أثر التفسير في بناء الشخصية واتزانها


 بسم الله الرحمن الرحيم 

لما كان التأثير يتم بمقدار عـظـمـة المؤثر ظهر تأثير تفسير القرآن في بناء الإنسان وشخصيته قوياً وكاملاً، ويصعب علينا حـصـر جميع جوانب التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، وسأقتصر على بعض الجــوانـب. وأقـــــول: إن الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقه فيه يرقق إحساس الطالب ويقوي شعوره، وينمي فيه حب الآخرينº بحيث يجعله يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.

ومــن مبتكرات القرآن في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجـعـل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بغيره ظناً بنفسه، وجعل لمز غـيـره لمزاً لنفسه، وجعل السلام على غيره سلاماً على نفسه، وكل ذلك أراده القرآن في تعبيراته.

قال ـ تـعـالـى ـ في سياق أخبار بني إسرائيل: ((وَإذ أَخَذنَا مِيثَاقَكُم لا تَسفِكُونَ دِمَاءَكُم وَلا تُخرِجُونَ أَنفُسَـكُم مِّن دِيَارِكُم ثُمَّ أَقرَرتُم وَأَنتُم تَشهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُم هَؤُلاءِ تَقتُلُونَ أَنفُسَكُم)) [البقرة: 84، 85]. فـجـعــل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر ذاته.

قال القرطبي: (ولما كانت ملـتهـم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها)(1).

قال الشيخ ابن عاشور: (وليس الـمـراد النـهـي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه، أو يخرج نفسه من دارهº لأن مثل هذا مما يزع المرء عـنـــه وازعه الطبعي.. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره)(2). ومـثــــل هذا السياق قوله ـ تعالى ـ: ((فَاقتُلُواً أََنفُسَكُم)) [البقرة: 54]. ومعناه: فليقتل بعضكم بـعـضــــاً بــــأن يقتل من لم يعبد العجل عابديهº فإن قتل المرء لأخيه كقتله نفسه.

قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل)(3).

وقــــال الله ـ تعالى ـ في سياق هذا المعنى: ((وَلا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم)) [النساء: 29] أي لا يقتل بعضـكـــم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن الـمـــراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه)(4).

قال الحافظ ابـــن كثير: (وهو الأشبه بالصواب)(5)، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين، فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه)(6) وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة)(7).

وقد بين الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وقال: ((...كَتَبنَا عَلَى بَنِي إسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَـتَـــلَ نَفساً بِغَيرِ نَفسٍ, أَو فَسَادٍ, فِي الأََرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة: 32].

ومن تعبيرات القرآن بالنفــس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أََيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أََنفُسَكُم لا يَضُرٌّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم)) [المائدة: 105]. نقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ((عَلَيكُم أََنفُسَكُم)) ويـعـنـي علـيـكـم أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعـظ بعضكم بعضاً، ويرغّب بعضكم بـعـضـــــاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات)(8)º لأن المؤمنين إخوة في الدين.

ومـــن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قال ـ تعالى ـ: ((فَإذَا دَخَلتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِـكُــــــم تَحِيَّةً مِّن عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) [النور: 61]. والمعنى: فليسلّم بعضكم على بعض، وهــم أهـــل البيـوت التي يدخلونهاº لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منـكــم فـي الدين، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم، وقد أنكر الشيخ ابن عاشور عـلـى من فهم من الآية أن الداخل يسلم على نفسه، فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ، وأهملوا دقيقتهº فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب)(9).

أقول: وهو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض)(10).

ومن تعبيرات القرآن بالنـفـــس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم)) [الحجرات: 11]. والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه وإنما اللاّمز يلمز غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزل البعض الملموز منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.

ومن تعبيرات القرآن عن الـغـيـر بالـنـفــس قوله ـ تعالى ـ: ((لَولا إذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيراً)) [النور: 12].

الـمــراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدةº فهلاّ وقت أن سمعتم حديث الإفك هذا ظنـنـتـم بأنفسكم أي بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاًº إذ لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هــذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبــة والمودة والإخاء والإحساس الصادق، حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه(11).

قــــــال الرّازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم)(12).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply