قصة طالب العلم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إخوة الإسلام هذه قصة بدأت من هذه المدينة الطيبة المباركة؛ أخرج أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه والترمذي في جامعه عن كثير ابن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجلٌ فقال: يا أبا الدرداء جئتك من مدينة رسول الله لحديثٍ بلغني أنك تحدثه عن رسول الله ، فقال أبو الدرداء: أما جئت بحاجة؟ قال: لا، قال: أما جئت لتجارة؟ قال: لا، ما جئت إلا في طلب هذا الحديث.

انظر إلى هذا الرجل.. خرج من هذه المدينة الطيبة المباركة، وذهب إلى دمشق، المسافة نحو ألف كيلو. كيف ذهب! ربما ذهب مشيًا على أقدامه، وربما ذهب على دابةٍ هزيلةٍ ضعيفة، كل ذلك من حديث هو موجود عنده، هذا الحديث هو عنده لكن ذهب من أجل علو الإسناد، سمع الحديث هنا في المدينة فقال للراوي من أين أخذته؟ قال عن أبي الدرداء، أين أبو الدرداء؟ في دمشق.

فرحل إلى دمشق من أجل حديثٍ واحد.. من أجل حديثٍ واحد! انظر إلى تعظيم الدين، انظر إلى تعظيم العلم.. كيف تعب هذا الرجل وبذل هذا الجُهد وهذا الوقت من أجل حديثٍ واحد.

وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله يقول من يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين. فالحرص على تعلم الدين والتفقه فيه. هذه علامة خيرٍ، علامة من العلامات أن الله عز وجل أراد بعبده خيرًا. كما أن مفهوم هذا الحديث وهو مفهوم خطير.. مفهوم المخالفة: قال في الحديث: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. مفهوم المخالفة أن من لم يفقه في دين الله أن الله لم يرد به خيرًا.

فيحرص المسلم على التفقه في دين الله عز وجل وتعلم ما أوجب الله عز وجل عليه من الاحكام كلٌ بحسبه. لما سأل أبو الدرداء هذا الرجل عن قصده وما الذي جاء به وتأكد من ذلك، وسأله أما جئت تجارة ما جئت لحاجة؟ بشره بعد بخمس فضائل. قال فإني سمعت رسول الله يقول فذكر خمس فضائل في طلب العلم. هذه الفضائل الخمس.. الواحدة منها فقط تكفي أن طالب العلم يسعى ويجهد في طلب العلم. لو أخذ بفضيلةٍ واحدة من الخمس فكيف إذا اجتمعوا.

 

قال في الفضيلة الأولى قال سمعت رسول الله يقول: من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة. هذا الجزء من الحديث: من سلك طريقًا فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة هذا الجزء من الحديث جاء كذلك من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي ﷺ في صحيح مسلم: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة. قال طريقًا.. من سلك طريقًا، نكّرها لتتناول أنواع الطرق، الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الشرعية، سواءً كأنت طرق حسية أو طرق معنوية، فالطريق الحسي يخرج الرجل من بيته يذهب إلى الجامعة.. يذهب إلى المدرسة.. يذهب إلى المسجد.. كل ذلك داخلٌ في هذا السلوك.. والطرق المعنوية أن يجلس في بيته يذاكر العلم، ويطالع العلم، ولذلك إذا جلس طالب العلم في بيته، وفتح الكتاب، فتح المحرر وبدأ يحفظ الاحاديث، هو الآن.. يشمله هذا الفضيل. هذا الفضل: من سلك طريقًا.. طريقًا معنويًا وهو جالس، ولو لم يتعرك، ولو لم يمشي. قوله من سلك؛ هنا تنبيه من الناس من إذا سمع هذا الحديث مطلع الحديث: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا.. من الناس من إذا سمع مطلع هذا الحديث أغلق أذنيه وقال هذا الكلام لأبنائنا الطلاب، وظن أنه لا يعنيه، وهذا الفهم خطأ.. الكلام هنا للجميع؛ الكبار وللصغار وللطلاب وللموظفين وللمتقاعدين وللعاملين وغيرهم للجميع، فالعلم لا يعرف سنًا، بل الجميع يُشمل بذلك. وكم من شخصٍ طلب العلم كبيرًا فصار إمامًا؛ مثل الكسائي رحمه الله، الكسائي قالوا بدأ طلب العلم عمره أربعون فصار إمامًا، وأحمد رحمه الله.. أحمد ابن حنبل، رأى أحدهم معه محبرة، فقال إلى متى يا إمام تحمل المحبرة وأنت في هذا السن، وقد صرت إمامًا؟ فقال: مع المِحبرة إلى المقبرة.. مع المحبرة يعني: سأبقى أطلب العلم إلى أن أدفن في قبري. فالعلم لا يعرف سنًا، وليس له حد ينتهي له.

قال في الحديث من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا.. وفي رواية يلتمس، في رواية يطلب، قوله يلتمس ويبتغي ويطلب هذه فيه بشارة، في هذه الفضيلة، وهي أن الفضل الموعود هنا ليس مرتبطًا بتحصيل العلم وإنما هو مرتبطٌ ببذل الجهد.. واضح؟ يعني هنا ينظر إلى البشارة وهذا ما يعظم قدر هذه البشارة وهذا الفضل، قال من سلك طريقًا يلتمس يبتغي يطلب ولو لم يُحصل، يعني بعض الناس يذهب ويجلس في مجالس أهل العلم ويحضرها لكن لا يحصل شيئًا، لسببٍ أو لآخر، فهنا الفضل موعود بماذا؟ ببذل الجهد كونه من بيته وذهب إلى المجلس وجلس فيه فهو إن شاء الله يشمله هذا الفضل ولو لم يُحصل علمًا.

قال من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا.. علمًا كذلك جاءت نكرة، نكرها، لماذا نكرها؟ لتشمل القليل والكثير، فلو حصل مسألةً واحدة أو مسألتين فأنه يشمل هذا الفضل. علمًا نكرة. وعلمًا هنا كذلك نكرها لتشمل أنواع العلوم الدينية الشرعية: كالتفسير والحديث والفقه والتوحيد وغيرها. فهذه أنواع العلوم، لكن هنا يُنبه أن هذا الفضل هو خاصٌ بأنواع العلوم الشرعية الدينية فقط. المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله وهنا يعلم أن كل فضيلةٍ في فضائل العلم الواردة في كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ، مثل قوله: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).  (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). وغير ذلك، كلها إنما المراد بها العلوم المُقربة من الله عز وجل، علوم المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله . ولا تشمل العلوم المهنية التجريبية.

 

يدل لذلك قول الله عز وجل في سورة الروم: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، انظر هنا في الآية قال الله عز وجل: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، لاحظت! نفى العلم واثبته لقوم، فهو ينفي عنهم العلم النافع المفيد، لا يعلمون الذي لأجله خُلقوا؛ العبادة. ويعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا الزراعة والصناعة والتجارة، اشتغلوا بها واشغلتهم عما خلقوا لأجله.

قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: "وعلم هؤلاء الكفار نفى الله عنه اسم العلم الحقيقي، وأثبت له أنه علم ظاهرٍ من الحياة الدنيا". وقال كذلك رحمه الله: "فقد أوضح الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن اكثر الناس لا يعلمون ويدخل فيهم أصحاب العلوم الدنيوية دخولًا أوليًا، فقد نفى الله عنهم اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمن خلقهم".

 

هنا سؤال: ما حكم تعلم العلوم الدينية الدنيوية المهنية التجريبية، الطب والهندسة ونحوها؟ وهل يثاب صاحبها على ذلك؟

أما عن حكم تعلمها فهو ماذا؟ مباح جائز مستوي الطرفين.. طيب هل يثاب أو لا يثاب؟ يثاب حسب النية، أحسنت حسب النية، يعني نسأل هذا الذي دخل كلية الطب لِما دخلت كليةالطب؟ قال دخلت كلية الطب لأنفع المسلمين، فالمسلمون بحاجةٍ إلى طبيبٍ ناجح، يثاب على هذه النية. وهنا تلاحظ أنه لا يمكن أن ينوي هذه النية إلا بماذا؟ بالعلم الشرعي، إذا كان ما عنده علم مسكين تقول له لماذا اشتغلت بالطب؟ يقول الناس قالوا أدخل كلية الطب، فهو ما عنده نية، فهو لا ينوي. ينظر هنا فضل العلم، فالعلم يرفع صاحبه، فحتى في الأمور الدنيوية يجعلها وسيلةً لتحصيل الآخرة. ولا يفهم كذلك من هذا الكلام عندما نقرر وهذا التقرير صحيح أن الفضائل المتعلقة بالعلم إنما هي مراد بها العلوم الشرعية الدينية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله ، لا يفهم من هذا الكلام التزييد.

قد يقول قائل أنت الآن ترسل رسالة للطلاب أنهم لا يدخلون كلية الهندسة وكلية الطب ونحوها، نقول لا.. هذا الكلام ليس صحيح. الرسالة التي أريد أن أرسلها إلى هؤلاء الموفقين الذين دخلوا هذه الكليات مثل كلية الطب والهندسة ونحوها، أنهم لا يقتصرون على ذلك، إذا دخل أحدهم هذه كليات لا يقتصر على ذلك بل يجمع إلى ذلك ماذا؟ العلم الشرعي، ويُحصل من ذلك ما كُتب له، وكم رأينا من الموفقين من جمع بينهما، من حصل هذه التخصصات، ومع ذلك تجده متفوقًا في علوم من العلوم الشرعية.

قوله في الحديث: من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، قيل المعنى: معنى سهل الله.. قيل معناه أن الله يُسهل له طريق العلم، ويسهل له طلب العلم،وقالوا هذا كقوله جل وعلا: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، ففيه بشارة لطلاب العلم بأن طريق العلم مسهلٌ ميسرٌ لهم. قال بعض السلف: هل من طالب علمٍ فيعان عليه؟ وقيل أن معناه أن الله عز وجل ييسر له إذا طلب هذا العلم بنيةٍ خالصة لله عز وجل ييسر له الانكفاء بهذا العلم، ينتفع به فيأمل به، فإذا عمل به كان سببًا لدخول الجنة وكذلك ييسر الله عز وجل له علومًا اخرى، فقد قيل: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. فيكون هذا من التيسير، تيسير الله عز وجل له أن يرزقه بذلك علمًا، بعد هذا العلم الذي عمل به وقام به، ويدله عموم قوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)، ولا يأتي هذا المعنى، وقيل بل المعنى هنا: سهل الله له به طريقًا إلى الجنة؛ قيل ان المعنى هنا تسهيل طريق الجنة الحسي، وذلك يوم القيامة وهو الصراط وما قبل وما بعده من الاهوال.

وهذا الحديث.. هذا الجزء من الحديث: من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة؛ فيه إماء إلى أن طريق الجنة محصورٌ في العلم، هذا الكلام صحيح أم ليس صحيح؟

قالوا فيه إماء إلى أن طريق الجنة محصورٌ في العلم يعني الذي ليش عنده علم لا يدخل الجنة، هذا كلام صحيح؟ هذا كلام صحيح.. لماذا صحيح؟ قال لأن الجنة جزاء العمل الصالح، والعمل الصالح لا يتصور إلا بعلم. قال البخاري: باب العلم قبل القول والعمل. الله عز وجل قال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ)، فالذي يعمل بلا علم هذا لا يصح عمله، وأضف إلى ذلك أنه جاء في الصحيحين من حديث عدد من الصحابة أن النبي أمر منادٍ ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وكيف يؤمن؟ هل يؤمن بشيءٍ يعلمه أو لا يعلمه؟ لا يؤمن إلا بما يعلمه، لا يمكن لإنسان أن يؤمن إلا بما يعلمه.

والعلم يدل على الله عز وجل من أقرب الطرق، فمن سلك طريق العلم ولم يعوج عنه وصل إلى الله عز وجل وإلى الجنة من أقرب الطرق، ومن أسهلها وأيسرها.

 

الفضيلة الثانية في هذا الحديث قوله: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، قوله إن الملائكة، ألف الملائكة..  هنا السؤال ألف الملائكة للعموم.. هل هي للعموم، يعني كل الملائكة أو بعض الملائكة؟ هذا يختلف باختلاف تفسير هذا الحديث. سيأتي معنا قوله رضًا لطالب العلم، رضًا لطالب العلم. ما إعرابها؟ إعراب قوله رضًا؟ قال بعضهم إنها حال، أي وهم راضون، وقال بعضهم إنها مفعول لإجله، أي إرضاءً لطالب العلم، وفيهِ.. في هذا الجزء من الحديث.. فيه الحث على الخروج إلى طلب العلم، فلا يستدعي معلم في بيته؛ بل هو يخرج من بيته ويذهب إلى حِلق ومجالس العلم، ولا يجلس في بيته ويطلب المعلمين يأتون إليه.

قال وإذا الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، ما معنى هذا الحديث؟ للعلماء في معناه أربعة أقوال، القول الأول: أنه كناية عن الاحترام، كناية عن الاحترام والتقدير والتبجيل، قالوا هو كقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). وكقوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). كذا وهذا القول مُسلم أم غير مُسلم! ابن رجب رحمه الله ناقش هذا القول مناقشة لطيفة، قال هذا لا يُسلم لماذا؟ لأن هذا الخطاب هنا في الآيات: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، موجه لمن؟ موجه للبشر كذا، والبشر ليس لهم أجنحة، بينما الكلام هنا في حق الملائكة؛ والملائكة لهم أجنحة حقيقية. لذلك اشار ابن حجر إلى هذا الفرق وهو لطيف، يعني هذا القول.

 

القول الثاني في تفسير هذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها، قالوا المقصود بهذا الحديث الدعاء والاستغفار. قالوا هو كناية عن الدعاء والاستغفار، قال بعضهم إننا إذا أردنا أن ندعو الله عز وجل نرفع أيدينا، والملائكة إذا أرادت أن تدعو تضع أجنحتها.. على هذين القولين، على القول الأول والثاني تكون ألف الملائكة لماذا؟ للعموم لأنه لا يمتنع أن يكون ذلك من جميع الملائكة، لأن الاحترام والتقدير والتبجيل والدعاء والاستغفار يمكن أن يكون من جميع الملائكة، فلا يَبعد أن تكون ألف الملائكة هنا للعموم والاستغراق.

 

القول الثالث في تفسير هذا الحديث قالوا معنى وضع الجناح من الملائكة بسط أجنحتها، وفرشها لطالب العلم وطاءً لتكون معه. يعني يقال: هو كناية عن إعانة طالب العلم، أنه يعان. وهي كما سبق معنا في قول السلف هل من طالب علمٍ فيعان عليه، قالوا إذًا هذا كناية عن المعونة في ذلك.

 

الرابع من الأقوال: أن المقصود تضع أجنحتها أي تخفض أجنحتها وتكف عن الطيران. الملائكة إذا أرادت أن تطير ترفع أجنحتها، فإذا أرادت ترك الطيران خفضت أجنحتها والمقصود بذلك حضور مجالس الذكر، قالوا المقصود بهذا الحديث حضور مجالس الذكر، وهذا يشهد له ما جاء في صحيح مسلم من حديث الأغر: أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي قال: -لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عز وجل فِيمَن عِنْدَهُ- انظر هذه الفضائل العظيمة، هذه الفضائل في حق مجلس الذكر، نسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا كذلك. أربع فضائل! وانظر في هذا اللفظ عند مسلم فيه فائدة مهمة: وهي -لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ-؛ لم يقيده في المسجد، في الحديث الآخر: -ما جلس قوم في بيتٍ من بيوت الله- هذا اللفظ ليس فيه هذا القيد فيشمل جميع المجالس داخل المساجد وخارجها، ولا شك أن طلب العلم في المسجد أفضل لفضائل معروفة في ذلك، لكن كذلك تشمل الفضيلة غيره في مثل مجالس المدارس والجامعات وغيرها، فيشمله هذا الفضل وهو أن الملائكة تحفها، قال: -لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ- انظر الفضيلة: حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، -وأعظم من ذلك كله- وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ.

يسأل سائل هنا الآن: إذا سألت هنا كم ملك يحضر هذا المجلس؟ كم عدد الملائكة الذين يحضرون هذا المسجد؟ نسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا كذلك، يعني يا الشباب انتبهوا لهذه الفضائل، هذه الفضائل العظيمة تعطيك قدر هذه المجالس، في الجامعات والمدارس والكليات وأنت تحضر هذا المجلس اعرف قدر هذا المجلس الذي تحضره. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال: إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، في رواية عند مسلم: إنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلًا، قال فُضلًا، قال علماء التفسير فُضلًا: يعني أفضل من غيرها لأن الملائكة موكلون بأعمال، فهؤلاء الملائكة أفضل من غيرهم من الملائكة. عملهم الموكل لهم التماس مجالس الذكر، هكذا فقط يعني يطوفون في الطرق يبحثون عن مجالس الذكر، حتى إذا وجدوا مجلسًا قال بعضهم لبعض هلموا إلى حاجتكم. قال في الحديث فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، انظر من المجلس إلى السماء الدنيا كلهُ ملائكة، هذا اللفظ في الصحيحين، وعند أحمد في المسند بلفظ: إلى العرش؛ كله ملائكة.. نسأل الله أن يجعل مجلسنا كذلك. هذا يجعل الإنسان يعظم هذه المجالس ويعرف قدرها؛ يعرف الأدب فيها، حرمتها، ويحرص عليها ويحتسب الأجر إذا جاء إلى هذه المجالس.

قال في تمام هذا الحديث: حتى إذا فرغ المجلس عَرَجُوا إلى الله عز وجل فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وهو أعْلَمُ منهمْ، ما يقولُ عِبادِي؟ قالوا: يقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ قالَ: فيَقولُ: هلْ رَأَوْنِي؟ قالَ: فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ؟ قالَ: فيَقولُ: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيدًا وتَحْمِيدًا، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحًا قالَ: يقولُ: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصًا، وأَشَدَّ لها طَلَبًا، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قالَ: يقولونَ: مِنَ النَّارِ قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِرارًا، وأَشَدَّ لها مَخافَةً قالَ: فيَقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ قالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ. قالَ: هُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ.

في رواية عند مسلم قال: فيقول ملك فيهم فلان عبدٌ خطاء، يعني كثير الخطايا والذنوب والمعاصي إنما جاء لحاجة يعني ليس بطالب علم إنما مر فجلس، مر في المجلس فجلس، يريد فلان، يريد حاجة من فلان، لكنه جلس. قال الله عز وجل وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليس.

انظر إلى هذا الفضل العظيم في هذا المجلس لو لم يكن في مجالس الذكر إلا هذه الفضيلة فقط لكانت كافية في أن المسلم يحرص أن يكون له من هذه المجالس نصيب. يجلس فيها يقول بعض السلف قال: ربما يخرج الرجل من بيته عليه الذنوب والمعاصي فيرجع وليس عليه ذنب؛ كيف؟ يخرج من بيته ملطخ بالذنوب والمعاصي فيرجع وليس عليه ذنب. مر بمجلس علم، مجلس ذكر فجلس، فغَفر. فغُفر له معهم.

 

الفضيلة الثالثة من فضائل المذكورة في هذا الحديث وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الارض حتى الحييتان في الماء، في رواية حتى الحيتان في جوف الماء، في رواية حتى الحيتان في جوف البحر. لما قال من في السماوات ومن في الارض خُشي أن يفهم بعض الناس أن المقصود بالارض اليابسة فقط، أو المقصود البر دون البحر فأراد أن يبين أن المقصود البر والبحر واليابسة والماء، فقال في جوف البحر، في الماء، ويؤيد هذا ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أُمامة أن النبي قال: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير.

 

انظر إلى هذا الفضل.. حتى النملة حتى لا يخطر في البال أن ثمة شيء لا يستغفر قال حتى النملة التي لا يعبئ بها ولا يلتفت لها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير فهذا يجعل المسلم يحرص على هذا الفضل وأن يكون له منه نصيب. هنا وقفات مع هذه الجملة أولًا الاستغفار: قال ليستغفر. الحوت وما في معناه كيف يكون استغفاره؟ أهو بلسان الحال أم بلسان المقال؟ قرر العلماء أن ذلك يكون بلسان المقال، لأنه هو الأصل في القول، والله عز وجل قادرٌ أن يجعل في هذه الاشياء قدرةً على النطق، ويدل له أن الله عز وجل أخبرنا في القرآن الكريم ليس عن الحيوانات بل عن الجمادات، وإن منها لما يهبط من خشية الله، والله جل وعلا يقول: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). فالأصل فيه حمل الأقوال، الكلام هنا على ظاهره وعلى أصله، والأصل أنه يكون باللسان. أنه يكون بلسان المقال لا بلسان الحال.

 

الوقفة الثانية قوله: يستغفر.. قال العالم وإن العالم ليستغفر كيف يكون استغفار هؤلاء للعلماء؟ هل يكون بالاسماء؟ هل يقولون اللهم اغفر لابي بكر اللهم اغفر لعمر اللهم اغفر لعثمان وهكذا اللهم اغفر لعلي؟لا الاستغفار يكون بالوصف يقولون اللهم اغفر للعلماء، وهذا كقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). كيف يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؟ بأسمائهم؟ أو يقول اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات؟ فهنا يحرص طالب العلم  أن يكون له نصيب من اسم العلم حتى يشمله لأن هذا الفضل العظيم في الاستغفار انظر هذا الاستغفار لم يقيد بوقتٍ ما، وإنما هو دائمًا وأبدًا، بل حيًا وميتًا. يعني مثلًا ابو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الآن الاستغفار مستمر له لأن قال يستغفر ولم يقيده في الحياة فهو مستمر إلى قيام الساعة يستمر. فيحرص المسلم حسنات العالم لا تتوقف، لا تنقطع. لهذا الاستغفار المستمر له، فيحرص المسلم أن يكون له نصيب من اسم العلم.

 

كيف يكون المسلم من العلماء؟ مإذا يحفظ؟ ومإذا يقرأ؟ ومن يلازم؟ وكم يحمل من الشهادات؟ كيف يكونوا عالم؟ أهم صفة في العلم؟ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). من خشي الله فهو عالم ومن لم يخش الله فليس بعهده. كذا قال السلف كانوا يقولون العلم الخشية العلم الخشية. ولا بد مع ذلك من ضبط أصول العلم، لأن المقلد ليس من العلماء، مع ضبط أصول العلم الخشية، وضبط اصول العلم ومعرفة طرق الاستدلال، بمعنى أن يكون يعرف الدليل الصحيح وغير الصحيح، يستطيع أن يصل إلى الحق بدليله، يبحث عن المسألة يستطيع أن يصل إليها لأنه حصّل آلات العلم في ذلك فيستطيع أن يعرف إذا بحث عن المسألة أن يعرف ما الحكم الشرعي في هذه المسألة.

 

طيب هنا وقفة ثالثة في هذه الوقفات.. ما سبب استغفار هذه الكائنات للعلماء؟ ذكر العلماء سببين أحدهما من الأسباب أن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، فما من شيء إلا والعلماء لهم فضل عليه في أمر الناس بالاحسان إليه، أما من في السماوات فإن العلماء يعرّفون الناس بالملائكة ووجوب الإيمان بهم وبقدرهم ومنزلتهم عند الله عز وجل، أما من في الارض فكل من في الأرض ينتفع بالعلماء لأنهم يأمرون الناس بالرفق والاحسان في كل شيء: ( الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). يعني هنا أمر بالإحسان في كل شيء، ثم نص على الإحسان في أبعد شيءٍ عن الإحسان، وهو الذبح. وهذا أحد السببين. والسبب الاخر وهو الأهم أن سائر المخلوقات مطيعة لله عز وجل، مؤتمرةٌ بأمره، غير عصاة الثقلين. فكل هؤلاء يحبون من أحبهم الله عز وجل، ويحبون أهل الطاعة، ويحبون من يعرف الناس بالله عز وجل، ولذا هم يحبون العلماء لأجل هذا فيدعون ويستغفرون لهم. ثم إن هذه الفضيلة.. فضيلة الاستغفار؛ كما أنها للعلماء هي موصولةٌ كذلك لطلاب العل، كما جاء في المسند من حديث قبيسة ابن المخارق قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: "يا قبيصة، ما جاء بك؟" قلت: كبرت سني، ورق عظمي، فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به. قال: "يا قبيصة، ما مررتَ بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك. يا قبيصة، إذا صليت الصبح فقلت ثلاثا: سبحان الله العظيم وبحمده، تعافى من العمى والجذام والفالج. يا قبيصة قل: اللهم إني أسألك مما عندك، وأفض علي من فضلك، وانشر علي من رحمتك، وأنزل علي من بركاتك".هذا الحديث وإن كان في إسناده راوٍ لم يسمى لكن قرر ابن رجب رحمه الله أن هذا الفضل دل عليه القرآن الكريم. انظر استنباط ابن رجب رحمه الله.. هذا الفضل من القرآن الكريم من آيات الاحزاب:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا). فذكر الله عز وجل أن صلاة الله عز وجل وملائكته على أهل الذك، يصلون على أهل الذكر والعلم من أفضل أنواع الذكر.

جاء عن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم..

انتبه لهذا الأثر الذي فيه بيان الفضل ليس فقط لطلاب العلم، للعلماء ولطلاب العلم ولغيرهم من المسلمين.

جاء عن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أبو الدرداء وابن مسعود وغيرهم قالوا: كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلك! انظر أربع: كن عالمًا أو متألمًا أو مستمعًا أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلك. هذا في سؤال المسلمين، الإنسان إما أن يكون من العلماء وهم معروفون، أو يكون طالب علم يذهب لهذه الحلقات يطلب فيها العلم فهذا كذلك على خير، أو مستمع بعض الناس يأتي إلى مجالس الذكر ومجالس العلم يجلس فيها مستمعًا لتناله البركة وهذا على خير عظيم، الرابع المحب: بعض الناس مشغول ليس عنده وقت يحضر هذه المجالس وهو يحب هؤلاء إذا رأى طلاب العلم جاء لهم قال وفقكم الله أعانكم الله سددكم الله وأحبهم وأعجب بهم، فهو محب لهم فهو على خير، ولا تكن الخامس من هو؟ المبغض! نسأل الله السلامة والعافية.. من إذا رأى طلاب العلم ومجالس العلم أبغضهم فهذا الذي يهلك نسأل الله السلامة والعافية ولذلك قال علي رضي الله تعالى عنه: محبة العالم دينٌ يدان بها.

قال الشافعي رحمه الله: من لا يحب العلم فلا خير فيه. فلا يكون بينك وبينه معرفة ولا صداقة.

 

الفضيلة الرابعة من هذه الفضائل وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، أراد النبي أن يبين لك فضل العلماء على غيرهم، فضرب لذلك مثلًا بالقمر والكواكب، انظر في الليل في الليلة الظلماء ترى متى.. أي قمر؟ ليلة البدر وقد اكتمل، انظر اليه وقارن بينه وبين الكواكب ترى الفرق، فالقمر يكون نوره قد عم الأرض فينتفع الناس به، وعلى ضوء القمر يمشون ويذهبون بل على ضوء القمر يقرأون ويكتبون، أما الكواتب فضوءها لا يعدو نفسها، وفي هذا التشبيه كذلك انظر المثل هنا المضروب هنا فيه تشبيه الجهل بالظلمة.. الجهل كأنه ظلمة في هذه القمر يمثل العلماء والكواكب تمثل العبّاد، هؤلاء هم الذين يضيئون في هذا الجهل: العلماء والعباد، لكن فرق بينهم؛ فالعالم يضيء فيستفيد الناس من إضاءته بينما العابد ضوءه لنفسه، وكما أن السماء إضاءتها بالقمر والكواكب، فإذا خسف القمر انتثرت الكواكب جاء السماء ما توعد، كذلك الدين زينته بالعلماء والعبّاد. فإذا ذهب العلماء والعبّاد؛ ذهب الدين. طيب هنا سؤال لماذا قال القمر.. ولم يقل الشمس؟ يقول كفضل القمر. لما لم يقل كفضل الشمس وقال الكواكب.. لما لم يقل النجوم؟ قال العلماء قال القمر ولم يقل الشمس لأن القمر يستمد نوره من الشمس، القمر لا يضيء من نفسه، إضاءته من إضاءة الشمس، كذلك العالم نوره ليس من نفسه وإنما هو من نور الكتاب والسنة، والله عز وجل سمى النبي في القرآن الكريم: سراجًا منيرًا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) وسمى الشمس  سراجًا وهاجًا.. سورة النبأ: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)، أيهما أفضل السراج الوهاج ولا السراج المنير؟ السراج المنير أفضل من السراج الوهاج لأن الوهاج فيه حرارة، الحرارة يحتاج اليها الناس وقتًا ويستغنون عنها وقت. يحتاجون لها أحيانًا ويتأذون بها أحيانًا، أما السراج المنير فالحاجة إليه دائمًا لا تنقطع، وكل ما فيه خيرٌ لا أذية فيه. طيب لماذا قال الكواكب ولم يقل النجوم؟ بعض أهل العلم يفرقون بينهم. يقول الفرق بين الكواكب والنجوم، فإن النجوم هي التي تضيء وهي التي يستدل بها كما ذكر الله عز وجل: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، أما الكواكب قالوا لا يُهتدى بها، فلذلك يعني بيان أن العابد يكون نوره لنفسه فقط، طيب هنا قال العالم والعابد ما المراد بالعالم وما المراد بالعابد؟ المراد بالعالم هنا الذي قام بالفرائض والواجبات، وأدى السنن المؤكدات ثم صرف بقية وقته في طلب العلم ونشره وتعليمه. ليس المقصود بالعالم هنا الذي لا يتعبد فإن ذاك لا خير فيه، إنما المقصود العالم من؟ قام بالواجبات وأدى السنن المؤكدات وبقية الوقت كله يصرفه في العلم تعليمًا وتأليفًا ونشرًا وطلبًا. ما المقصود بالعابد؟ العابد ليس المقصود به العابد الذي يتعبد الله على جهلٍ فإنه لا خير في عبادته، إنما المقصود العابد الذي يتعبد الله على علم لكنه انشغل بالنوافل التي نفعُها خاصٌ به، ولم يشتغل بالعلم، هذا المقصود بالمقارنة، وفي هذا بيان فضل العبادة وأن العبادة المتعدية أفضل من العبادة القاصرة النفع، وأن طلب العلم أفضل من سائر النوافل، رأى مالك رحمه الله إمام دار الهجرة شابًا بين يديه ألواح يكتب الحديث، ثم إن هذا الشاب وضع الألواح وقام يصلي.. صلى نافلة، فقال له مالك ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه. هذه الآن تقع من بعض الطلاب يخرج من المحاضرة من أجل أن يصلي سنة الضحى. فأيهما أفضل؟ سنة الضحى أم حضور الدرس؟ حضور الدرس أفضل، قال له مالك ما الذي قمت إليه؟ بأفضل مما قمت عنه.

كان يطلب العلم وترك طلب العلم وقام يتنفذ يصلي نافلةً، وقال عدد من السلف جاء عن عدد من السلف: فقيهٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. لماذا؟ لأن العالم الفقيه يعرف مداخل الشيطان ومخارجها فيحكم إغلاقها، أما العباد فيخدعهم الشيطان بأيسر الحيل، ترى الشيطان يخدعه بحيلة ربما يفهمها الكثير لكن لجهله لم يفهم. في هذا من القصص الوارد في هذا ما ذكر الخطابي رحمه الله، في كتابه العزلة، خطابي توفي سنة ثلاث مئة وثمانية وثمانين، ذكر مواقف لبعض هؤلاء الجهال منهم رجل في عهد الشافعي رحمه الله، الإمام أبو عبدالله كان صاحب سنة، ولحرصه على السنة كان يعتني بالطيب، لأن الطيب من السنة، كان يتطيب ويأتي في المسجد ويجلس يستند إلى سارية ويحدث الناس، هذا الجاهل يأتي يرى الشافعي مستند إلى السارية ويحدّث ويتطيب كذلك، فيقول له أنت البطال! قم صلي انفع نفسك، أنت جالس هكذا تحدث الناس، لكن الشافعي بطبيعة الحال لم يأخذ بنصيحة هذا الجاهل فأراد هذا الجأهل أن يغير المنكر هذا بيده فماذا فعل؟ جاء بنجاسة -أكرمكم الله- ووضعها في شاربهِ! وجاء وجلس في مجلس الشافعي فلما جاء الشافعي وجد هذه الرائحة الكريهة، فقال فتشوا نعالكم.. فتشوا ما وجدوا شيء، قال فتشوا أنفسكم.. فتشوا ما وجدوا شيء، قال ليفتش بعضكم بعضًا.. فوجدوا هذا الرجل فأمر به الشافعي وأمر لصاحب الدرة -لصاحب الشرطة- أن يضربه ثلاثين درة، لما سأله الشافعي لماذا؟ لماذا فعلت هذا؟ قال أردت أن أكسر كبرياءك.. متكبر ليش؟ لأنك تتطيب! انظر الجهل.. يقول الشافعي رحمه الله بيّن السبب الذي من أجله ضرب هذا الرجل، أمر بضربه ليس انتصارًا لنفسه، وإنما لأنه تخطى بالنجاسة إلى المسجد، تصور دخل بالنجاسة إلى المسجد، وصلى وعليه نجاسة، فانظر إلى الجهل كيف يبلغ بصاحبه، ومن الطرائف هنا من أطرف ما وقفت عليه في هذا الباب قصة ذكرها ابن الحاج، توفي سنة سبعمائة وسبع وثلاثين، يذكر أن رجلًا من أهل العلم كان يأتيه شاب يجلس بين يديه، يحضر عنده الدرس، ثم انقطع.. فسأل عنه فلم يقف له على خبر، بعد فترة جاء هذا الشاب إلى الشيخ؛ فسأله أين أنت لا تأتينا انقطعت عن الدرس؟ قال ماذا أفعل بالجلوس عندك، وأنا كل ليلةٍ أذهب إلى الجنة، فأصلي فيها.. كل ليلة يصلي في الجنة! وكان هذا الشيخ يعني حكيمًا عاقلًا فأراد أن يأخذه بالحكمة، قال له يا بني.. يعني هنا لم ينهره ويزجره، قال يا بني هل تأذن لي أذهب معك إلى الجنة؟ قال نعم على الرحب والسعة. فاتفق معه فذهب معه إلى بيته قال تأتي معي إلى بيتي وبعد العشاء جاء طائر فوقف عند الباب فركب التلميذ وركب معه الشيخ وطار بهم ساعة ونزلوا في مكان وإذا هو جدة خضراء. لما نزلوا التلميذ قام يصلي أما الشيخ جلس فالتفت إليه التلميذ قال ألا تصلي؟ قال الجنة ليس فيها صلاة هذا بداية الفقه. رأيت.. نحن نصلي من أجل أن ندخل الجنة.. دخلنا الجنة الحمد لله، فجلس حتى إذا طلع الفجر جاء الطائر.. قبل طلوع الفجر جاء الطائر فقال التلميذ لشيخه قم.. قال أين؟ قال نمشي. قال أما أنا فإذا دخلت الجنة لن أخرج منها. رأيت الفقه.. ليش تخرج.. الحمد لله دخلت. فلما رأى هذا الطائر وهو الشيطان بطبيعة الحال أنه لم يركبوا قام يهز الأرض ويرجها ويخوفهم بذلك، وبدأ الشيخ يقرأ القرآن ويقرأ الأذكار حتى طلع الصبح وإذا هم في مزبلة؛ يُخيل إليه من سحرهم أنها تسعى!

 

الفضيلة الأخيرة من هذه الفضائل الخمس قال: وإن العلماء ورثة الأنبياء وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إنّما وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. انظر إلى هذا الفضل العظيم في فضل العلماء وشرفهم فإنهم يرثون الأنبياء، كما أن الأولاد يرثون آباءهم فإن العلماء يرثون أنبيائهم. وميراث الأنبياء ما هو؟ العلم. من المعلوم أن أعلى رتبة في البشر هي رتبة الأنبياء ليس هناك طبقة ودرجة أعلى من هذه الطبقة في الجملة. والعلماء يأتون بعدهم في الدرجة الثانية بعد النبوة درجة العلم، فلهم هذا الميراث العظيم من ميراث الأنبياء وهو العلم.

 

لماذا قال الأنبياء ولم يقل الرسل، لماذا لم يقل الرسل؟ لأمرين: أولًا لكونه أعم فإن كل نبيٍ رسول وليس كل رسولٍ نبي. هذا أولًا ثانيًا أنه يبين درجات العلماء، فالعلماء درجات كما أن الأنبياء درجات، فمن العلماء من يتمكن من نشر علمه، فهذا فيه شبه في المرسلين، ومنهم من لم يتمكن من نشر علمه فليس به شبه في الأنبياء، وقوله الأنبياءلم يورثوا دينارًا ولا درهمًا. لأنه لا يلزم من نفي الدينار نفي الدرهم، والمقصود بهذا التأكيد. والمقصود من هنا ذكر الدينار والدرهم خرج مخرج الغالب، لأن أغلب ما يحرص عليه الناس الدينار والدرهم والأنبياء لم يورثوا شيء من حظوظ الدنيا مطلقًا.. لا دينار ولا درهم ولا غيره.

 

وكما جاء في الصحيحين: لا نُورَث ما تركنا صدقة. وقال وإنما ورثوا العلم، فيه إشارة إلى أن العلماء ينبغي لهم أن بالأنبياء في ذلك، فيورثوا العلم، يحصلوا العلم ثم يجتهدوا في توريثه. وينبغي للعلماء كذلك أن يقتدوا بالأنبياء في الزهد في الدنيا، والإعراض عنها وألا تشغلهم، وأن يشتغلوا بالباقي. قال العلماء من أدنى العلم بل من أقل الإيمان العلم بأن الآخرة باقية والدنيا فانية، فيقبل على الباقي ويترك الفاني. وقوله إنما ورثوا العلم فيه إشارة إلى ما ذكرناه أولًا لأن العلم الذي ورثه الأنبياء هو علم الكتاب والسنة، ففيه إشارة إلى ما ذكرناه من الفضائل الواردة في الكتاب والسنة إنما هي في حق العلم الشرعي فقط.

 

قال فمن أخذه أخذ بحظ وافر، الدنيا هذه حظوظ، من الناس من يكون له حظ المال، حظ المنصب، حظ الأولاد، لكن هذه الحظوظ هو حظ العلم..  الحظ الوافر الكامل هو نصيب العلم. قوله فمن أخذه أخذ بحفظه، بعض أهل العلم قال أخذ هنا بمعنى الأمر فليأخذ.. فليأخذ.. بمعنى أنه لا يقتصر على العلم بالشيء القليل بل يأخذ منه الكثير..  كما قال الله عز وجل (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، والله عز وجل لم يأمر نبيه من الاستزادة بشيء إلا من العلم، فيحرص الطالب على الاستكثار من هذا العلم.

 

نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علمًا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 2 )

شكر

10:06:35 2021-09-17

كل الشكر على هذا الشرح العميق الانيق

العلم

12:01:23 2021-05-10

اريد العلم