هذه إضاءة مختصرة، توضح جانباً من علاقة علم القراءات بعلم التفسير، وجهة ارتباطه به، وسينطلق البيان في هذه المقالة من خلال القاعدة الآتية:
(كل اختلاف في أداء الألفاظ القرآنية - مما له أثر في التفسير- اختلاف تنوع في المعنى)
هذه قاعدة أغلبية، ومعناها محل إجماع بين العلماء، قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وهم مُتَّفِقون أي: الأئمة المتبعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم- على أن الأحرف السبعة لا يُخالف بعضها بعضاً خلافاً يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، كما تُصَدِّق الآيات بعضها بعضاً)[1].
* ويُستفاد من هذه القاعدة أمران:
أولهما: أن الاختلاف في القراءات منه ما له أثر في التفسير، ومنه ما لا أثر له.
فالأول: ما له أثر في التفسير، وهو المراد هنا، وذلك نحو اختلاف حروف الكلمات، واختلاف الحركات الذي يختلف معه المعنى.
واختلاف القراءات في هذا النوع إمَّا أن يبيّن معنى الآية، أو يوسع المعنى، أو يزيل الإشكال، فما يبين المعنى نحو أوجه قراءة قوله - تعالى -: (مالك يوم الدين)[الفاتحة 4]، وما يوسِّع المعنى نحو أوجه قراءة قوله - تعالى -: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)[البقرة 222]، وما يزيل الإشكال نحو أوجه قراءة قوله - تعالى -: (هل يستطيع ربك)[المائدة 112].
والثاني: ما لا أثر له في التفسير، وذلك نحو الاختلاف في وجوه الأداء، كالتسهيل والتوسط والتحقيق، والإمالة والإضجاع والإشباع، وغيرها[2].
ثانيهما: أن اختلاف معاني الألفاظ المختلفة أداءً في القراءات، هو من قبيل اختلاف التنوع في الأغلب، (وقد يكون معنى أحدهما ليس معنى الآخرº لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض)[3].
ويتبين ذلك ببيان أقسام القراءات من حيث المعنى، وهي ثلاثة أقسام:
1- اختلاف اللفظ والمعنى واحد.
2- اختلاف اللفظ والمعنى جميعاً، مع عدم تضاد المعنى فيهما، وهذا أكثر مواضع اختلاف المعنى في القراءات.
3- اختلاف اللفظ والمعنى، مع عدم اجتماعهما في معنىً من وجه، واجتماعهما في صحة كلِّ معنىً منهما على الاستقلال، إذ كل معنى منهما بمنزلة الآية المستقلة.
أمثلة للقاعدة:
- قوله - تعالى -: (مالك يوم الدين)[الفاتحة 4] قرأ عاصم والكسائي (مالك) بالألف، وقرأ الباقون (ملك) بلا ألف. وتوجيهها ما يلي:
من قرأ (ملك)، فنحو (ملك الناس)، ولأن كل ملك مالك ولا عكس، إذ قد يكون مالكاً لأشياء، ولا يكون ملكاً لها.
ومن قرأ (مالك) فنحو (مالك الملك)، ولأن مالك عنده أعم من ملك من جهة الوصف، فمالك تحسن إضافته إلى جميع الأشياء، نحو: مالك الناس، ومالك الطير، ونحوها، بخلاف ملك. ومن حيث المعنى لا تضاد بين المعنيين لكلا اللفظين، فلكل منهما وجه في المعنى ينفرد به عن الآخر، لكن لا يتضادان.
- قوله - تعالى -: (وانظر إلى العظام كيف نُنشِزُها)[البقرة: 259]
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (نُنشِزُها) بالزاي، والباقون (ننشرُها) بالراء المهملة. وتوجيهها ما يلي:
من قرأ بالراء فمعناه نحييها، وقد ورد إحياء العظام في سورة (يـس) في قوله - تعالى -: (قال من يحيي العظام وهي رميم)، وهنا نشر العظام بمعنى إحيائها، ومنه قول الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها * * * عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا * * * يا عجباً للميت الناشر
ومن قرأ بالزاي فمعناه نرفعها، بعضها فوق بعض، ونركبها ونحييها، والنَّشَز ما ارتفع من الأرض، ومنه نشوز المرأة وهو ارتفاعها عن زوجها، بترك طاعته في المعروف.
ومن حيث المعنى لا تضاد بينهما، بل أحدهما مشتمل على الآخر، ومترتب عليه.
- قوله - تعالى -: (كلُّ آمن بالله وملائكته وكتبه)[البقرة: 285]
قرأ حمزة والكسائي (وكتابه) بالتوحيد، وقرأ الباقون (وكتبه) بالجمع. وتوجيهها ما يلي:
من قرأ بالتوحيد (وكتابه) فعلى أنه المصدر، أو واحد يُراد به الجمع، نحو: كثُرَ الدينار والدرهم في أيدي الناس، ومن وحد أراد به القرآن.
ومن قرأ (كتبه) فعلى الجمع لكتاب، وأراد به جنس الكتب مما أوحى الله - تعالى - إلى أنبياءه. ومن حيث المعنى لا تضاد بينهما، بل أحدهما مشتمل على الآخر، فالقرآن من الكتب التي أوحى الله - تعالى -إلى أنبياءه.
* يُستَثنى من القاعدة:
مواضع لا يجتمع فيها كلا المعنيين من وجه، مع صحة كل معنىً منهما على الاستقلال، وهي مواضع قليلة، منها:
- قوله - تعالى -: (لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر)[الإسراء: 102] قرأ الكسائي (علمتُ) بضم التاء، وقرأ الباقون (علمتَ) بفتحها. وتوجيهها ما يلي:
من قرأ بضم التاء، فعلى أنه من حديث موسى لفرعون، يخبر فيه عن نفسه، بعد أن قال له فرعون (إني لأظنك يا موسى مسحوراً)، فقال موسى - عليه السلام – (لقد علمتُ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر)، أي: لست بمسحور.
ومن قرأ بفتح التاء فعلى أنه من كلام فرعون لموسى على وجه التقريع والتوبيخ له على شدة معاندته للحق، وجحوده له بعد علمه به، ولذا أخبر الله عنه وعن قومه فقال: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)[النمل 13- 14].
* يُستفاد من هذه القاعدة:
1- معرفة وجه ارتباط ما له أثر في المعنى من القراءات بالتفسير، وأنه في أغلب مواضعه من قبيل قسم واحد من أقسام الاختلاف في التفسير، وهو: اختلاف التنوع، وما تضاد فيه المعنى وامتنع اجتماعهما فهو من نوع المتضاد الذي لا يلزم منه بطلان أحد القولينº بل كلاهما صواب على الاستقلال.
2- معرفة سبب انحصار هذا النوع من القراءات في اختلاف التنوع في التفسير، وهو: أن كُلَّ لفظ منهما في حكم الآية المستقلة، ولا تضاد بينهما ولا تناقض، بل يُصَدِّق بعضها بعضاً.
3 - توفير جهد المفسر في توجيه معاني الألفاظ المختلفة في كل قراءة بما يؤلف بينها، ويفيد منهما جميعاً.
4 - تبيين المعاني، وتكثيرها، وإزالة الإشكال إن وُجد، من فوائد تعدد القراءات ذات المعاني المختلفة.
5- أن اختلاف التضاد لا يلزم منه بطلان أحد المعنيين، بل قد يصح كلُّ منهما على حدة، كما هو في ما استُثنِي من هذه القاعدة. والله أعلم.
______________________
* الحواشي:
(1) مجموع الفتاوى 13/401، وينظر: الأحرف السبعة، للداني47- 51، والنشر 1/30، 49- 51
(2) ينظر: مجموع الفتاوى 13/392، والتحرير والتنوير 1/51- 63، والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام، لبازمول 1/399- 2/676
(3) مجموع الفتاوى 13/391
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد