الحب الصادق للوطن بماذا يكون؟


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

أيها الأحبة الكرام في الله:

 لقد فطر الإنسان على أمور عديدة، من تلك الأمور أن يحبّ المرء ماله وولده وأقاربه وأصدقاءه، ومن هذه الأمور كذلك حبّ الإنسان لموطنه الذي عاش فيه وترعرع في أكنافه، وهذا الأمر يجده كل إنسان في نفسه، فحب الوطن غريزة متأصّلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجِم، ويغضب له إذا انتُقص، وحينَ يولَد إنسانٌ في أرض وينشأ فيها فيشرب ماءَها ويتنفّس هواءها ويحيا بين أهلها فإنَّ فطرته تربطه بها فيحبّها ويواليها، ويكفي لجَرح مشاعر إنسانٍ أن تشير بأنه لا وطنَ له.

ما أعظمها وما أروعها من كلمات!!

إنها كلمات قالها الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام – وهو يفارق وطنه الذي تربى وترعرع فيه، إنها كلمات تكشف مدى حب النبي -عليه الصلاة والسلام- لوطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميقٍ، وتعلقٍ كبيرٍ بوطنه، بمكة المكرمة، كلمات قالها النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يفارق مكة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا.

فلمَّا وصَل أطرافَ مكة خارجًا منها، التفَتَ إلى أرضه ووطنه فجاشَتْ نفسه وقال: ((والله، إنّكِ لخيرُ أرضِ الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خرجت)) رواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان وإسناده صحيح.

 

 قال العينيّ رحمه الله: "ابتلى الله تعالى نبيَّه بفراق الوطن"، أُخرج من وطنه، أَخرجه قومُه؛ كما قال – تعالى -: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]،

بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ        وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ

ولأهمية الوطن وترابه، فقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في الحديث عن عائشة – رضي الله عنها-: ((باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا)) رواه البخاري ومسلم.

واستحقَّ الصحابة - رضِي الله عنهم - المدحَ والثَّناء؛ لأنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل نصرة دين الله،

قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]

وقد حكى الله – سبحانه وتعالى – عن نبيِّه إبراهيمَ – عليه الصلاة والسلام – أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله – تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

ودعاء إبراهيمَ – عليه الصلاة والسلام – يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ لمستقر عبادته، وموطن أهله.

ولقد دعا لمكة بالأمن والرِّزق، وهما أهم عوامل البقاء، وإذا فُقِد أحدُهما أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة، فتُهجَر الأوطانُ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر الحياة؛ ولهذا نرى أن الله – سبحانه وتعالى – شدَّد في عقوبة مَن يُفسِد على الديارِ أمنَها؛ بل جعل عقوبتَه أشدَّ عقوبةً على الإطلاق؛ قال – تعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، فهل بعد هذه العقوبة من عقوبة؟!

 ولذلك جعل التغريب عن الأوطان في شريعة الرحمن، جُزءًا من العقوبة على بني الإنسان، إذا وقَع في الزنا من غير إحصان، وتوعد قوم شعيب شعيبا-عليه السلام- ومن تبعه بأن يخرجوهم من أرضهم أو يعودوا في ملتهم، ولوط -عليه السلام- توعده قومه بأن يكون من المخرجين إن لم ينته عن نصحهم.

 

معاشر المسلمين الموحدين:

 كم يتلذَّذ الإنسان بالبَقاء في وطنه، وكم يحنُّ إذا غاب عنه، وكم ترخص الأرواح، وتُبذَل المُهَجُ لأجله، فحبُّه ومحبَّته تجري في العُروق، وتخفق بها القلوب، كيف لا وقد قرَن المولى - سبحانه - حبَّ الأرض بحبِّ النفس؟ قال - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]

 

بصلة الأرحام تطيب الإقامة في الديار:

ومما يتجلى فيه حبُّ الأوطان، صلة الأرحام، فهم قرابته وأنسه، وبهم تطيب الإقامة في الديار؛ لذلك جعل الله صلةَ الأرحام من أعظم القُرُبات، وقطيعتَهم قرينَ الإفساد في الأرض.

قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 – 24].

 

أيها الأحبة الكرام في الله:

من هو المسلم الصادق؟

إن المسلم الصادق أصدقُ الناس حبًا لوطنه، ويعمل كل خير لبلده، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه؛ لأنه يريد لأهله سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام، قال تعالى حكايةً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} [غافر:29] ؛ قال ذلك محذرًا لقومه وناصحًا لهم ومريدًا لهم الخير والصلاح والنجاة .

وإن المسلم الصادق يعمل للأمة، ويحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، ويدافع عنها، ويسعى لوحدتها.

وإن المسلم الحق يقدِّم الأقرب فالأقرب، ولا ينسى من هو بعيد، وكل مسلم على ثغر، فلْيحذر أن يُؤتى وطنُه، أو تؤتى أُمتُه مِن قِبَله.

بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي        يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي

 

أيها المؤمنون الأوفياء:

الحب الصادق للوطن بماذا يكون؟

حب الوطن الصادق لا يكون إلا بالسعي فيما يُصلحها، ولا صلاح لها إلا في دين الله تبارك وتعالى، ولا قَوام لها إلا بشرعه، وكل ما عارض الشريعة فليس بإصلاح، بل هو من الإفساد وليس من حب الوطن في شيء .

 حب الوطن لمن أراد الخير والأمن لبلده، يكون بالإيمان بالله والعمل الصالح؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

حب الوطن يكون بتحكيمِ الشريعةِ على أرضه وبين أهلِه وعمارةِ أرجائه بالإيمان وتقوى الرحمن؛ قال تعالى:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] .

حب الوطن يكون بإعلاءِ شأن الدّعوة إلى الله فيه وإقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].

حب الوطن يكون بالابتعاد عن الذنوب والمعاصي، وإقصاء الفساد والإنحلال والرذيلة، فإنه دمارٌ للديار وهلاك لأهلها؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] .

 حب الوطن - عباد الله - يكون بالبعد عن البطر وكفران النعم، قال جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112] . 

 

خلاصة ما نقوله، أين يظهر الحب الحقيقي للوطن؟

حب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته، حب الوطن يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، حب الوطن يظهر في تحقيق العدل ونشر الخير والقيام بمصالح العباد كلٌّ حسب مسؤوليته وموقعه، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، حب الوطن يظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع، وأن نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية في نفوسنا، وأن ننبذ أسباب الفرقة والخلاف والتمزق، وأن نقيم شرع الله في واقع حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، ففيه الضمان لحياة سعيدة وآخرة طيبة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". صحيح مسلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply