حال الشيخ ابن غديان مع القرآن


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

أول علم أتقنه وانتهى منه حفظ القرآن، ثم بدأ يرتقي في منازل العلم. اعتاد منذ صغره وفي أول طلبه للعلم  أن يذهب مبكرًا لصلاة الجمعة، فيبدأ في القراءة في أول القرآن، ولا يقوم الخطيب إلى منبره إلى وهو في آخر سورة منه.

لا زلت أذكره إذا كنا في سفر، ينشغل الجميع بنوم أو أكل أو حديث، وهو وحده الذي لا يفقد صوته من خروجنا إلى وصولنا، صوتٌ محبب، وقراءة حدر لا ينقص منها حرف، وكان يختم في طريقه هذا.

بينما كنت أبحث معه يومًا عن كتاب في المكتبة إذ به يحرك شفتيه بقراءة سورة من القرآن وأدركت أنه في بدايتها، ولما اقتربت منه بعد فترة وجيزة إذا به ختمها، وبدأ في السورة التي تليها.

كان رحمه الله يقرأ القرآن ولا يتعتع ولا يتوقف حتى للتذكر. كان يقرأ كما لو كان يتنفس

يجلس أحيانًا معنا، وإذا توقف الحديث تحركت شفتاه يقرأ ويقرأ، ويقول لنا يومًا: جربت قراءة الجزء في ثمان دقائق! وكان يختم في ثمان ساعات تقريبًا.

استمرت سيرته، تعاهدٌ للقرآن، وقراءة له في جميع أحواله، طيلة حياته حتى توفاه الله..

ومن يتابع فتاويه، ينبهر من قدرته على الاستنباط من الآيات فضلًا عن استحضار عدد كبير منها في جواب سؤال واحد. وإني لأعجب كيف لان القرآن له بهذه الطريقة، وينقضي عجبي إذا تذكرت قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ.

رجل صدق مع الله في حبه لكتابه فبّلغه الله قراءته في كل حال وفي كل حين.

ولا يغيب عن بالي حاله أثناء غيبوبته -إثر حادث أصابه-، فقد حدّث من زاره أنه كان يقرأ القرآن وهو فاقد لوعيه. ولا تزال صورته وهو يحمل المصحف ليقرأ منه عالقة في ذهني، عندما زرته آخر مرة في المستشفى، وكأنه طالب انتهى من اختباره ومعه كتابه.

وكان -رحمه الله- ينصحنا كثيرًا بقراءة القرآن، وكان يسألني دائمًا عن وردي في القرآن، وسألني يومًا عن ذلك فاغتنمت الفرصة وقلت: هل أقرأ القرآن بدون تدبر؟

فوضع يده على كتفي ونظر إلى عيني مباشرة؛ وقال وهو يبتسم: اقرأي من القرآن قدر ما تستطيعين، ولا تتوقفي عن قراءته أبدًا، والتدبر سيأتي..

هذا ما استطعنا رؤيته من سيرته وحاله مع القرآن وما يخفي -رحمه الله- أكثر. ولا عجب فهو الشيخ الخفي التقي..

غفر الله له ورحمه ورفعه بالقرآن العظيم، وبلغّه به أعلى المنازل مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

شدنا الحنين يومًا لرحين رمضان.. فاقترحت أكبرنا أن نذهب للشيخ -رحمه الله- في مكتبته نبث إليه ما نجد لعل نفوسنا تهدأ، وجدناه يستعد لصلاة القيام، شكونا وتحدثنا.. وهو كعادته -رحمه الله- منصت، نظر إلينا وابتسم، فطمعنا بحنانه فطلبنا منه أن نصلي خلفه.

وأترككم مع وصف المكان.. كانت المكتبة مظلمة إلا من ضوء خافت يتسلل على استحياء من خارج النافذة، ينشر خيوطه بهدوء، والكتب مصفوفة على الأرفف، ومنثورة بجوار فراش الشيخ.

كبّر الشيخ وكبّرنا خلفه، أخذت المصحف لأتابع معه مستعينة بهذه الخيوط الخفيفة من الضوء، والتي كانت تنتهي عند مكان الشيخ الواقف في منظر مهيب اقتلع أرواحنا من الدنيا وحلق بها، حُفرت في ذهني ولم أنسها ولم أنس الشيخ وهو واقف يقرأ كما هي عادته حدر لا يتوقف فيها بصوته الحبيب، ولا تشعر معه بطول قراءته ولا بطول صلاته، انتهينا من الصلاة..

ثم تحدث معنا، وخرجنا بقلوب غير القلوب التي دخلت..

رحم الله أبي! فقد كانت سيرته كلها رمضان.

اللهم اغفر لعبدك عبدالله بن غديان، وارفع منازله في عليين!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply