اختصار كتب تفسير القرآن


 بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فإن الأصل في نقل العلم نَصٌّهُ إلى أهله، وفيه أنشد ثعلب:

ونُصَّ الحديث إلى أهله *** فإنَّ الوثيقةَ في نَصِّه[1]

والاختصار برزخٌ بين نَصِّ الحديث إلى أهله، وسرقته من أهله، ومن ثَمَّ حَذَّر من سلوكه جماعةٌ من العلماء[2]، وخافه جماعةٌ منهم على مصنفاتهم، ومن طريف ما يُذكَر في ذلك قول ياقوت الحموي في مقدمة كتابه: (معجم البلدان): (ولقد التمس منِّي الطلابُ اختصارَ هذا الكتاب مراراً، فأبيت، ولم أجد لي على قصر همهم أولياءَ ولا أنصاراً، فما انقدت لهم ولا ارعويت.

ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع نَصَبي، ونَصب نفسي له وتعبي، بتبديد ما جمعت، وتشتيت ما لَفَّقت، وتفريق مُلتَئِم محاسنه، ونفي كل علقٍ, نفيس عن معادنه = باقتضابه واختصاره، فربَّ راغبٍ, عن كلمة غيرُهُ متهالكٌ عليها، وزاهدٍ, في نكتةٍ, غيرُه مشعوفٌ بها يُنضي الرِّكاب إليها، فإن أجبتني فقد بررتني، جعلك الله من الأبرار، وإن خالفتني فقد عققتني، والله حسيبك في عُقبى الدار. وقد حُكيَ عن الجاحظ أنه صنَّف كتاباً، وبوَّبه أبواباً، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء، وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا، إن المُصَنِّف كالمصوِّر، وإني قد صوَّرتُ في تصنيفي صورةً كانت لها عينان فعَوَّرتَهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصَلمتهما، صلم الله أُذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك. حتى عَدَّ أعضاء الصورة، فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار)[3]، ومع ذلك لم يسلم ياقوت ممَّن أغار على كتابه هذا بالاختصار. [4]

وفي علم التفسير تزداد المصنفات في كل زمان، وتتنوع مناهج الكتابة فيه وتتجَدَّد بحسب حاجة الناس وأحوالهم، وقد أدرك أهل العلم به واجب الجيل عليهم في كل عصر، فقربوه إليهم لفظاً ومعنىً، وسلكوا لذلك كُلَّ سبيل قولاً وفعلاً، فأحسنوا وأطابوا، وكان من مسالكهم في ذلك: الاختصار. والذي يتمثل غرضه الأسمى في: تقريب العلوم وتسهيلها.

ولئن كان الاختصار منهجاً معروفاً في كافة العلوم، فإنه في علم التفسير أشد ظهوراً وانتشاراً، ومن أظهر الأمثلة على ذلك: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير - رحمه الله -، فقد أُلِّف في اختصاره- من المعاصرين فقط- اثنى عشر مختصراً، ولا تزال مختصراته تتتابع مع الأيام، ولا عجب في ذلكº فإن مؤلفه ما إن انتهى من تأليفه حتى اختصره تلميذه أبو المحامد عفيف بن سعيد بن مسعود الكازروني. [5]

ولعل في طبيعة علم التفسير من القابلية للتوسع، وبسط الكلام، ومَدِّ المعاني، ما يدعو العلماء به إلى تَحديد أصول المعاني فيه مَرَّة بعد أخرى، وتَجريدها مما علق بها من أنواع العلوم والمعارف الزائدة عن حَدِّ التفسير، وكذا استبعاد ما لا حاجة إليه من تلك المعلومات والزيادات التي تتغير بتغير الأزمان والحاجات.

وهم في هذا قد فقهوا الحاجة إلى الاختصار، وعلموا مقدار فوائده المرجُوَّة.

ويمكن إيضاح المنهج العام لأئمة التفسير في مختصراتهم في أربعة أغراض متلازمة متكاملة:

الأول: الاقتصار على متن التفسير الذي هو بيان المعنى، وما لابد منه لبيانه.

الثاني: اختيار أصح المعاني وأكملها.

الثالث: تقريب تلك المعاني في ألفاظ مفهومة متداولة في أزمانهم.

الرابع: انتقاء أقرب المعاني ارتباطاً بواقع الناس، وأشدها تعلٌّقاً بأحوالهم، وذلك عند تساوي المعاني في الصحة، أو حال الاستنباط والقياس.

 

ومن تأمل كتب أئمة التفسير المتقدمين، سواءً المختصرة من غيرها، أو المختصرة في نفسها- بِقِلَّة ألفاظها واختياراتها-، يجدها قائمةً على هذه الأنحاء الأربعة، والتي بِها تتحقق فوائد الاختصار، ويصيب صاحبه غرضه منه، وينتفع به الناس. [6]

ذلك منهج العلماء في الاختصار، وذاك غرضهم منه.

وفي هذا العصر تزامنت كثرة مختصرات التفسير، مع تباعد كثيرٍ, من المختصرين عن منهج أعلام سلفهم في ذلك، فأعملوا في كتب السابقين سلخاً ومسخاً وتهذيباً وترتيباً، لم يبقَ معه للأصل لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحة، ولست تعرف ممَّا بقي من أطلاله غير اسمه:

 

لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلُ

 

وسبب ذلك جهل المُختَصِرُ بمنهج العلماء في هذا الباب، وأصولهم في ضبطه. ولا سبيل للوصول إلى ما وصل إليه أولئك العلماء، وإصابة الحق في باب الاختصار، إلا باتِّبَاع أصولٍ, منهجيةٍ, علميةٍ, ساروا عليها، تعصم من الاعتداء على كتب الأسلاف، وتسدٌّ بهذه المختصرات حاجةً قائمةً في معارف المسلمين.

وتجتمع هذه الأصول المنهجية للاختصار في ثلاثة أصول:

الأول: صحة الفهم.

الثاني: حسن البيان.

الثالث: سلامة المقصد.

* فالأصل الأول يعصم من سوء الفهم، قلا يُبنَى المُختَصَر على ما لم يُرِده صاحب الأصل، وسوء الفهم أعظم ما يكون آفةً في هذا المقام.

* والأصل الثاني يعصم من الخطأِ في إيصال مُراد صاحب الأصل، فلا يكفي الفهم الصحيح حتى يَصِلَه بقَدرٍ, من البيان يحمل معانيه بلا زيادة ولا نقصان، وإن فصاحة اللسان ههنا مَزِيَةٌ لَهَا شَأن، تُعين صاحبها على صِحَّة الفهم، وحُسن الاختيار من المعاني، وإصابة الصواب في إيصالها بلا إسرافٍ, ولا تقتير.

ولَمَّا اجتمع لابن عباس - رضي الله عنه - هذين الأصلين: العلمُ بالقرآن، وحسنُ البيان، كان «ترجمان القرآن»، ولا يكون ذلك إلا لِمَن تَحَقَّق علمه فيما يُتَرجِمُ عنه، وما يُتَرجِمُ إليه.

* والأصل الثالث يعصم من تحريف مُراد صاحب الأصل، بزيادة أو نقص أو تصرٌّفٍ, في العبارة على وجه يُحيل المعنى إلى خلاف مُراد المؤلف، وعلى ما يوافق رأي المُختَصِر.

وأكثر ما يقع الخلل في مُختصرات التفسير من الإخلال بهذا الأصل، وعلى الأخص عند التخالف في الاعتقاد.

فحيثُ صَحَّت هذه الثلاثةُ الأصول على التمام- ولا تجتمع كذلك في غير عالم- صَحَّ الاختصار، وحَسُن أثره في هذا الفَن، وانتفع به الناس في زمانهم. والجهل بها، أو الخلل في التزامها يوقع في مخالفات وانحرافات تعصف بجلالة تلك الأصول، وتمحو من هيبتها في نفوس قارئيها، وتُجَرِّئُ من ليس أهلاً على تناولها بصنوفٍ, من العبث والتغيير.

 

--------------------------------------------------------

[1]: مجالس ثعلب 1/10، تحقيق: عبد السلام هارون.

[2]: ينظر: مقدمة ابن خلدون 2/233، ومعجم البلدان 1/22.

[3]: معجم البلدان 1/22 بتصرٌّف.

[4]: اختصره صاحب (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع)، واعتذر عن فعله هذا في مقدمته. ينظر: كشف الظنون 2/1652، 1733.

[5]: منه نسخة ضخمة جداً، مخطوطة بحاشية تفسير ابن كثير، في مكتبة نور عثمانية بتركيا، نُسِخت سنة 928. ينظر: بحوث وتحقيقات للعلامة عبد العزيز الميمني 1/163.

وعن مختصرات ابن كثير ينظر: ذخائر التراث العربي، لعبد الجبار عبد الرحمن 1/226.

[6]: يمكن تطبيق ذلك على كُتُب المُفَسِّر الواحد في التفسير، كتفاسير الواحدي (ت: 468) الثلاثة: البسيط، والوسيط، والوجيز. فما كتبه المؤلف في الوجيز هو الحَدٌّ الأدنى من التفسير، الذي يقتَضيه مَقامُ الاختصارº وهو بيان المعنى، وما لا بُدَّ منه لِبَيانه، كسبب النٌّزول ونحوه، في معاني مختارة، وبألفاظ أشد وضوحاً ومباشرةً في الدلالة على المعنى.

ثُمَّ تتكاثر موضوعات علوم القرآن المتنوعة، ويظهر الجانب العلمي الأبرز عند المؤلف في تفسيره: الوسيط، لتكتمل عنده في: البسيطº الذي بسط فيه القول وأشبَعَه، وتَجَلَّت فيه تلك المعارف بوضوح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply