لا بأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه


تتكشف للناظر في القرآن الكريم آفاق عجيبة من التناسق والتناسب بين السور والآيات، والمعاني التي تهدف إليها السور والآيات.

لكن ذلك لا يتم إلا من خلال النظر والتأمل الصادق، فللقرآن آفاق متعددة في الإعجاز، وللوقوف على أي منها لابد من تدبر القرآن الكريم عند قراءته.

قال - تعالى -: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً))، وقال: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)) [سورة ص: 29].

تكلمنا في الموضوع السابق (التناسب في أسلوب القرآن الكريم)[1]، عن أحد أنواع التناسب في القرآن الكريم، التناسب بين السور أي المناسبة بين السورة والسورة التي تليها، وذكرنا أمثلة لذلك من مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم.

ونذكر في هذا الموضوع بقية أنواع التناسب ليكون التقويم الصحيح لبيان وجه من وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي: ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد))، ((قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [الزمر 28].

التناسب بين مطالع السور وخواتيمها:

التأنق في بداية الكلام هو أحسن أنواع البلاغة عند البيانيينº لأن البداية هي السبب في إقبال السامع على الكلام أو إعراضه عنه، فينبغي على الخطيب أو المتكلم أن يأتي بأحسن الألفاظ نظماً وسبكاً، وأوضحها معنى وأصحها دلالة وأقواها تأثيراً.

وأخص أنواع البدايات الحسنة في الكلام هو براعة الاستهلال، وذلك بأن يشتمل الكلام على ما يناسب الحال التي يتكلم فيها[2].

ومطالع سور القرآن الكريم وخواتيمها جاءت على أحسن الوجوه وأكملها، فقد استهل الرب - سبحانه وتعالى - بعض السور بما كان العرب يبدأون به أقوالهم في المهمات كقولهم ((يا أيها الناس))، ((يا قوم)) وفي هذا تنبيه للسامعين إلى ما سيلقى عليهم من الأقوال الهامة كما جاء في سورة النساء: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة))، وفي الحج: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم))، وفي الحجرات: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)).

واستهل بعضها بحمده وتسبيحه كما في الأنعام: ((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور))، والكهف: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا))، وسبأ: ((الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض))، وفاطر: ((الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا)).

واستهل - سبحانه - بعض السور ببيان الغرض المقصود من التنزيل كما في قوله: ((تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم))، ((سورة أنزلناها وفرضناها)).

واستهل بعضها من غير تمهيد أو عنوان كقوله: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله))، ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)).

هكذا كانت أساليب العرب في الرسائل والخطب[3].

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply