بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز ( 3 )


 بسم الله الرحمن الرحيم 

المواثيق في القرآن:

ذكر الله في كتابه العزيز عدة مواثيق قد أخذها على عباده لكي يقيم عليهم الحجة والبينة يوم القيامة. وهذه المواثيق هي:

 

1- ميثاق الذر:

قال - تعالى -: ( وَإِذ أَخَذَ رَبٌّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 172]. يخبر - تعالى -أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو.

 

2- ميثاق الفطرة:

حيث بيّن - سبحانه - أنه خلق الناس على الفطرة وجبلهم عليها، فقال - سبحانه -: ( فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ ) [الروم: 30]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: \" كل مولود يولد على الفطرة \"، وفي رواية: \" على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء \". [متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 1702]. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم \". [صحيح مسلم، 2865/63].

 

3- الميثاق على النبيين بتبليغ رسالاتهم:

قال - تعالى -: ( وَإِذ أَخَذنَا مِن النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ, وَإِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ وَأَخَذنَا مِنهُم مِيثَاقًا غَلِيظًا ) [الأحزاب: 7]. قال ابن كثير: يقول - تعالى -مخبرا أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله - تعالى -وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق...فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم... ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولوا العزم وهو من باب عطف الخاص على العام... فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها... وبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم... وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي أُخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم - عليه السلام -.

 

4- الميثاق على النبيين بإتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -:

قال - تعالى -: ( وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيتُكُم مِن كِتَابٍ, وَحِكمَةٍ, ثُمَّ جَاءَكُم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُم لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقرَرتُم وَأَخَذتُم عَلَى ذَلِكُم إِصرِي قَالُوا أَقرَرنَا قَالَ فَاشهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِن الشَّاهِدِينَ ) [آل عمران: 81]. فهذا العهد والميثاق أُخذ عليهم بعد إرسالهم. قال القرطبي: الرسول هنا محمد - صلى الله عليه وسلم -... واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين... فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد - عليه السلام - وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم. واللام من قوله: ( لَتُؤمِنُنَّ بِهِ ) جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف.

 

التحدي في القرآن:

تحدى الله - سبحانه وتعالى - البشرية بأن يأتوا بمثل القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتدرج معهم في التحدي إلى عدة مراحل. قال ابن كثير في تفسيره لآية يونس (38): قد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم (أي العرب)، ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب. ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به. ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشهرهم له انقيادا. كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى - عليه السلام - لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى - عليه السلام - بُعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله. ولهذا جاء في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \" ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة \". [متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 93].

 

وقد جاء التحدي من الله - سبحانه - للبشر في هذا القرآن على ثلاث مراحل:

المقام الأول: القرآن كله: قال - تعالى -: ( قُل لَئِن اجتَمَعَت الإِنسُ وَالجِنٌّ عَلَى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لاَ يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ, ظَهِيرًا ) [الإسراء: 88].

المقام الثاني: عشر سور من القرآن: قال - تعالى -: ( أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ, مِثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ, وَادعُوا مَن استَطَعتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ ) [هود: 13].

المقام الثالث: سورة واحدة من القرآن: قال - تعالى -: ( وَإِن كُنتُم فِي رَيبٍ, مِمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِن مِثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ ) [البقرة: 23]. وقال - تعالى -: ( أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِثلِهِ وَادعُوا مَن استَطَعتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ ) [يونس: 38].

وتحداهم بغير هذا كذلك، فقال - تعالى -: ( فَلَمَّا جَاءَهُم الحَقٌّ مِن عِندِنَا قَالُوا لَولاَ أُوتِيَ مِثلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَم يَكفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبلُ قَالُوا سِحرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ, كَافِرُونَ * قُل فَأتُوا بِكِتَابٍ, مِن عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهدَى مِنهُمَا أَتَّبِعهُ إِن كُنتُم صَادِقِينَ ) [القصص: 48-49].

وما زال هذا التحدي قائما إلى الآن، منذ ألف وأربعمائة سنة منذ أنزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يستطع أحد أن يأتي بما تحداهم الله به، فهل تذعن العقول وتخبت النفوس، أم ما زال على قلوب أقفالها؟!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply