هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟ وما القول الراجح فيها؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

السؤال:

قال السائل: هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟ وما القول الراجح فيها؟

الجواب:

إن موضوع الأحرف السبعة من الموضوعات التي لا زالت تشغل الكثيرين، ولا يرون فيها جوابًا شافيًا، لما في هذا الموضوع من الغموض.

ولقد تصدَّى للكتابة فيه أعلام كثيرون، وأنفس ما كتب فيه كتاب الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري حفظه الله، وهو بعنوان (حديث الأحرف السبعة، دراسة لإسناده ومتنه واختلاف العلماء في معناه وصلته بالقراءات القرآنية).

ولقد قرأت هذا الكتاب كثيراً واستفدت منه ومن غيره مما كتب في هذا الموضوع، ورأيت بعد فترة من قراءة هذا الموضوع أن أفصله على مباحث متتالية يتجلى فيها صلة الأحرف السبع بالرسم والقراءات والعرضة الأخيرة... الخ، وإليك ملخص ما كتبته في هذا.

 

أولاً: معنى الحرف في الحديث:

هو الوجه من وجوه القراءة:

أنواع الوجوه الواردة في اختلاف القراءات:

1.    اختلاف الحركات؛ أي: الإعراب: {فتلقى آدم من ربه كلمات} والقراءة الثانية بنصب آدم ورفع كلمات.

2.    اختلاف الكلمة: باعِد باعَدَ، وننشرها نُنشزها بظنين بضنين.

3.    اختلاف نطق الكلمة: جِبريل جَبريل جَبرئيل جبرئل.

4.    اختلاف راجع إلى الزيادة والنقص: تجري تحتها، تجري من تحتها. سارعوا وسارعوا.

5.    اختلاف عائد إلى اللهجة الصوتية، وهذا مما يعود إليه جملة من الاختلاف المتعلق بالأداء، كالفتح والإمالة والتقليل في الضحى.

نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على حرف واحدٍ مدة بقائه في الفترة المكية، وزمنًا كثيرًا من الفترة المدنية، ثمَّ أذن الله بالتخفيف على هذه الأمة، فأنزل الأحرف التي يجوز القراءة بها، وكان عددها سبعة أحرف في الكلمة القرآنية.

روى البخاري (ت: 256) وغيره عن ابن عباس (ت: 68)، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أقرأني جبريل عليه السلام على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف).

وقد ورد في روايات أخرى: (كلها كاف شاف ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، وآية عذاب بآية رحمة).

وورد كذلك سبب استزادة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (لقيت جبريل عند أحجار المرا، فقلت: يا جبريل. إني أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتاباً قط، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف).

وقد وقع اختلاف كبير في المراد بهذه الأحرف السبعة، وسأعرض لك ما يتعلق بهذا الموضوع في نقاط:

1.    أنَّ التخفيف في نزول الأحرف السبعة كان متأخراً عن نزوله الأول، فلم يرد التخفيف إلا بعد نزول جملة كبيرة منه.

2.    أنَّ هذه الأحرف نزلت من عند الله، وهذا يعني أنه لا يجوز القراءة بغير ما نزل به القرآن.

3.    أنَّ هذه الأحرف السبعة كلام الله، وهي قرآن يقرأ به المسلمون، ومعلوم أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يحذف حرفاً واحداً من القرآن، ولا أن ينسخ شيئاً منها فلا يُقرأ به.

4.    أن القارئ إذا قرأ بأي منها فهو مصيب.

5.    أن القراءة بأي منها كاف شاف.

6.    أنَّ الذي يعـرف هذه الأحرف المنْزلة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا لا تؤخذ إلا عنه، ويدل على ذلك حديث عمر وأُبي في قراءة سورة الفرقان، حيث قال كل منهما: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

7.    أنَّها نزلت تخفيفاً للأمة، وقد نزل هذا التخفيف متدرجاً، حتى صار إلى سبعة أحرف.

8.    أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بين سبب استزادته للأحرف، وهو اختلاف قدرات أمته الأمية التي فيها الرجل والمرأة والغلام والشيخ الكبير.

هذا ما يعطيه حديث الأحرف السبعة من الفوائد المباشرة، لكنه لا يحدِّدُ تحديداً دقيقاً المراد بالأحرف السبعة، وهذا ما أوقع الخلاف في تفسير المراد بها.

 

ثانياً: علاقة هذه الأحرف بالعرضة الأخيرة:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أسرَّ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ جبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة، وإنه عارضني هذا العام مرتين، ولا أُراه إلا قد حضر أجلي).

وفي هذه العرضة نُسِخَ ما نُسخَ من وجوه القراءت التي هي من الأحرف السبعة، وثبت ما بقيَ منها، وكان أعلم الناس بها زيد بن ثابت، قال البغوي في شرح السنة: (يقال: إن زيد بن ثابت شـهد العـرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتب المصاحف).

والدليل على وجود أحرف قد نُسخت ما تراه من القراءات التي توصف بأنها شاذة، وقد ثبتت بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فأين تضع هذه القراءات الصحيحة الشاذة من هذه الأحرف؟!

 

ثالثاً: علاقة هذه الأحرف بالقراءات المتواترة:

القراءات المتواترة: السبع التي جمعها ابن مجاهد، وما أضيف إليها من القراءات الثلاث المتممة للعشر.

والأحرف السبعة مبثوثة في هذه القراءات المتواترة، ولا يوجد شيءٌ من هذه القراءات لا علاقة له بالأحرف السبعة، غير أنَّ الأمر كما وصفت لك من أنها مبثوثةٌ فيها، وبعضها أوفر حظاً بحرف من غيرها من القراءات.

وإن لم تقل بهذا، فما ماهية الأحرف الستة الباقية التي يُدَّعى أنَّ عثمان ومن معه من الصحابة اتفقوا على حَذْفِها، أو قل: نَسْخِها.

وكم أنواع القراءات التي ستكون بين يديك -لو كنت تقول بأنَّ هذه القراءات على حرف واحد- لو وُجِدَت هذه الأحرف الستة التي يُزعم عدم وجودها الآن؟!

لقد سبق أن بينت لك بموجز من العبارة، وأراك تتفق معي فيه: أنَّ هذه الأحرف قرآن منَزَّلٌ، والله سبحان يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر: 9]، أفترى أنَّ القول بحذف ستة أحرف قرآنية يتفق مع منطوق هذه الآية؟!

ومن قال بأن الأمة مخيَّرةٌ بين هذه الأحرف فلا دليل عنده، ولا يوافق قولُه منطوق هذه الآية، ولو كان ما يقوله صحيحاً لوُكِلَ إلى المسلمين حفظ القرآن، كما وُكِلَ إلى من قبلَهم حفظُ كتب الله، وأنت على خُبْرٍ بالفرق بين الحِفْظَين، فما تركه الله من كتبه لحفظ الناس غُيِّرَ وبدِّل ونسي، وما تعهَّد الله بحفظه فإنه باقٍ، ولا يمكن أن يُنقص منه حرف بحال من الأحوال.

ولعلك على خبر كذلك بأن من كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به كلِّه، فكيف بمن ترك أكثره مما هو منَزَّلٌ واقتصر على واحدٍ. هذا ما لا يمكن أن يقع فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمَّل ذلك جيِّداً، يظهر لك جلياً أنَّ القول بأنَّ القراءات التي يُقرأ بها اليوم على حرفٍ واحدٍ لا يصحُّ البتة.

إنَّ القول بأنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ لا دليل عليه البتة، بل هو اجتهاد عالم قال به وتبعه عليه آخرون، والاجتهاد يخطئ ويصيب. ويظهر هنا أنَّ الصواب لم يكن حليف من رأى أنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ.

 

رابعاً: علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان:

اعلم أنَّه لا يوجد نصٌّ صريحٌ في ما كتبه أبو بكر ولا عثمان رضي الله عنهما، لذا ظهر القول بأنَّ أبا بكر كتب مصحفه على الأحرف السبعة، وكتبه عثمان على حرف واحدٍ. وهذا القول لا دليل عليه البتةَ، وهو اجتهاد مدخولٌ.

والذي يدل عليه النظر أنه لا فرق بين ما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مفرق في أدوات الكتابة آنذاك من رقاع ولخف وأكتاف وغيرها، وبين ما جمعه أبو بكر في مصحف واحد، ثمَّ بين ما فرَّقه عثمان ونسخه في المصاحف المتعددة في الأمصار، هذا هو الأصل، وهو أن القرآن الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تمَّ أنه هو الذي بين يدي الأمة جيلاً بعد جيل، ولست أرى فرقاً بين هذه الكتبات الثلاث من حيث النص القرآني، وإنما الاختلاف بينها في السبب والطريقة فحسب.

ولو تتبعت المسألة عقلياً، ونظرت في اختيار زيد بن ثابت دون غيره من الصحابة، وبدأت من هذه النقطة = لانكشف لك الأمر، فلأبدأ معك مفقِّراً هذه الأفكار كما يأتي:

1.      لا يجوز البتة ترك شيء من القرآن ثبت أنَّه نازل من عند الله، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ به، وأقرأ به الصحابة، وقد مضى الإشارة إلى ذلك.

2.      أنَّ القرآن قد كُتِبَ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرَّقاً في الرقاع واللخف والعسب، ولم يكن مجموعاً في كتاب.

3.      أنَّ القرآن كان متفرقاً في صدور الرجال، وهم على درجات في مقدار حفظه، قال زيد بن ثابت: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال).

4.      أنَّ من أسباب اختيار زيد بن ثابت ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال زيد: (وقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا أتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن واجمعه).

فكان في هذا ما يميِّزه على متقدمي قراء الصحابةِ، أمثال أبيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وسالم مولى حذيفة وغيرهم.

كما كان هذا ما ميَّزه على ابن مسعود خصوصاً، الذي جاء في الآثار أنه حضر العرضة الأخيرة، وقد كان اعترض على عدم إشراكه في جمع القرآن في عهد عثمان.

5.      أنَّ زيداً الذي هو من أعلم الصحابة بالعرضة الأخيرة = سيكتب في المصحف الذي أمره أبو بكر بكتابته ما ثبت في هذه العرضة، ولن يترك حرفًا ثبت فيها من عند نفسه أو بأمر غيره.

ومن هنا يكون مصحف أبي بكر قد حوى ما بقي من الأحرف السبعة التي ثبتت في العرضة الأخيرة.

ولما جاء عثمان، وأراد جمع الناس على المصحف، جعل مصحف أبي بكر أصلاً يعتمده، وقام بتوزيع الأحرفِ التي تختلفُ القراءة بها في هذه المصاحف، فكان عمله نسخَ المصاحفِ، وتوزيع الاخـتلاف الثابت في الـقراءةِ عليها أحياناً، ولم يترك منها شيئاً، أو يحذف حـرفاً، وممـا يدل على ذلك الاختلاف في رسوم المـصاحف العثمـانية حيث ورد في بعـضها (تجري تحتها) وفي بعضها (تجري من تحتها) وأمثال ذلك الاختلاف.

وما لم يُرسم في المصاحف، وقرئ به فإنه مأخوذٌ عن المقرئ الذي أرسله عثمان مع المصحف، وقراءة المقرئ قاضية على الرسم؛ لأنَّ القراءة توقيفية يأخذها الأول عن الآخر لا مجال فيها للزيادة ولا النقص، والرسم عمل اصطلاحيٌّ قد يتخلَّف عن استيعاب وجوه القراءات فلا يصطلح عليه.

فإن اعترض معترض بما روى البخاري عن أنس: (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق).

ووجه الاعتراض من جهتين:

الأول: أنَّ الاختلاف قائمٌ في القراءات المشهورة التي يقرأ بها الناس إلى اليوم، فما وجه عمل عثمان، وهو إنما كان يخشى اختلاف القراءة؟

فالجواب: إنَّ القراءة قبل هذا الجمع لم تكن صادرة عن إجماع الصحابة وإلزام الناس بما ثبت في العرضة الأخيرة مما كتبه زيد في مصحف أبي بكر، والذي يدل على ذلك أنَّ قراء الصحابة كانوا يُقرئون الناس بما صحَّ عندهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس كلهم بَلَغَهُ ما نُسِخَ في العرضة الأخيرة.

فلما وزع عثمان المصاحف = أرسل مع كل مصحف قارئاً يُقرئُ الناس، بما في هذا المصحف الذي أثبت فيه وجه مما ورد في العرضة الأخيرة، وكان في ذلك حسمٌ لمادة الخلاف، وذلك أنه لو التقى قارئٌ من البصرة وقارئ من الكوفة، فقرأ كل منهما على اختلاف ما بينهما، فإنهما يعلمان علماً يقينياً بأن ذلك عائدٌ إلى وجه صحيح مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون الاختلاف قد تحدَّد بهذه المصاحف ومن معها من القراء، وأنَّ ما سواها فهو منسوخ لا يُقرأ به.

وهذا يعني أنَّ عمل عثمان هو تقرير الأوجه التي ثبتت في العرضة الأخيرة التي كُتِبَت في مصحف أبي بكر، وإلزام الناس بها، وترك ما عداها مما قد نُسخ، وليس أنه حذف ستة أحرف.

الثاني: أن يقول المعترض: إنَّ في الرواية السابقة: (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا) أوكد دليل على أنهم كتبوا المصحف العثماني على حرف واحدٍ، وهو ما يوافق لغة قريش.

والجواب عن ذلك أن يقال: إنَّ هذه المسألة ترتبط بالرسم، وهي مسألة تحتاج إلى توضيح أمور تتعلق بالرسم، وليس هذا محلها، لكن سآتي على ذكر ما يلزم من حلِّ هذا الاعتراض، وبالله التوفيق:

أولاً: إنه قد ثبت أنَّ بعض وجوه القراءات التي يقرأ به في المتواتر الآن بغير لغة قريش، كالهمز وتسهيله، فقريش لا تهمز، والهمز قراءة جمهور القراء، فكيف تخرج هذه القراءات التي ليست على لغة قريش.

ثانياً: إنه يمكن أن يُحمل الأمر على رسم المصحف لا على قراءته؛ وهذا هو الظاهر من ذلك الأثر، فقوله رضي الله عنه: (فاكتبوه على لغة قريش) إشارة إلى الرسم لا إلى القراءةِ، أمَّا القراءة فإنه يُقرأ بها بغير لغة قريش وإن كان برسم لغتها ما دام ثابتاً.

ويدلُّ لذلك أنَّه قد وردت بعض الألفاظ التي كُتبت في جميع المصاحف على وجه واحد من الرسم، وقد ثبتت قراءتها بغير هذا الرسم.

ومن ذلك ما حكاه أبو عمرو الداني (ت: 444) من أنَّ مصاحف أهل الأمصار اجتمعت على رسم الصراط وصراط بالصاد، وأنت على خُبرٍ بأنها تُقرأ في المتواتر بالصاد وبالسين وبإشمامها زاياً.

وإنما قرئت هي وغيرها مما رسم على وجه، وقرئت أيضاً على وجه آخر بالأخذ عن القارئ الذي أقرأ بهذه المصاحف، وهذا يعني أنَّه لا يلزم أخذ القراءة من الرسم حتى توافق قراءة القارئ، وأنه يجوز أن يقرأ القارئ بما يخالف المرسوم، لكنه يكون من الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مضبوط معروف، لذا لم يكن في مصحف عثمان مثل قراءة أبي الدرداء وابن مسعود: (والذكر والأنثى) مع صحة سندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويقال: إنما رُدَّت مع صحة سندها لأنه لم يقرأ بها في العرضة الأخيرة، ولم توافق المصحف، وليس ردها لمخالفة رسم المصحف فقط، والله أعلم.

وبعد هذا يكون الفرق بين عمل أبي بكر وعمل عثمان كما يأتي:

1.    أنَّ أبا بكر رضي الله عنه أراد حفظ القرآن مكتوباً، خشية أن يموت قراء الصحابة، فيذهب بذهابهم.

أما عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان الاختلاف الذي نشأ بين التابعين سبباً في نسخه للمصاحف.

2.    أنَّ أبا بكر كتب مصحفاً واحداً بما يوافق رسم ما بقي من الأحرف السبعة، أما عثمان بن عفان، فنسخ من هذا المصحف عدة مصاحف، ولم يحذف منه شيئاً.

3.    أنَّ أبا بكر لم يلزم المسلمين باتباع المصحف الذي كتبه، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف، لذا بقي الصحابة يُقرئون بما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك المقروء كثير من المنسوخ بالعرضة الأخيرة.

أما عثمان، فألزم المسلمين باتباع المصحف الذي أرسله، ووافقه على ذلك الصحابة، لذا انحسرت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة، وبدأ بذلك معرفة الشاذ من القراءات، ولو صح سندها، وثبت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بها.

وبهذا يكون أكبر ضابط في تشذيذ القراءة التي صح سندها، ولم يقرأ بها الأئمة كونها نسخت في العرضة الأخيرة.

علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب:

لا يخفى على من يقرأ في موضوع الأحرف السبعة ارتباطها بلغات العرب، بل إنَّ بعض العلماء جعل سبع لغات من لغاتها هي المقصودة بالأحرف السبعة، وفي ذلك إهمال لوجوه اختلافات لا تنتج عن كونها من لغة دون لغة.

ولعل من أكبر ما يشير إلى أنَّ اللغات تدخل في الأحرف السبعة كون القرآن بقي فترة من الزمن يقرأ بلسان قريش، حتى نزلت الرخصة بالأحرف السبعة، فظهرت الأحرف التي هي من لغات غير قريش.

ومما يشير إلى ذلك ما ورد من نهي عمر بن الخطاب لابن مسعود من أن يقرئ بلغة هذيل، ولا يتصور أن يقرئ ابن مسعود بما لم ينْزل ويأذن به النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي تحديد اللغات التي هي أسعد حظّاً بنُزول القرآن خلاف بين العلماء، ويظهر أنَّ في ذلك صعوبة في بعض مواطن الاختلاف في تحديد القبيلة التي تقرأ بهذا الوجه دون غيرها، كما قد تشترك أكثر من لغة في وجه من الوجوه، فيكون نسبته إلى لغة أحدها دون غيرها قصور في ذلك.

وتظهر الصعوبة أيضاً في أنه لا يوجد تدوين تامٌّ للهجة قبيلة دون غيرها، وإن كان في الكتب إشارة إلى بعض الظواهر اللهجية لهذه القبائل.

وإذا تأمَّلت ما يتعلق باللغات العربية، وجدته أكثر ما يتعلق به الخلاف في القراءات، خصوصاً ما يتعلق بالنطق، فقبيلة تعمد إلى الإدغام في كلامها، وقبيلة تعمد إلى الإمالة، وقبيلة تعمد إلى تسهيل الهمز، وقبيلة تعمد إلى تحقيق الهمز، وقبيلة تعمد إلى ترقيق بعض الأحرف، وقبيلة تعمد إلى تفخيمها، وهكذا غيرها من الظواهر المرتبطة بالصوتيات التي تتميَّز بها قبيلة عن قبيلة.

ويظهر أنَّ هذه الصوتيات هي أكبر ما يراد بنُزول الأحرف السبعة، وهي التي يدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: «أسأل الله مغفرته ومعافاته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا جبريل، إني أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتاباً قط).

إذ الذي يستعصي على هؤلاء هو تغيير ما اعتادوا عليه من اللهجات إلى غيرها، دون ما يكون من إبدال حرف بحرف، أو زيادة حرف، أو إعراب، فإن هذه لا تستعصي على العربي، لكن أن يكون عاش جملة دهره وهو يميل، فتريد أن تعوده على الفتح، أو كان ممن يدغم، فتريد أن تعوِّده على الإظهار فذلك ما يعسر، والله أعلم.

ولا يفهم من هذه الجملة في هذا الحديث أنَّ الاختلاف في الأحرف يرتبط بهذه اللهجات دون غيرها من وجوه الاختلاف، بل يُحملُ هذا على أن هذا النوع المتعلق باللهجات هو أعظم فائدة مقصودة في نزول الأحرف السبعة، وليس هذا الفهم بدعاً، ففي الشريعة أمثلة من هذا النوع، ومن ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»، والحج يشتمل على أعمال غير الوقوف بعرفة، فقوله صلى الله عليه وسلم يدل على أنَّ هذا العمل أعظم أعمال الحج.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل: فإذا قال: {الحمد لله رب العالمينقال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: {الرحمن الرحيمقال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مالك يوم الدينقال: مجدني عبدي. فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعينقال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل....).

وإنما سُمِّيت الفاتحة: الصلاة، وهي جزء منها؛ لأنها أعظم أركان الصلاة.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»، وغيرها من الأمثلة التي يسمى فيها الجزء باسم الكلِّ؛ للتنبيه على أهميته، وللدلالة على الاعتناء به.

وإذا صحَّ لك هذا، فإنَّ جميع وجوه الاختلاف في القراءة تدخل في الأحرف السبعة، وأنَّ أعظم هذه الوجوه ما يتعلق باللهجات، والله أعلم.

علاقة الأحرف برسم القرآن:

يرتبط هذا الموضوع بلغات العرب، وقد سبق الحديث عنها، والمراد هنا التنبيه على كون ما يتعلق برسم القرآن من الأحرف السبعة هو ما يمكن رسمه من الألفاظ، أمَّا وجوه القراءة التي ترجع إلى اللهجات؛ كالإمالة والتقليل، والمد والإظهار والإدغام والسكت والتسهيل والإبدال، وغيرها فلا يمكن أخذها من الصحف ولا كتابتها في المصاحف إلا بما يصطلح عليه أنه يشير إليها، ومعلوم أن علم ضبط المصحف كان متأخراً، ولم يكن في عصر الصحابة إطلاقاً.

وهذا يعني أنك إذا قلت: كُتِبَ المصحف على الأحرف السبعة، فالمراد كتابة الألفاظ ووجوه قراءتها اللفظية لا الصوتية.

وهذه الصوتيات إنما تؤخذ عن السابق بطريق المشافهة والرواية، فينقلها كما سمعها، وهكذا من أول السند إلى منتهاه.

وبهذا تعلم أن رسم المصحف لا يمكن أن يحوي جميع وجوه الأحرف السبعة، وإنما يمكن أن يحوي منها ما يتعلق برسم الألفاظ، أمَّا غيرها فيؤخذ من طريق الأئمة القراء.

ولهذا السبب -لما أراد عثمان أن يلزم الناس بالقراءة التي أجمع الصحابة على أنها ما ثبت في العرضة الأخيرة- أرسل مقرئاً مع كل مصحف، فقد ورد أنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ في المدينة، وبعث عبدالله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري.

ومن ثَمَّ فالرواية قاضية على الرسم لا العكس.

تلخيص المراد بالأحرف السَّبعة:

الأحرف السبعة: أوجه من الاختلاف في القراءة، وما لم ينسخ منها في العرضة الأخيرة، فهو محفوظ ومبثوث في القراءات المتواترة الباقية إلى اليوم.

ومن ثَمَّ، فإنه لا يلزم الوصول إلى سبعة أوجه في هذه القراءات المتواترة الباقية؛ لأنَّ بعض هذه الأحرف قد نُسِخَ.

كما أنه لا يلزم أن يوجد في كل كلمة سبعة أوجه من أوجه الاختلاف، وإن وُجِدَ، فإنه لا يتعدَّى السبعة، فإن حُكيَ في لفظ أكثر من سبعة، عُلِمَ أنَّ بعضها ليس بقرآن؛ كبعض الأوجه الواردة في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوت}[المائدة: 60].

والمراد بعدد الأوجه من أوجه الاختلاف التي لا تزيد على سبع: الاختلاف في الكلمة الواحدة في النوع الواحد من أنواع الاختلاف؛ كالمد والقصر، والإمالة والفتح.

ومن ثَمَّ، فلا إشكال في أن تكون أنواع الاختلاف أكثر من سبعٍ في العدد، كما اختلف في ذلك من جعل الأحرف السبعة أنواع من الاختلاف في القراءات عموماً، والصحيح أنها كلها أوجه اختلاف مندرجة، لكن لا يجتمع أكثر من سبعة منها في اختلاف أداء الكلمة القرآنية.

ويلاحظ أنَّ هذه الأوجه على قسمين:

الأول: ما يتعلق بالنطق واللهجة، كالإمالة والتقليل والفتح، وكالإدغام والإظهار، وغيرها، وهذا ما جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم عليه في طلب التيسير، حيث أن أكبر فائدة في هذه الحروف هو التيسير على الشيخ الكبير وغيره، ولا يتصور هذا إلاَّ في النطق.

الثاني: ما يتعلق بالرسم والكتابة؛ كالاختلاف في زيادة الواو وعدمها في لفظ {وسارعوا}، والاختلاف في حركات الكلمة في لفظ {تَرجِعون}، و {تُرجَعون}، وغيرها، وهو ما ركَّز عليه من جعلها أنواعاً من الاختلاف في القراءة (ابن قتيبة، وأبو الفضل الرازي، وابن الجزري وغيرهم)، وإنما دخل هذا في الأحرف، مع أنه قد لا يعسر على الناطقين؛ لأنك تجد هذا القسم من الاختلاف في القراءة، فلا بدَّ أن تحمله على الأحرف السبعة، وإلاَّ كان هناك شيء من الاختلاف غير اختلاف هذه الأحرف السبعة.

هذا ما يسر الله تقييده، ولازال البحث يحتاج إلى إعادة صياغة وتحرير، والله الموفق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

رأي جديد في الأحرف السبعة

03:22:42 2020-03-15

بسم الله الرحمن الرحيم معنى الحرف هو الحافة أو الطرف أو البداية. وبداية الاسلام (القرآن)وحرفه. وما يدل على ذلك قوله تعالى" وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ" ور أي إن بعض الناس وهم المنافقون قد بدأوا دخول الاسلام ولكنهم وقفوا على حرفه ولم يتوغلوا فيه لعدم إيمانهم أي لشكهم في نفع الدخول فيه. والحرف الذي توقفوا عنده هو قولهم (آمنا) لقوله تعالى: " قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" إذاً بداية دخول الاسلام هو قول ابتدائي. وبالتالي يكون حرف الاسلام أو القرآن هو أول ما نزل من القرآن على النبي وهو قول (بسم الله الرحمن الرحيم). وعليه تكون آيات الفاتحة السبع هن الأحرف أي البدايات السبع التي نزل عليها القرآن لأنهن متفقات في المعنى بالرغم من اختلاف ألفاظهن ولهن ألفاظ أخلرى مطابقة لهم. كما إن معنى القراءة هو القول ألم يكن أمر سيدنا جبريل كان بالقراءة "إقرأ" وجاءت النتيجة بدلاً عنها "قل"؟ إذاً التيسير كالآتي: إن قلت مكررا البسمله أو الحمد أو أي آية من الفاتحة أو أي لفظ من ألفاظهن الأخرى يكفي لأن كل حرف أو بداية منهن يتيعها العمل بالأوامر والنواهي والعمل بالحلال و.... إذا لا فرق بين البدايات طالما الأعمال التي تتبع القول بهم واحدة والنهاية واحدة وهي مرضاة الله والغوز بجنته والله أعلم