رأي آخر في الإسرائيليات في كتب التفسير


 بسم الله الرحمن الرحيم 

في هذا الصباح (السبت 2/3/1424) كنت أود أن أُتحف هذا الملتقى الرائع بموضوع، فتذكرت كلامًا كنت علَّقته على موضوع الإسرائيليات أثناء شرحي لرسالة شيخ الإسلام في أصول التفسير ـ أسأل الله أن ييسر طباعتها ـ فرأيت أن أنقل لكم ما شرحت به كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -. ولما نظرت إليه وجدته طويلاً جدَّا، فأعتذر لكم سلفاً عن هذا الطول الذي قد ينسي آخرُهُ أولَه في مثل صفحات ملتقى أهل التفسير على الإنترنت.

وأفيدكم أني قد وجدت ما كتبه الأخ الفاضل أبو بيان زاده الله بيانًا، فأعجبني طرحه، إذ الموافقة بين ما سأطرحه وما طرحه متمثلة في شيء كثير، والحمد لله على مثل هذه المواطآت العلمية التي تريح الباحث حينما يجد أن غيره ـ بلا مواطأة واتفاق مسبق ـ قد توصل إلى ما توصل إليه هو.

كما أشكر الأخ الفاضل أحمد البريدي الذي طرح سؤالاً في سلسلته في هذا الملتقى (مشكل التفسير) حول أثر ابن عباس في النهي عن سؤال أهل الكتاب، وقد وعدته بالإجابة على هذا الأثر أثناء لقاء تمَّ بيننا، كما أنَّ في حديثي هذا إجابة أخرى عنه.

وهذا أوان الشروع في الحديث عن الإسرائيليات، وهو مجتزءٌ من حديثٍ, قبله.

.......

أولاً: أن بعض أخبار بني إسرائيل منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً صحيحًا، ولا ريب في قبول هذه الأخبار، حتى لو كانت فيما لا يقوم عليه علم أو عمل، كاسم صاحب موسى أنه الخَضِرُ.

 

ثانياً: أنَّ أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أحوال:

- أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.

- والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والضابط في القبول والردِّ في هذا هو الشرع، فما كان موافقًا قُبِلَ، وما كان مخالفًا لم يُقبل.

ويدل لذلك أمثلة، منها ما رواه الطبري (ت: 310) عن سعيد بن المسيب، قال: قال علي - رضي الله عنه - لرجل من اليهود: أين جهنم؟

فقال: البحر.

فقال: ما أراه إلا صادقًا، (وَالبَحرِ المَسجُورِ)، (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَت) مخففة « [تفسير الطبري، ط: الحلبي (27: 18)]. فصدَّقه أمير المؤمنين عليُّ - رضي الله عنه -º لوجود ما يشهد له من القرآن.

وما رواه البخاري (ت: 256)، قال: وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. صحيح البخاري ج: 6 ص: 2679

وقد يقع الردٌّ من بعض الناس لبعض الإسرائيليات بدعوى مخالفة الشرع، ولا يكون ذلك صحيحًا في الحقيقةº لأنَّ ما ينسبه إلى الشرع قد لا يكون صحيحًا، بل هو رأي عقلي محضٌ وقع فيه شبه عنده أنه من الشرع، ويظهر ذلك جليًا فيما يتعلق بعصمة الأنبياء، إذ معرفة حدود هذه العصمة قد دخله التخريج العقلي، والتأويل المنحرف بدعوى تنزيه الأنبياء، فظهر بذلك مخالفة ظاهر القرآن.

 

- والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه.

ويلاحظ في هذا القسم أنه تجوز حكايته، وعلى هذا عمل السلف في التفسير وغيره، ولم يقع النكير على هذا بينهم إلا بسبب الإكثار من الرجوع إليهم، أو بسبب تصديقهم فيما يقولون. كما يلاحظ أنَّ غالب هذا القسم مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني.

وهذه الأخبار قد تكون منقولة عن الصحابة، وما كان كذلك فالنفس إليه أسكن، وقد تكون منقولة عن التابعين، وهذا النقل أقل في القبول من المنقول عن الصحابي لاعتبارات، منها:

1 ـ أنَّ المنقول عن الصحابة أقل من المنقول عن التابعين.

2 ـ احتمال أن يكون رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عمن أخذها عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

3 ـ أن جزم الصحابي بما يقوله لا يتصور معه أنه نقله عن بني إسرائيل.

ويلاحظ هنا أنَّ ضابط العقل أو الغرابة ليس مما يُتفقُ عليه.

ففي تفسير قوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) الأحزاب: 69، ورد الخبر الآتي:

إن موسى كان رجلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستَتِر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برصٌ، وإما أُدرَةٌ، وإما آفةٌ.

وإن الله أراد أن يُبَرِّئه مما قالوا لموسى، فَخَلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عَدَا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون.

وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطَفِقَ بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) الأحزاب: 69.

فهذا الخبر لا تخفى غرابته، وقد لا يحتمل العقل تصديقه، لكن إذا علِمت أنه خبر صحيح مرويُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه البخاري (ت: 256) وغيره = سلَّمت لذلك الخبر، وأدركت أنه خبر حقيقي واقع، مع ما فيه من الغرابة.

وليس يعني هذا أن يُقبل كل خبرٍ, مع ما فيه من الغرابة، لكن المراد أنَّ الغرابة ليست ضابطًا كافيًا في ردِّ مثل هذه الأخبار، والله أعلم.

ومن الأمور التي يحسن التنبه لها أنَّ رواية السلف للإسرائيلية ـ خصوصًا الصحابة ـ لا يعني قبول ما فيها من التفاصيل، ومرادهم بها بيان مجمل ما ورد في القرآن بمجل ما ذُكِرَ في القصة، دون أن يلزم ذكرهم لها إيمانهم بهذه التفاصيل التي تحتاج في نقلها إلى سند صحيح، وذلك عزيز جدًّا فيما يرويه بنو إسرائيل في كتبهم

وقد ورد عنهم أنهم يميزون كذبها ويعرفونه، ولا يصدقون كل ما يُروى لهم من الإسرائيليات، وإن كان الذي يذكرها لهم محله الصدق عندهم، ومن ذلك ما ورد في خبر الخليفة معاوية بن أبي سفيان.

قال البخاري (ت: 256): وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب صحيح البخاري ج: 6 ص: 2679

قال ابن حجر: » وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يُرِد أنه كان كذابًا.

وقال غيره: الضمير في قوله لنبلو عليه للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذبº لكونهم بدَّلوه وحرَّفوه.

وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب ويتعمدهº إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب.

وقال ابن الجوزي: المعنى: إن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار «[فتح الباري (13: 335)]

 

بعض الأمور التي تتعلق بالإسرائليات:

إن من يستقري الإسرائيليات التي وردت عن السلف، سيجد الأمور الآتية:

1 ـ أنها أخبار لا يبنى عليها أحكام عملية.

2 ـ أنه لم يرد عن السلف أنهم اعتمدوا حكمًا شرعيًا مأخوذًا من روايات بني إسرائيل.

3 ـ أنه لا يلزم اعتقاد صحتها، بل هي مجرد خبر.

4 ـ أنَّ فيها ما لم يثبت عن الصحابة، بل عن من دونهم.

5 ـ أن تعليق الأمر في بعض الإسرائيليات على أنه لا يقبلها العقل أمر نسبي، فما تراه أنت مخالف للعقل، قد يراه غيرك موافق للعقل.

6 ـ أن الكثرة الكاثرة في هذه الإسرائيليات لا يوضح أمرا يتعلق بالتفسير بل يكون التفسير واضحا بدونها وقد يكون معلوما من حيث الجملة والإسرائيلية لاتفيد فيه زيادة ولا قيد.

7 ـ أن هذه الإسرائيليات من قبيل التفسير بالرأي.

إن كون الإسرائيليات مصدرًا يستفيد منه المفسر في حال بيان معنى كلام الله لا يعني أن تقبلَ كلَّ ما يُفسَّر به هذا من طريق هذا المصدر، فهذه الإسرائيليات كالتفسير باللغة، وليس كل ما فسِّر به من جهة اللغة يكون صحيحًا، وكذلك الحال هنا.

ولما كان التفسير بالرأي قد يقع في ربط آية بآية، وربط حديث بآية، فكذلك يقع بربط قصة إسرائيلية بآية، مع ملاحظة الفرق بين هذه المصادر من جهة قوة الاعتماد عليه، والوثوق به من حيث هو، لا من حيث الربط الذي يكون بالاجتهاد، والاجتهاد قد لا يصح ولو كان من باب تفسير آية بآية.

وإذا كان المراد بالتفسير بيان المعنى، فاعتبر الإسرائيلية مثالاً في التفسير لبيان المعنى، وليست حاكمة على النص القرآني، ولا قاطعةً بهذا المعنى دون غيره من المعاني المحتملة، ولست ملزمًا بقبولها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply