المرأة التي اختزلت فيها قصة الدولة الطولونية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

تلاقت الرغبتان، رغبة خمارويه بن أحمد بن طولون ورغبة المعتضد في إنهاء النزاع بين الدولة العباسية والطولونية، ولقد كان هذا سهلا فيما يخص الطولونيين، إذ إنهم ليسوا دولة دعوة كما هو الحال مع العلويين والخوارج، وليسوا من العرب فينافسون العباسيين على الخلافة، وإنما يناسبهم أن يكونوا كالأغالبة في إفريقية والطاهريين في خراسان والسامانيين فيما وراء النهر، دول تتمتع بحكم ذاتي مع الانضواء تحت راية الخلافة وربما دفع مبلغ من الأموال سنويا كدليل على هذا الانضواء وقياما بواجبها نحو السلطة المركزية.. كذلك لم يكن الخلاف بين الموفق وابن طولون أكثر من الخلاف السياسي، فليس بينهما ثارات شخصية أو حروب طويلة.

بادر خمارويه بإرسال الهدايا والتحف إلى المعتضد أول توليه الخلافة (279هـ)، وعرض على المعتضد بنته قطر الندى لتتزوج من ابن المعتضد، وبهذا العرض أراد خمارويه توثيقا للروابط وإنهاء للنزاع القديم وضمانة بألا يخالف خمارويه على المعتضد، فتلقى المعتضد كل هذا بالحفاوة والإكرام، وعاد الوزير بهذه الرسالة (25 ربيع الأول 280هـ) باتفاق يقتضي دفع مائتي ألف دينار للخلافة عن السنين الماضية، وثلاثمائة ألف دينار في كل سنة، واتخذ المعتضد قطر الندى زوجة له بصداق مليون درهم كدليل على مزيد من التكريم.

وبدأ خمارويه في التجهيز الأسطوري لقطر الندى..

 

الزفاف الأسطوري

وقد فاضت كتب التاريخ بأنباء هذا الزفاف الأسطوري الذي صنعه خمارويه لابنته قطر الندى، حتى لقد شك بعض المؤرخين أن المعتضد قد يكون قَصَد إلى إفقار خمارويه وهو ما نستبعده بلا شك، ونرى أن هذا الإسراف إنما هو لغرض التفاخر والتباهي وبقائه كأسطورة على مر التاريخ.

لم يُبق خمارويه «خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب... وحمل معها ما لم يُرَ مثله، ولا يسمع به... ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد... فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرًا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعُلِّقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس».

 

فرحة لم تكتمل!

وصلت قطر الندى إلى بغداد (281هـ)، في يوم من أيام بغداد، وكان الزفاف على المعتضد (5 ربيع الأول 282هـ)، وصفت العلاقة بين الخلافة والدولة الطولونية وبدا أن الصفحة قد طويت وأن الأيام القادمة هي أيام الهناء.

إلا أن شهورا معدودة حملت جديدا غير متوقع، ذلك أن خمارويه بن أحمد بن طولون قُتِل على فراشه على يد بعض خدمه (ذي الحجة 282هـ)، وتولى الأمر من بعده ابنه جيش، لكنه لم يكمل في الحكم إلا ستة أشهر ثم قتله أخوه هارون، وتولى مكانه، وكان هذا بداية اضطراب الدولة الطولونية، التي كانت قد بلغت شأوا عظيما، فانحدرت بسرعة غير متوقعة إلى الانهيار.

التزم هارون بن خمارويه بأداء مليون ونصف دينار إلى الخلافة كل عام، فأقره المعتضد على هذا، فتفرغ هارون لتثبيت أمره في الولايات التابعة له في مصر والشام، ثم تنازل هارون عن ولايات قنسرين والعواصم وسلمها للخلافة (286هـ) مقابل أن تقره الخلافة على ما في ملكه من مصر والشام، وعلى أن يدفع لها سنويا نحو نصف مليون دينار. وهذا في حد ذاته دليل على ضعف الدولة الطولونية.

في العام التالي (287هـ) توفيت قطر الندى بنت خمارويه، زوجة المعتضد، فكأن عُرسها كان عُرس العلاقة بين الخلافة ودولة أبيها، فلما انقضى العُرس انقضى زمانها!

وهكذا تفعل الدنيا بالملوك.. ينفقون ما استطاعوا لحفظ عروشهم ثم يأتيهم الغيب بما ينقض كل أحلامهم، فليس إلا أيام أو شهور حتى ينتقل من القصر إلى القبر، أو من العرش إلى السجن!!

من كتاب رحلة الخلافة العباسية الجزء الثاني  العباسيون الضعفاء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply