من الشٌّبه اللغوية التي أثيرت حول القرآن الكريم، ما يتعلق بقوله تعالى: { إن رحمت الله قريب من المحسنين } (الأعراف:56) ووجه الشبهة فيما زعموا يتلخص في السؤال الآتي: لماذا لم يُتبَع خبرُ { إنَّ } وهو: { قريب } اسمها، وهو { رحمت } في التأنيث، وكان حقه أن يقول: ( إن رحمة الله قريبة ) إذ ينبغي أن توافق الصفةُ الموصوفَ تذكيرًا وتأنيثًا، وإفرادًا وتثنيةً وجمعًا .
وقبل أن نجيب عن هذه الشبهة، من المفيد أن نقول بداية: إن كلمة { رحمت } في الآية التي بين أيدينا، قد كُتبت بالتاء المفتوحة في المصحف الشريف، وليس بالتاء المربوطة، كما هي في الكتابة الإملائية المعتادةº وتعليل ذلك أنها هكذا رُسمت في المصحف العثماني .
إذا تبين هذا، نشرع في الإجابة عن هذه الشبهة، فنقول: إن للعلماء توجيهات عديدة في الإجابة عن هذه الشبهة، بيد أننا نقتصر هنا على أقوى تلك التوجيهات، وأقومها رشدًا، وأقصدها سبيلا .
فمن تلك التوجيهات قولهم: إن من أساليب اللغة العربية، أن القرابة إذا كانت قرابة نسب، تعيَّن التأنيث فيها في الأنثىº فتقول: هذه المرأة قريبتي، أي: في النسبº ولا تقول: قريب مني. وإن كانت القرابة قرابة مسافة، جاز التذكير والتأنيثº فتقول: داره قريب وقريبة مني. قالوا: ويدل لهذا التوجيه، قوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة قريب } (الشورى:17) وأيضًا قوله سبحانه: { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا } (الأحزاب:63) ومن هذا القيبل، قول امرئ القيس :
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
فذكَّر ( قريب ) مع أنه صفة لمؤنث، باعتبار أن القرابة قرابة مكانية لا نَسَبِيَّة.
ومنه أيضًا، قول عروة بن الورد :
عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فأنَّث ( قريبة ) وذكَّر ( بعيدًا ) على ما تقدم. ولو كان القريب، من القرابة في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا. فهذا التوجيه الأول للآية .
التوجيه الثاني قولهم: إن صيغة ( فعيل ) تأتي على ضَربين، أحدهما: بمعنى ( فاعل ) كقدير، وسميع، وعليم. والثاني: تأتي بمعنى ( مفعول ) كقتيل، وجريح، وكحيلº كله بمعنى ( مفعول ). فإذا أتت بمعنى ( فاعل ) فحقٌّها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكرº كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة ونحو ذلك. وإذا أتت بمعنى ( مفعول ) فلا تخرج عن حالين: إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنهاº فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف، استوى فيها المذكر والمؤنثº تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريحº وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف، فإنها تؤنث، إذا جرت على المؤنث، نحو قتيلة بني فلان. وهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية .
وثمة توجيه آخر للآية حاصله، أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر، لكونه تبعًا له، ومعنًى من معانيهº فإذا ذُكر أغنى عن ذكره، لأنه يُفهم منه. ومنه على أحد الوجوه قوله تعالى: { إن نشأ ننـزِّل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } (الشعراء:4) فاستغني عن خبر ( الأعناق ) بالخبر عن أصحابها. ومنه أيضًا في وجه، قوله تعالى: { والله ورسوله أحق أن يرضوه } (التوبة:62) فالمعنى عليه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله، إذ إرضاؤه هو، إرضاء لرسوله، فلم يحتج أن يقول: يرضوهما. فعلى هذا، يكون الأصل في الآية: إن الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين. فاستُغنيَ بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوَّغ ذلك ظهور المعنى .
وقريب من هذا، ما ذكره ابن القيم ، قال - رحمه الله -: \" إن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقهº لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت رحمته سبحانه قريبة من المحسنين، فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منها، بل قرب رحمته تعالى تَبَعٌ لقربه هو من المحسنين. وقد تقدم في أول الآية، إن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته، ومن أهل السؤال بإجابته. وإن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده، كما أن العبد قريب من ربه بالإحسان، وإن من تقرب منه شبرًا، تقرب الله منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا، تقرب منه باعًا، فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين، ورحمته قريبة منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة. إن الله تعالى قريب من المحسنين، وذلك يستلزم القربين: قربه وقرب رحمتهº ولو قال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين،لم يدل على قربه تعالى منهمº لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص، بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم، وهو قرب رحمته \". ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر هذا التوجيه للآية: \"...فلا تستهن بهذا المسلك، فإن له شأنًا، وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب... وهو من أليق ما قيل فيها. وإن شئت قلت: قربه تبارك وتعالى من المحسنين، وقرب رحمته منهم متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا كانت رحمته قريبة منهم، فهو أيضًا قريب منهم، وإذا كان المعنيان متلازمين، صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين، من التحريض على الإحسان، واستدعائه من النفوس، وترغيبها فيه غاية حظ لها، وأشرفه وأجلٌّه على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أُعطيه العبد، وهو قربه تبارك وتعالى من عبده، الذي هو غاية الأماني، ونهاية الآمال، وقرة العيون، وحياة القلوب، وسعادة العبد كلها. فكان في العدول عن ( قريبة ) إلى ( قريب ) من استدعاء الإحسان، وترغيب النفوس فيه، ما لا يختلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته، ولا قوة إلا بالله \" ا.هـ .
على أن الآية الكريمة قد وجِّهت بتوجيهات أُخر، لم نأتِ على ذكرهاº استغناء بما هو أولى بالاعتبار، واقتصارًا على ما يفي بالمقام، ودفعًا لم يثيره قاصري الأفهام. وأيضًا يتبين بما تقدم، أنه ليس ثمة إشكال في الآية، وإنما الإشكال في الأذهان العليلة، والعقول القاصرة، عن فهم كلام العرب وأساليبهم التعبيرية، والذي على وَفقه نزل كلام الرحمن. وعلى الله قصد السبيل، وهو الموفق للصواب والتسديد .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد