نسائم ذكر حكيم هي: جلسات مع آيات من القرآن الكريم، تمر علينا في الختمات، نسمعها وتتحرك معانيها في نفوسنا، ونحتاجها في كل حينº لأنها تعمق فهما، ترسخ عقيدة، تؤسس طمأنينة، تغرس راحة، تنفي خبثا في النفس، ووسوسة في الروح، وتطرد طائفا من الشيطان، فإذا هي مبصرة.
والآية التي تصدرت لوحة النسائم هذه، هي المنطلق والأساس الذي حرك النفس لهذه النسائم القرآنية، ولما لها من أهمية في معانيها وما تحمله من إيحاءات، فسيكون البدء بها بحول الله - تعالى -وفتحه.
قال - عز وجل -: {إِنَّا أَنزَلنَاهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ} [يوسف: 2]. وفي سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ} [الزخرف: 3] به يكون تمام التعقلº ففيه القيم، وفيه المنهج، وفيه تحليق الروح، وفيه السُنن، وفيه هداية القلب، وفيه منهج الحياة الزائلة، وطريق الحياة الباقية.
وحتى نعي التعقل في بعض جوانبه، نراجع القرآن فيمن لا يعقلونº قال - تعالى -: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصٌّمٌّ البُكمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ} [الأنفال: 22] وهذه الآية جاء بعدها: {وَلَو عَلِمَ اللّهُ فِيهِم خَيراً لَّأسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَّهُم مٌّعرِضُونَ * يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَآصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}. فإما لا عقل، وإما استجابة لله وللرسول، بهذه الاستجابة يكون الفرار والخروج من الافتتان بشتى صوره، أو لا عقل، ووقتها يكون التيه في الفتن، والله شديد العقاب.
وفي قول الله - تعالى -: {لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ, أَو مِن وَرَاءِ جُدُرٍ, بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدٌ تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعقِلُونَ} [الحشر: 14]. نفي لصفة العقل، عند يهود، ونتج عن غياب العقل الربانيº تشتت في القلوب، وخوف وهلع، وبأس يصرف للداخل.
قال القرطبي: \" وفي قراءة ابن مسعود (وقلوبهم أشت) يعني أشد تشتيتا ; أي أشد اختلافا \".
والقرآن الكريم عندما نكون على صلة قوية به، هو مصدر هذا التعقل الأولي والأخير، يجمع شتات القلب، لتجتمع القلوب، ويعلي من قابلية الاستجابة في النفس لأوامر الشرع، ويبعد عن افتتان وخوض في المتاهات، ويجعل العزة في أوجها، ويصرف البأس لعدو مشاكس، لا إلى قريب مخالف.
ثم الله ولي التوفيق والسداد في سباعية هذه النسائم، التي نسأل الله أن يفتح علينا فيها بفتوح العارفين به، وأن يبعد عنا الزلل.
{أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السٌّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1)
حين تنقبض النفس من صنوف الكبَد الكثير في الحياة، ووقت أن تنقبض الروح في أمواج المواقف والمشاهد المؤلمة المتكررة، وساعة أن يشعر المرء أنه قد ظُلم أو تعب أو أُرهق، ساعتئذٍ, تترتل هذه الآية في صالات قلبه، ويبدأ صداها يتردد في غرف الجسد كله.
صدىً ليس كترديد البشرº إذ تارة يكون متناغما مع ذاتك ومعزوفتك، وتارات كثيرة أخرى يكون كاللحن النشاز، حتى تمسي تظن أن معزوفة روحك وفكرك وعقلك وتعبك وجهدك، كأنها هي التي لم تصاغ بشكل ولحن جميل.
و تتوارد على نفسك الخطوب، وتبدأ أمواج الضيق، و تتوالى رياح الغمº من موقف قريب لك، أو خسارة في تجارة مع الله أو مع دنيا الناس، أو فقدان للأمن والأمانة، أو شعور بجرح الخيانة، أو يأس ممن حولك، أو أمل في تغيير تتمناه.
في هذه الصورة التي تُعرض كأنها فيلم مصور، له إيقاعاته، وأبطاله، وموسيقاه التصويرية الصاخبة في داخلك، هذه الصورة تجعل كل شيء عندك، لا يساوي شيئا، مطلقا. لا مال، ولا ولد، ولا زوج، ولا نفس، ولا ذات.
فيبدأ الصدى المبارك في حنايا نفس المؤمن بهدوء جميل جداً، يسري في الصدر كأن عصافير الراحة بدأت ترفرف وتغرد، وتسيل معه العيون بحبات من الندى، لا تمسي حتى تهطل مطرا مباركا، وتبدأ عيون القلب في العمى عن كل الصور، إلا صورة ربها، صورة قدرته، وعلمه، و وده، وجبروته، وعزته، ورحمته التي وسعت كل شيء، - سبحانه -.
وفي المضطر:
\" قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود.
وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة.
وقال ذو النون: \" هو الذي قطع العلائق عما دون الله.
وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس. \". (2)
إعلان الإفلاس من كل شيء، سوى الله، هو قمة الغنىº ذلك بأن الله - تعالى -الغني ذو الرحمة، لا مال ولا علم ولا جاه ولا سلطان، إعلان لإفلاس عام، في كل مؤسسات الذات، عندها يكون قمة الربح والفوز، لأنك مفلس مع \" الغني \" فأنعم به من تجرد، وأنت أغنى الأغنياء لو فقهت!
والعجز التام هو كذلك كنز، بذا قال سعيد النورسي حكمته الجميلة: (كنزي: عجزي)، وبه دل النبي - عليه الصلاة والسلام - عبد الله بن قيس قائلا: (يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟. فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله). (3) كنز في الجنة وأنت ترددها، فكيف إن كانت معانيها متحققة فيك! º معاني التعري التام من كل الحول والقوة.
وإن توفر العجز والتسليم والإفلاس، باتت الضرورة واضحة كما قال ابن عباس، وأمسى قطع العلائق من دون الله جليا كما صرح ذو النون، وأمسى المرء في صورة تامة من الاعتصام بالله وحده، ممسكا بحبله، يشده، يقبض عليه، مهما سال دم الضيق والعنت والحرج، و لا يزال العبد وقتها معتصما، تلين له الدنيا كلها.
قال وهب بن منبه: \" قرأت في الكتاب الأول إن الله - تعالى -يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماوات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بيº فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه \" (4)
إنَ اعتصم اقسم الله بعزته! أن لا يضره شيء ويجعل له مخرجا، وقمة الاعتصام يكون وقت الضرورة، ويا لها من لحظات بديعة في صلة المرء بربه وحبيبه.
قال الشاعر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق *** علي فما ينفك أن يتفرجا
ورب أخ سدت عليه وجوهه *** أصاب لها لما دعا الله مخرجا (5)
يقول الأستاذ سيد في الآية:
\"فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله، يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء، ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الإسناد ; وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص.
لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده.
وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ; وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى..
في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء.
فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه.
يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، و ينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلةº يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة.
فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين\" (6)
يا لها من عودة مباركة، غريب أمر الإنسان!، يكون في الخناق كما يقول سيد، ثم ما أن يلجأ بصدق إلى الله، حتى تتحول تلك الحلقة الضيقة المتعبة، إلى راحة وسعادة واستقرار وفرح، بمجرد الصدق وحسن اللجوء، ومن ذاق هذه الحلاوة الإيمانية يكاد يطلبها في كل وقت، للذتها وعذوبتها في وعاء القلب الصغير.
ذكر ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: \"ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل:
كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق عن طريق غير مسلوكة.
فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلت: لا خيرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب.
فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينا معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك!
فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين، فقال: عجّل.
فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفا متحيرا، وهو يقول: هيه افرغ، فأجرى الله على لساني قوله - تعالى -: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}.
فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعا.
فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما \". (7)
نقلة هذه القصة، تنقلك مع المعاني النفسية التي ذكرها سيد - رحمه الله -، والتي يستشعرها ويبتهج بها كل من اضطر ولجأ وقرب وانحنى، تنقلك من هذه المعاني إلى واقع ملموس، وفارس يأتي بجواده، وحربة في قلب لص، سبحان الله، فما عليك إلا أن تلجأ، حتى لو ضاعت منك الكلمات، ونسيت كل القرآن والتسبيح والتعظيم لله، وأرتج عقلك من كل معنى، لهول الموقف، فقط توجه له، بأي لغة كانت، وبأي كلمات مبعثرة قد لا تعيها، لكنه - سبحانه - يعلم حاجتك، فيرسل لك فارسا بحربته، وقد أقسم من قبل بعزته أن يكون معك لو اعتصمت، وتأتي الإصابة في قلب الحدث الذي ألم بك، ويرقص قلبك طربا، المهم أن تتعلق وتلح وتستجدي.
قال الشيخ الحبيب اللطيف: \" من الذي يفزع إليه المكروب، ويستغيث به المنكوب، وتصمد إليه الكائنات وتسأله المخلوقات وتلهج بذكره الألسن، وتألهه القلوب إنه الله لا إله إلا هو.
وحق علي وعليك أن ندعوه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، ونفزع إليه في الملمات، ونتوسل إليه في الكربات، وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين، حينها يأتي مدده ويصل عونه ويسرع فرجه، ويحل فتحه {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فينجي الغريق ويرد الغائب، ويعافي المبتـلى، وينصر المظلوم، ويهدي الضال، ويشفي المريض، ويفرج عن المكروب {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: من الآية65].
إذا نزلت بك النوازل وألمت بك الخطوب، فالهج بذكره، واهتف باسمه، واطلب مدده واسأله فتحه ونصره، مرغ الجبين لتقديس اسمه، لتحصل على تاج الحرية، وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة.
مد يديك
ارفع كفيك
أطلق لسانك
أكثر من طلبه
بالغ في سؤاله
ألحَّ عليه
الزم بابه
انتظر لطفه
ترقب فتحه
أُشدُ باسمه
أحسن ظنك فيه
انقطع إليه
تبتل إليه تبتيلاً حتى تسعد وتفلح \" (8)
أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السٌّوءَ..
----------
(1)النمل: 62.
(2)تفسير القرطبي.
(3)رواه البخاري ومسلم.
(4)تفسير ابن كثير
(5)تفسير القرطبي.
(6)في ظلال القرآن.
(7)تفسير ابن كثير.
(8)كتاب لا تحزن لعائض القرني.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد