ليستريح.

لقد كان للشيخ في عمله الإداري سمتان:

أولاهما: بذل غاية الجهد؛ فهو لا يدّخر جهداً يمكن أن يبذله، ولا يضنّ بشيء من وقته  على عمله، وهذا سر حرص المسؤولين عليه، فكان وكيلاً لكلية الشريعة ثم عميداً لكلية أصول الدين ثم مديراً لفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ثم مديراً للمعهد العالي للقضاء.

وثانيهما: حرصه على التطوير؛ فهو لا يدير عملاً إلا ويُحدِث فيه أثراً ملموساً في تطويره؛ من حيث التجهيزات، أو سياسات العمل وإجراءاته. وهو في تطويره بعيد النظر، يرقب المستقبل البعيد - حيث تزداد الأعداد ويكثر الاحتياج وتتعدد التخصصات -، جسور لا يعرف التهيُّب أو التردد.

في سنوات الكلية الأولى لكلية أصول الدين أدخل مقرر تخريج الحديث النبوي، وهو مقرر جديد ألّف فيه شيخنا الشيخ محمود الطحان كتابه المعروف في التخريج، الذي كان عمدة الأساتذة في تدريس هذه المادة إلى عهد قريب، وهذا المقرر مقرر عملي، يحتاج إلى مكتبة تتوفر فيها كتب السنة الأصلية بأعداد تمكِّن الطلاب من التطبيق؛ فعلم التخريج والحكم على الرجال علم تطبيقي وليس علما نظرياً محضاً، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن وفّر هذه المكتبة في وقت قصير جداً. وأعتقد أن هذا المقرر بمنهجيته  وآلياته كان هو المصنع الأول الذي أنتج ولا يزال الرسائل العلمية في تخصص السنة النبوية.

والشيخ في عمله الإداري بإنجازاته وإبداعاته صموت لا يكاد يتحدث عنه، وقد جالسته أكثر من خمسة وثلاثين عاماً؛ مجالس علم، ومجالس أُنس، واجتماعات أسرية؛ فما سمعته يتحدث عن أعماله ولا عن إنجازاته؛ إلا إذا جاء ذلك عرضاً من غير قصد مع اختصار شديد، وحين يتحدث لا يشعرك بأنه وراء هذه الإنجازات وإنما هي إنجازات كل العاملين معه، ولولا ما نسمعه من العاملين معه ما عرفنا شيئاً من ذلك، وأحسب إن شاء الله أن ذلك سر توفيقه ونجاحه.

مع انشغال الشيخ بأعماله الإدارية لم ينقطع عن التدريس، فهو يدرّس مادة الفرائض للطلاب في المستويات العليا في الكليات، وعلم الفرائض بالنسبة له هو العلم الذي أحبَّه، وأبدع في عرضه، وأتقن تيسيره للناس، وملأه بالتطبيقات والأمثلة حتى أصبح عَلَماً فيه، فأصبح الناس بعد تقاعده يفدون إليه في بيته ليأخذوه عنه.

لقد كان من توفيق الله له أن العمل الإداري لم يشغله عن العلم فيثقل عليه الجلوس له بعد مغادرة العمل الرسمي، شأن من يهجر العلم إذا تولى المناصب الإدارية.

ولقد بلغ من حبه للعلم والإفادة به رغبته بعد التقاعد في مواصلة التدريس بإلقاء محاضرات على طلبة المعهد العالي للقضاء –وكان الشيخ قاضياً بالتمييز الذي تباشره حاليًا محاكم الاستئناف-، ولكن حال دون رغبته تلك زحمة الطرق وبُعد بيته عن الجامعة.

حين فرغ الشيخ من الأعمال الرسمية اتجه بكليته إلى تدريس العلم، ففتح باب مكتبته للطلاب جميع أيام الأسبوع فترة ما بين المغرب والعشاء ما عدا مغرب الثلاثاء الذي خصصه للاجتماع بعائلته من الأبناء والأحفاد.

كانت دروسه في مكتبته في فنون عديدة من التفسير والحديث والفقه والأصول والقواعد الفقهية والفرائض والنحو، يدرس عليه في هذه العلوم كبار طلبة العلم من القضاة والملازمين القضائيين وطلاب الدراسات العليا وبعض محبي علم الشريعة من التخصصات الأخرى فقد درس عليه علم الفرائض بعض الأطباء والمهندسين.

درست على الشيخ -نوّر الله قبره- كتابه "الفرائض" وكتابه "شرح تحفة أهل الطلب في تجريد أصول قواعد ابن رجب" وكتاب "الروض المربع" ومعظم كتاب "شرح منتهى الإرادات" وأبحاث خاصة كتبها الشيخ في بعض المسائل الفقهية.

كان الشيخ رحمه الله  في درسه العلمي معنيّاً بإيضاح عبارة المؤلفين، وتقرير وجهها وتهذيبها، وتفصيلها بحيث يميز بين الصور المتشابهة تمييزاً واضحاً، ثم يرجح أحياناً ويوضح ما في كلام المؤلف من مؤاخذات، ويراجع ما ذكره المؤلف من الأدلة؛ فكم ذهبت جلسات في مراجعة ما قرره المؤلف من استدلالات بآية قرآنية، فنراجع أكثر من  كتاب من كتب التفسير، وكذا الأمر في مراجعة كتب السنة لمعرفة درجة الحديث من أهل التصحيح والتضعيف، وكذا مراجعة كتب اللغة في المفردات التي تحتاج إلى ذلك حتى إن الدرس أحيانا ينقلب إلى قاعة بحث فلا نأخذ من مادة الكتاب المشروح إلا القليل، والشيخ لا يتوسع في بسط أقوال أهل العلم ولعله رأى في تعدد الروايات في المذهب ما يحقق هذا الغرض أو جلّه.

لقد أكرمه الله بقدرة عجيبة على حَلِّ العبارات المستغلقة، وتيسيرها حتى تغدو أسهل ما تكون. كنا نقف كثيراً عند بعض المقاطع من "شرح منتهى الإرادات"، فلا نكاد نستبين مراد المؤلف على وجه التحقيق، فنعيد الأمر إليه، فيشرح عبارة المؤلف رابطاً بين أولها وآخرها مميِّزاً بين الجمل المعترضة وغيرها، مُفَصِّلاً ما يخرج بكلامه من حيث اللفظ أو اللزوم، كل هذا وعبارة الكتاب ليست بين يديه يجيل فيها النظر، بل يسمعها مرة أو مرتين فقط، حتى إنني كنت أعجب من هذه القدرة التي آتاه الله إياها، ومَن درس "شرح المنتهى" يعرف ما أقول على سبيل التحقيق.

درْس الشيخ رحمه الله درْس تعليمي، فهو لا يقف في وجه استشكال أو اعتراض برده أو الإعراض عنه؛ بل يقبل ذلك بكل رحابة صدر، ولا ما نع لديه من التكرار وإعادة الجواب بأكثر من عبارة حتى يَظن أن السائل قد أدرك الجواب، بل لا يستنكف عن سماع النقد على ما انتهى إليه من ترجيح، وقد راجعناه غير مرة فيما انتهى إليه رحمه الله، فأحيانا يوافق على الاعتراض ويراه أولى مما رجّحه، وأحيانا يرى أن للاعتراض وجهاً مقبولاً لكنه لا ينقض ما انتهى إليه من ترجيح، وأحيانا لا يرتضيه، لكنه لا يزيد على السكوت في مثل هذه الحال.

 

والشيخ مع  سعة صدره في قبول النقاش كان يستحبّ من السائل والمعترض أن يكون محرَّر العبارة، دقيق الإشارة، وهذا ما حدا بنا جميعاً إلى أن يجري الواحد منا الإشكال أو موضع الاعتراض على قلبه قبل أن ينطق به لسانه، وكان يذكّرني هذا المسلك منه بمنهجية شيخنا الشيخ  عبد الله بن غديان عليه رحمات الله ومغفرته.

كما أن الشيخ -رحمه الله- كان يستعين بكل ما يستطيع في إفهام الدارسين؛ ولذا أَعدَّ لدرس الفرائض سبورةً وأقلاماً كأنه في فصل دراسي في الجامعة يكتب ويمسح ويملأ السبورة ثم يعيد الكتابة فيها.

للشيخ عناية تامة بالدليل، وإذا صح الدليل عنده لم يزاحمه شيء، فهو المقدَّم عنده على كل شيء، ولكن ذلك التسليم مصحوب بفهم عميق للأدلة الشرعية، وفهم نافذ  لمراميها وغاياتها، وقبل ذلك التدقيق في منازع الاستدلال؛ ولا غرو فالشيخ كما أنه فقيه ضليع فهو أصولي أيضاً وإن كانت صناعة الفقه عليه أغلب، وأذكر على سبيل المثال أنه لم يكن يرتض منهج من قرر الوجوب في بعض أعمال الصلاة بحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وفي بعض أعمال الحج بحديث: "خذوا عني مناسككم"؛ فإن هذين الحديثين في نظره سِيْقا لتقرير وبيان هيئات الصلاة والحج، وليس لتقرير الحكم التفصيلي، وإلا للزمنا القول بوجوب كل ما عمله من أعمال الصلاة والحج، وهذا ما  لا يستطيع طرده أي فقيه؛ وإنما يستفاد الوجوب من طريق أدلة أخرى.

والشيخ في فقهه ينهج منهج التيسير ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ما لم يحل دون ذلك دليل ظاهر، أو يكون التيسير يجر إلى مفاسد قريبة يغلب على الظن وقوعها. وكم رأيت الشيخ رحمه الله مسروراً بما صدر من فتاوى فيها تيسير على الحجّاج في مناسك الحج، ولا عجب مِن هذا فقد أفادته تجربته في القضاء الجمعَ بين هذين الأمرين: التيسير، والاحتياط. وكثير من المتفقهة يفوته الجمع بينهما؛ ولعل علّة ذلك البعد عن معترك الحياة ومعرفة مواطن الاحتياج في حياة الناس وما استجدّ لهم من فنون المعاش، وكذا قلة الخبرة بما لدى بعض الناس من التفنن في التذرع بالمباحات ليصلوا إلى مراداتهم المخالفة لمرادات الشرع. والفقه معالجة الواقع بدواء الشرع، وليس أطروحات فلسفية، ولا تقريرات نظرية؛ ولذا فإن أولى الناس في نظري بدقيق الفقه وعميقه مَن عالج القضاء والفتوى.

كنت وأخي الدكتور خالد ابن الشيخ نقرأ على شيخنا في كتاب "شرح المنتهى"، وكان الشيخ في ذلك الوقت يحبّر كتابه الأثير على نفسه و الذي كان يسابق فيه أجله، كتاب "المطلع على دقائق زاد المستقنع"، ومن خوف فَجْأة الأجل بدأ بقسم المعاملات إلى آخر الكتاب ثم شرع في الكتاب من الأول لأنه كان يرى أن قسم المعاملات يحتاج إلى مزيد عناية ودقة في التصوير، وقد أكرمه الله ففسح له في أجله حتى أتم كتابه قبل أن يغادر دنياه بقليل، فلما فرغ الشيخ من قسم المعاملات وطبعه طلب منا أن ننتقل إليه بدلا من "شرح المنتهى"، فكان ما أراد.

 وكتاب "المطلع" أراد به الشيخ أن يشرح عبارة الزاد الذي كان يحفظه، ويحتفظ بنسخته التي اقتناها وهو طالب في المعهد العلمي، وهي نسخة عتيقة قد اصفرت أوراقها، وتكاد الورقة منها أن تتشقق ما لم تقلَّب برفق. وكان الشيخ إذا تساءلنا عن مسألة، يقول بعبارته الظريفة: "أعطوني بخاري المذهب"، ويفتح الكتاب على أقرب المواضع إلى المسألة دن رجوع إلى فهرس أو زيادة في التقليب ويكاد يتصور مكان المسألة من الصفحة من شدة عنايته بالزاد.

كان الشيخ رحمه الله يقدر أنّ "زاد المستقنع" لا يزال بحاجة إلى خدمة جديدة: تُفصِّل مجمله، وتُوضِّح صور مسائله، وتُحرِّر الاستدلال لها، وتثريه بالأمثلة المعاصرة - حتى يعيش الطالب الفقه في واقعه -، وتبسط بعض المواطن المهمة التي تمثّل أصول المسائل، وتعتني بالفرق بين المتشابهات؛ فإنما الفقه كما قال بعض السلف: " فرق وجمع". هذا مع سلوك ما تعارف الناس عليه اليوم من تنظيم المعرفة من حيث تقسيماتها المعهودة إلى فصول ومباحث ونحوها، فعمد الشيخ إلى الزاد وجعله زُمَراً كل زمرة تجمع عدداً من الأبواب: فزمرة فقه الطهارة، وزمرة فقه الصلاة وزكاة المال والصيام والمناسك، وزمرة أحكام المعاملات، وزمرة أحكام الأسرة، وزمرة فقه الجنايات والحدود، وزمرة فقه الأطعمة والذكاة والصيد.. وزمرة فقه القضاء والشهادات، وطريقته في ذلك: أن يقسم الباب تقسيمات دقيقة تستوعب مسائل الباب بترتيب عقلي متدرج؛ فيقسم الباب إلى مباحث، ثم إلى مطالب، ثم إلى مسائل، ثم إلى فروع، ثم إلى أمور، ثم إلى جوانب، ثم إلى أجزاء، ثم إلى جزيئات، ثم إلى فقرات، ثم إلى أشياء، ويجعل لكل شيء من هذه التقسيمات عنواناً بارزاً يسوق تحته ما يختص به ولو كان لا يتجاوز ربع سطر.

وغرض الشيخ من هذا التفنن في التقسيم: تجويد التصوير للمسائل، وبناء الملكة الفقهية التحليلية، وإحكام الربط بين أصول المسائل وفروعها الناشئة عنها، وقد أراد به -كما صرح غير مرة - نفع الأساتذة والعاملين في السلك القضائي؛ لأنهم أحوج ما يكون إلى جودة بناء المعرفة؛ لبناء الفقيه بالنسبة إلى عمل الأستاذ؛ ولدقة الحكم بالنسبة إلى عمل القاضي. ودقة التقسيم من أعظم ما يعين على درك الصواب في التقرير والحكم، وإنما يقع الخطأ في الإجمال، وإنني لأرجو أن يعتنى بهذا الكتاب إلكترونيّاً في تطبيقٍ أو نحوه؛ لأنه ذلك ييسّر تداوله أكثر من المطبوع.

وعموماً، كل تأليفات الشيخ رحمه الله ذات طابع تعليمي، وهي أشبه ما تكون بتآليف الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله؛ ولذا كتب الله لها القبول، وتداولها الطلاب والمعلمون بالتدارس والتدريس.

 والشيخ قد أُشرِب حب العلم، فهو شغله وسلوته، لا يأنس إلا به، ولا يحب أن يذهب شيء من وقته في غير فائدة علمية، وقد كان لنا لقاء سنوي في البرية يشاركنا فيه الشيخ فيكون معه كتابه لعلنا نجد متسعاً من الوقت فنقرأ، وربما كان من الكتب الخفيفة الماتعة، فقد كان معه في أحد تلك المرات كتيب جمعت فيه نوادر الشيخ العلامة عبد الله بن حميد رحمه الله في القضاء.

 

وكان من حبه للعلم كتابةً وقراءةً أنه يطيل المقام في المكتبة حتى بعد عجزه عن الكتابة والقراءة، وأجده أحياناً قد صفّ الأوراق بين يديه يرتّبها ترتيب مقبل على الكتابة، وقد برى عامة الأقلام الرصاص، فأقول مستبشراً: "ما شاء الله، يبدو أنك اليوم كتبت مباحث جديدة"!!، فيقول: "لا والله، لا أستطيع". يفعل هذا وقد اشتد به المرض حتى بلغ منه أنه إذا تعمّق في التفكير في شيء ولو لم يتكلم به تزداد حالته، فكنت أرى في صنيعه هذا السلوة بأنيس العمر ورفيق الدرب ومورد البهجة، إنها الأوراق والأقلام.

وفي أواخر الأيام في القصيم أحسَّ بشيء من النشاط، فأخذ بكتابة ورقات يسيرة، بل كان قبل أن يذهب إلى المستشفى يُقرَأ عليه في مكتبته، فلما أحسّ بالتعب خرج، وقال للجالسين: "أكملوا القراءة لعلنا نعود إليكم قريباً"، ولكنها كانت لحظة وداع، فما فارق منزله إلا وقد وافاه الأجل وهو في طريقه للمستشفى، فسبحان من غرس حب العلم في قلبه حتى لم يعد يتسع لشيء من الملذات سواه، ونعمت اللذة هي؛ أجر وذخر وبصيرة وحسنة ممتدة، ونهر حسنات -نرجوها- كلما قرأ تآليفه القارئون وتدارسها المتدارسون، اللهم فاجعل له بكل حرف كتبه نوراً يسعى بين يديه يوم القيامة.

وافاني خبر وفاته صباح السبت الحادي والعشرين من شوال عام ثمان وثلاثين وأربعمائة وألف فطوت اللوعة نفسي، وجرت على الخد دمعتي، وأحسست بفراغ في نفسي لست أدري ما يملؤه؛ فقد فقدْت عزيزاً أي عزيز، كان يُكثِر السؤال عني إذا غبت لسفر ونحوه، ويتسائل: "أين أبو زياد؟"، وإذا جلست إليه هش وبش، ورحب وهلاّ، وإذا أردت القيام رَغِب في أن أُطِيل المقام معه.

 

كنت أستشيره فيما يعنّ لي؛ فأجد عنده الرأي الصائب، والعقل الناضج، والنصح الأبوي؛ فكان لي أباً بعد أبي، جالسته أكثر من ثلث قرن؛ فما كهرني ولا نهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أسمعني شيئا أكرهه، وإنما لقيت منه الاحترام والتبجيل، وخالص الدعاء بالتوفيق والتسديد. وكم يخجلني يوم أن يقف مني أحيانا موقف المستفيد، أو المستشير، وإنما المستفيد حقيقة أنا. رحم الله تلك الأخلاق الزكية، والشمائل العذية، والأردان الطاهرة.

لن أنسى شيخي وأستاذي، وسأحرص ما استطعت أن أصله بالدعاء وبما أستطيع، وسيكون يوم السبت يوم الدرس الثابت معه موعداً يثير الشجن ويبعث حرارة الفقد، لكني أرجو أن يكون مذكِّراً بدعاء صالح لوالد لن أنسى مآثره، ولن تنمحي من النفس حسناته.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحلّه رضوانه، وأن يبوّئه أعالي جنته، وأن يجزيه خير ما جزى عالما من علماء هذه الأمة المباركة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply